الرئيسة/  مقالات وتحليلات

هاني الحسن، في ذكراه الثانية عشرة 

نشر بتاريخ: 2024-07-19 الساعة: 02:14


الكاتب: عبد الغني سلامة
عرفتُ الراحل الكبير هاني الحسن عن قرب، خاصة في السنوات العشر الأخيرة من حياته، وطالما جمعتنا جلسات مغلقة عديدة، وقد استمعت لمحاضراته، وقرأت كتبه، وكنت أظن أني أعرفه جيدا. ولكني بعد مطالعتي لكتاب الصديق الدبلوماسي حسان بلعاوي، تبين لي أني لم أرَ منه سوى قمة جبل الجليد، وأن الكثير الكثير كنت أجهله عنه. 
في كتابه الأخير «هاني الحسن، صوت الحضور الأنيق والنوْء العاصف»، يكشف حسان بلعاوي الكثير من الأسرار والخبايا، ويغوص عميقا في عوالم المرحوم الحسن، ويستعرض مسلسل حياته الطويل والحافل (وإن كان ذلك بصورة مكثفة)، ويحلل فكره ومواقفه وتصريحاته التي طالما أثارت الجدل. 
الكتاب صدر عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، في طبعته الأولى 2023، وقد أتى في نحو 400 صفحة من القطع المتوسط، شمل مقدمة بقلم عباس زكي، و36 فصلا، وخاتمة بقلم بكر أبو بكر، وصورا خاصة ونادرة للمرحوم، ووثائق وصورا من الصحف التي كانت تتلقف تصريحاته باهتمام بالغ، وقد اعتمد بلعاوي في كتابه على الوثائق الأصلية، وعلى شهادات المقربين من الراحل، متنقلا بين الفصول برشاقة، وبأسلوب مشوق، وبتحليل عميق، دون أحكام ولا مديح، بل بمنهج أكاديمي. 
في كل فصل، يغطي بلعاوي مرحلة من تاريخ القضية الفلسطينية، مركزا على حضور الحسن فيها والدور الذي أداه، فظهر وكأنّ الكتاب تلخيص لتاريخ الصراع في المنطقة، نظرا لكثافة حضور الحسن في المشهد الفلسطيني طوال نصف قرن أو أزيد.
وسيتعذر في هذا العرض الإحاطة بكل محتويات الكتاب، لذا سأكتفي بعرض موجز ومكثف لأهم ما جاء فيه، مع التأكيد على أن ذلك لا يُغني عن قراءته، بوصفه وثيقة مهمة، تؤرشف وتوثق أبرز مراحل الثورة، وأهم المفاصل التاريخية التي شكلت التاريخ المعاصر للقضية الفلسطينية.
ولد هاني في حيفا سنة 1937، وتوفي في رام الله سنة 2012، وبين هذين العامين عاش حياة كلها كفاح وعمل دؤوب، مشكّلاً علامة فارقة في مسيرة الثورة.
ولد في أسرة ميسورة ومتعلمة، لكن النكبة اقتلعت العائلة من موطنها لتستقر بداية في عين الحلوة قبل أن تتحول إلى مخيم يحمل الاسم ذاته، ثم إلى سورية، والتي درس فيها حتى الثانوية، ليرتحل بعدها إلى ألمانيا ليدرس الهندسة، ويتعرف هناك إلى صديقه هايل عبد الحميد، كان الاثنان مسكونين بحلم العودة، وقد أسس كل منهما مجموعة ثورية صغيرة تناضل من أجل فلسطين: «عرب فلسطين» التي أسسها هايل، و»شباب الأقصى» التي أسسها هاني، المتأثر بالبيئة الدينية التي نشأ فيها، ثم وحدا المجموعتين بتنظيم جديد حمل اسم «طلائع العودة»، والذي ستحتويه «فتح»، التي كانت في طور التشكل آنذاك، وذلك بتنسيق وتفاهم مع الراحل ممدوح صيدم.
كان هاني من مؤسسي حركة فتح، وظل عضوا في لجنتها المركزية حتى وفاته، وقد شغل مناصب قيادية عديدة، أبرزها المستشار السياسي للزعيم الراحل ياسر عرفات، إضافة إلى منصب المفوض العام للتعبئة والتنظيم، أما المنصب الوحيد الذي شغله في السلطة الوطنية فهو وزير الداخلية. 
كان الحسن الأكثر قربا من ياسر عرفات، الذي كلفه بأصعب المهمات وأدقها، ورغم خلافهما أكثر من مرة، إلا أن عرفات ظل يثق به بشكل كبير. وقد مكنته هذه العلاقة الوثيقة بعرفات من بناء علاقات جيدة مع الملوك والرؤساء العرب ورؤساء الدول الصديقة والقيادات الحزبية، فلم يكن مجرد رسول أو مفاوض، كان مخولا بصلاحيات اتخاذ قرارات وبناء تحالفات أو نقضها مع مختلف القوى الفاعلة في الساحة.
كان ذا وسامة لافتة، وكاريزما تعطيه حضورا وقبولا، ومتحدثا لبقا وخطيبا مفوها، وتلك الصفات ساعدته في الوصول إلى القواعد الشعبية، وجعلته مقربا من المقاتلين والكوادر التنظيمية، كما جعلته الأكثر قبولا من قبل قيادات الدول والأحزاب الصديقة والحليفة وحتى الخصوم في كافة الأمور التي تستوجب التفاوض والتفاهم مع منظمة التحرير.
كان اليسار الفلسطيني يصنفه (مع شقيقه المفكر والقيادي خالد الحسن) مع البرجوازية، بيد أن مواقفه الصلبة خاصة في الأزمات والمحن كانت تبرهن كل مرة على عمق انتمائه لفلسطين، وتجذر فتحويته. كما اعتبره آخرون بأنه يمثل «يمين فتح»، في حين كانت تكشف تطورات الأحداث صوابية توجهاته، ودقة تنبؤاته وبُعد نظره. أما تصريحاته فطالما أثارت الجدل، وألحقت به تهم التنازل والتفريط، خاصة تصريحه الشهير في لندن بشأن «الدولة الديمقراطية».. وقد تبين أن كل ما في الأمر أنه كان متقدما في وعيه وسابقا لزمانه، لكن بوصلته الوحيدة ظلت فلسطين.
في هذا الكتاب، يستعرض بلعاوي العديد من المفاصل التاريخية التي ظهر فيها «الحسن» محنكا، ومفاوضا صلبا، برؤية ثاقبة بعيدة المدى، ولكن بمعايير ومنطلقات وطنية أصيلة، تصرف خلالها بقلب الفدائي الشجاع، وعقل القائد الحريص والمسؤول والواعي. استعرضها الكاتب بتسلسل زمني تاريخي، بدءا من التحضير لتفجير الثورة، وانطلاقة «فتح» الثانية عقب هزيمة حزيران، ومشاركته في معركة الكرامة، ومساهمته في الإعداد الفكري وصياغة البرنامج الوطني والخطاب السياسي لـ»فتح»، منظّرا وكاتبا ومخاطبا للقواعد الفدائية في الأردن، ثم سورية ولبنان، وحواراته مع القيادة الأردنية إبان محنة «أيلول»، والخروج من الأردن.

