الرئيسة/  مقالات وتحليلات

الرواية العنصرية.. الأخطر!

نشر بتاريخ: 2025-01-05 الساعة: 11:17

 

 حسن حميد


يظن الظانون أن اهتمام الغرب بإقامة كيانية لليهود في بلادنا الفلسطينية يعود إلى وعد بلفور 1917، أو أنه يعود إلى وعد نابليون بونابرت (1769-1821) حين احتل مصر وانتوى احتلال بلاد الشام، فارتطم بالعناد الوطني الفلسطيني في عكا، حين نادى اليهود المنتشرين في جميع أنحاء أوروبا للالتحاق بجيشه في الساحل الفلسطيني واعدا إياهم بإقامة وطنهم القومي، لا سيما أن الفرصة سانحة لهم، والحق، أن اهتمام الغرب بإقامة وطن قومي لليهود في بلادنا الفلسطينية العزيزة كان سابقا على هذين الوعدين العنصريين بحوالي مئة سنة، وقد تجلى هذا الاهتمام في ما دوّنه بعض أدباء أوروبا، وبجرأة لافتة للانتباه، وبذلك تمظهرت النيات السياسية والاقتصادية الغربية تجاه اليهود وبدت في الكتب الأدبية، من أجل الخلاص منهم في المجتمعات الأوروبية، ولكن هذه المرة ليس كراهية بهم لسوء سلوكياتهم، وعنصريتهم، وإنما من أجل التصريح بالتعاطف معهم تحت تأثير الدعوات الدينية التي نادت بجمع الكتاب المقدّس بقسميه: العهد القديم والعهد الجديد معا.

وقد كانت أبرز الروايات التي أبدت التعاطف مع اليهود في مستهل القرن التاسع عشر، هي روايات الكاتب اليهودي الإنجليزي بنيامين ديزرائيلي (1804-1881) الذي شغل منصب رئيس وزراء بريطانيا، وقد امتلأت رواياته بفكرة العودة إلى (أرض الميعاد)، والحنين إليها، وقد كانت واحدة منها هي (تانكرد: الحملة الصليبية الجديدة) منصرفة إلى الحديث عن زيارته إلى القدس، والتجوال في شوارعها، وتذكّر تاريخها القديم.

هذه الروايات الغريبة المتعاطفة مع اليهود، والباحثة لهم عن وطن قومي في فلسطين، كانت مفاجئة، وغير متوقعة، ولا متوافقة مع الذهنية الشعبية الأوروبية تجاه اليهود، لأن الروايات السابقة، في بريطانيا مثلا، وفي غيرها من البلاد الأوروبية، كانت تصور الشخصية اليهودية وهي غارقة في رثاثات الحياة، وسوء السلوك، ودونية القيم، وتصفها بأنها شخصية عنصرية، انعزالية، مؤمنة بنفسها وقدراتها فقط، ولا تحب الخير إلا لنفسها، وهي تضمر الشر للآخرين، بقولة أخرى، لقد ظهرت روايات غربيةفي مستهل القرن التاسع عشر أرادت تغيير نمطية الشخصية اليهودية بكل صفاتها الشائنة، وإيجاد نمطية يهودية جديدة مبنية على البعد الديني، وضرورة إقامة وطن قومي لليهود في (أرض الميعاد) التي يتحدثون عنها.

ولعل أخطر رواية عنصرية حذت هذا الحذو، هي رواية (دانيال ديروندا) للكاتبة الإنجليزية جورج إليوت (1918-1880) واسمها الحقيقي هو (ماري آن إيفانز) وقد تقنعت باسم ذكوري لأسباب منها علاقتها بعشيقها المتزوج الفيلسوف (جورج هنري لويس) (1817-1878) الذي عاشت معه سرا سنوات طوالا، وحين توفي هذا العشيق، عاشت حياة عشق سرية أخرى مع الناشر البريطاني ديفيد شتراوس (1821-1894)، وحين توفي هذا، تزوجت من شاب أميركي (جون والتر كروس)، يصغرها بعشرين سنة، ولم تعش معه سوى شهور لأنها توفيت.