 يتحدث الكاتب حسّان بلعاوي عن جانب مهم من تاريخ المنطقة، أثناء تواجد قوات الثورة في لبنان، والتي شهدت الحرب الأهلية، حيث لعب الحسن دورا مهما في تقريب وجهات النظر بين الأطراف المتنازعة، وفي محاولات تجنيب الفلسطينيين التورط في أتون الحرب، وقد ساعده في ذلك علاقته بوالد زوجته "الطبيبة ناهلة اليافي"، حيث كان والدها عبد الله اليافي رئيس وزراء سابقا وله علاقات طيبة مع مختلف الأطراف. 
ثم ينتقل الكاتب إلى دور الحسن في بناء موقف وطني فلسطيني إزاء مؤتمر جنيف عقب حرب أكتوبر 1973، والذي تطور إلى صياغة البرنامج المرحلي، وأرسى من خلاله مفاهيم سياسية وثورية جديدة ظلت قائمة طوال المراحل اللاحقة، تتعلق بأسس ومعايير التعاطي مع المبادرات والمشاريع السياسية المطروحة.
يشير الكاتب أكثر من مرة إلى أن هاني الحسن كان رجل المهمات الصعبة، يتولى المهمات الدبلوماسية والتفاوضية، ويتابع العمل العسكري والأمني على الأرض، ويقود مسار الفكر والتنظير داخل "فتح"، والحوارات الداخلية الفلسطينية.. مستعرضا بعضا منها، مثل محاولاته حل أزمة مطار عنتيبي (1976)، ودور عيدي أمين الانتهازي، ومحاولاته حل أزمة خطف السفينة "أكيلي لورو" (1985).. والأهم محاولاته الدؤوبة في ترميم العلاقات مع الأردن (بعد محنة أيلول 1970، وبعد انهيار اتفاق عمّان 1986)، وحرصه الدائم على تمتين العلاقات مع سورية مع الحفاظ على استقلالية القرار الوطني، وعلى دوره في ترسيخ علاقات جيدة مع إيران عقب انتصار الثورة الإسلامية (1979)، وشغله منصب أول سفير فلسطيني في الجمهورية الإسلامية، شارحا أسباب الخلاف معها.. ودوره في إعادة وتمتين العلاقات مع مصر بعد الخروج من طرابلس (1983) ولقاءاته مع القوى الوطنية المصرية، وكذلك حواراته مع القيادة العراقية إبان أزمة الخليج وموقفه الرافض لاحتلال الكويت (1990)، كان يفعل كل ذلك من منطلق إيمانه العميق بأنه لا مناص للفلسطينيين وثورتهم إلا بإقامة أوثق العلاقات مع محيطهم العربي، وتحديدا بلدان الطوق، مهما بلغت حدة التناقضات معها، وأنّ بناء موقف عربي متضامن هو أقوى سلاح لمواجهة إسرائيل.
كما أفرد الكاتب فصولا عن غزو إسرائيل للبنان 1982 وعن دور الحسن آنذاك، خاصة في الحوارات مع الفصائل الفلسطينية والقوى اللبنانية وبقية الأطراف المختلفة بشأن تأمين خروج مشرف للقوات الفلسطينية من بيروت.
وفي الفصل 22، يتناول الكاتب مرحلة الانشقاق عن "فتح"، ودور سورية وليبيا فيه، وعن لقاءاته مع قيادات الانشقاق ومحاولته رأب الصدع وتجنب الاقتتال الداخلي.. وفي الفصول اللاحقة يتحدث الكاتب عن دور الحسن في دورات المجلس الوطني الفلسطيني المتعاقبة، خاصة الدورة 17 وما تلاها، والتي جاءت في مرحلة بالغة الخطورة على القضية شهدت تآمرا دوليا وعربيا على منظمة التحرير ومحاولات شطبها وإيجاد بدائل عنها.
وعن جوانب أخرى في حياة الحسن، يشير الكاتب إلى دوره في محاولات شق جبهة العدو واختراق الجدار الإسرائيلي، ومحاولة فكفكة تحالفات إسرائيل الدولية والتأثير في الرأي العام العالمي إزاء الصراع، ودخوله في مفاوضات سرية مع يهود مناهضين للاحتلال، ومفاوضات أخرى مع إسرائيليين (جرت في 1986) في عواصم أوروبية.
في الفصول الأخيرة، يستعرض بلعاوي موقف الحسن من التسوية السياسية، بدءا من مؤتمر مدريد، وصولا إلى أوسلو، التي لم يرفضها مبدئيا، بل رفض العديد من تفاصيلها وبنودها، ونوه إلى الأخطاء العديدة التي وقع فيها المفاوض الفلسطيني، فكان ضد التفاوض على مراحل، وضد تأجيل القضايا الكبرى وترحيلها إلى المجهول، فدعا إلى العودة إلى الينابيع، وتمتين الجبهة الداخلية وإعادة تنظيم البيت الداخلي، وترسيخ الوحدة الوطنية وتطوير الأداء الفلسطيني لتتحول السلطة إلى نواة دولة.
يختم الكاتب بتحليل مكثف لشخصية الحسن، ومدرسته القيادية التي تجمع بين النظرية السياسية والتحليل والمعلومات في صياغة محكمة، حيث كان ينبه من خطورة الغرق في النظرية، حتى لا يتحول المناضل إلى منظّر بلا فعل، وخطورة الاكتفاء بالمعلومات، حتى لا يقتصر التحليل على وجهة نظر أحادية، وخطورة الغرق في الماضي (التاريخ) حتى لا يتحول المناضل إلى مجرد مؤرخ، وخطورة الرفض المطلق حتى لا يتحول النهج الكفاحي إلى عدمي وبلا أفق، وخطورة القبول السهل، لأن الطموح الوطني كبير جدا، ويستوجب تضحيات كبيرة جدا.. كما كان ينبه من خطورة كي الوعي الوطني، والانبهار بالعدو، أو الخوف منه، وطالما ضرب مثلا على ذلك، وهو قصة الحية والعصفور. فقد كان من أصحاب نظرية التفاؤل والإقدام والواقعية الثورية، وكان رافضا للسوداوية والسلبية، فطالما بشّر بالنصر وقدوم الدولة الفلسطينية في أشد اللحظات حلكة. وهو صاحب مقولة "العمل العسكري يزرع والعمل السياسي يحصد، ومجرم من يزرع ولا يحصد".
كان هاني الحسن من بين أكثر القيادات الفلسطينية ثقافة ومعرفة، ليس فقط لأنه من داخل المطبخ السياسي، أو بحكم خبرته الطويلة والغنية، بل لأنه كان دائم القراءة والإطلاع، وإعمال العقل بالتفكير المنطقي والتحليل الهادئ، وقد أصدر 14 كتابا في مجالات السياسية والتنظيم والفكر، إضافة إلى عشرات المحاضرات واللقاءات والمقابلات الصحافية، والتي تشكل بمجموعها إرثا فكريا وسياسيا مهما، سيضيء للأجيال القادمة وسيلهمها في استكمال مسيرة شعبنا الكفاحية، حتى نيل الحرية والاستقلال. 
ختاما، لقد أحسن حسان بلعاوي في اختياره "هاني الحسن" لإصدار كتاب خاص عنه، ليس وفاء لذكراه وحسب، بل لأن سيرة الحسن وفكره ومناقبه تستحق أكثر من التكريم، تستحق أن توثَّق وأن يُكتب عنها الكثير، لأننا سنظل بأمس الحاجة إلى مثل هذا الفكر المستنير والتقدمي والثوري، وسنظل نذكر هاني الحسن، ورفاقه الشهداء ودورهم الريادي والقيادي في مسيرة الثورة الفلسطينية.
رحمه الله، ولترقد روحه بسلام مع الصديقين والشهداء.

 

mat
Developed by: MONGID | Software House الحقوق محفوظة مفوضية الإعلام والثقافة © 2024