روايتها (دانيال ديروندا) نشرتها سنة (1887) وكلها تشتمل على تعاطف كبير جدا مع الأفكار الصهيونية التي راحت تشيع في بريطانيا آنذاك، وقد حظيت هذه الرواية باهتمام كبير من قبل مروجي الفكر الصهيوني، فطبعت مرات، ونوقشت مرات، وأثارت جدلا واسعا بين النقاد، وشغلت بها السينما ثلاث مرات، وكان أحد أفلامها صامتا، كما حوّلت إلى عمل مسرحي عرض غير مرة على المسارح الإنجليزية والأوروبية.

تقوم الرواية (دانيال ديروندا) على مجموعة من العلاقات الاجتماعية ما بين الذكور والإناث من جهة، وما بين العائلات الإنجليزية من جهة أخرى، وكلها حاولت أن تخفي أصولها اليهودية، لأنّ سمعة اليهود في بريطانيا، والكثير من البلاد الأوروبية، كانت سيئة جدا، وفي كل مجالات الحياة، وبادية جداً في الآداب الأوربية، والأمثلة كثيرة جدا، وفي طالعها رواية تشارلز ديكنز (1812-1870) أوليفر تويست.

هذه الرواية لجورج إليوت (دانيال ديروندا) قلبت الصورة والنظرة تجاه الشخصية اليهودية التي تجرأت، فراحت تطالب بوطن قومي لليهود في الشرق (فلسطين) زاعمة أن فلسطين هي (أرض ميعاد) اليهود، وقد جمّلت هذه الرواية السلوكية اليهودية، ومحت كل صفات الشذوذ والطمع والاستعلاء التي لصقت بها طوال قرون سالفة.

تبنّت رواية (دانيال ديروندا) حلم اليهود بالعودة إلى أرض الميعاد من جهة، مثلما تبنت الأفكار الصهيونية من جهة أخرى، ونادت جهرا بأن على أهل السياسة الغربية أن يتبنوا مشروع إقامة الوطن القومي اليهودي في فلسطين، وأن هذا التبني هو استجابة للايمان المسيحي، والعقيدة المسيحية التي أعادت لجذورها الاعتبار والتقدير.

خطورة هذه الرواية تمثلت بأنها أشارت إلى أهم مرتكزات الكيانية الصهيونية المراد إقامتها في فلسطين، مثل: المال، والهجرة، والجيش، والمستوطنات، والدين، واللغة، فقالت لا بد من تأسيس وكالة يهودية، وشركات لشراء الأراضي وبناء المستوطنات، وبث الدعاية للترويج للهجرة إلى بلاد اللبن والعسل، والحديث عن الاضطهاد الديني في بلاد الغرب، والاعتزاز باللغة العبرية، وقد انتشرت هذه الرواية وعمّت حتى صارت حاضرة في كل بيت إنجليزي، وأنها ألغت الكثير من القوانين التي كانت تحد من نشاط اليهود في المجتمع الإنجليزي، وجعلت معاداة اليهود هي (معاداة للسامية)، وجعلت الأفكار الصهيونية تنتشر وتشيع في كل مكان، بل كانت الدافع الأهم لإقامة مؤتمر بازل عام 1897، وخطورة الرواية تتمثّل أيضا في تجاهل الحديث عن الشعب الفلسطيني وكأنه غير موجود، وهنا قمة عنصريتها وسقوطها معا.

هذه الرواية هي التي أسست لإقامة كيانية صهيونية في بلادنا، مثلما أسست لكل المجازر والمذابح التي عرفها شعبنا منذ 77 سنة وحتى يوم الناس هذا، لهذا لا بد من فضحها، والتوكيد بأنها واحدة من الروايات التي شوّهت صورة الأدب حين جعلت الكذب والظلم والزيف والعنصرية والدموية والقتل والتشريد للأبرياء.. موضوعا له.

[email protected]
 

mat
Developed by: MONGID | Software House الحقوق محفوظة مفوضية الإعلام والثقافة © 2025