الرئيسة/  ثقافة

"الغرق" لحمّور زيادة .. وجه آخر للسودان حفرت فيه "الشلوخ" عميقاً!

نشر بتاريخ: 2019-01-29 الساعة: 10:18

رام الله- الايام- كعادته يفاجئنا الروائي السوداني حمّور زيادة بعمل سردي يحمل من الإبداع الكثير مع كل إصدار جديد، على مستوى الطرح والإسقاطات واللغة، منحازاً إلى السودان ونقل أجزاء من تاريخها السياسي والاجتماعي والثقافي، والتحولات التي تغيب عن الكثير من قارئي العربية في هذا البلد، عبر حكايات إنسانية بامتياز، وحيوات وجغرافيات بعضها متخيل، وبعضها واقعي، وبعضها يراوح ما بين الاثنين، وهو ما فعله تماماً في روايته الجديدة "الغرق: حكايات القهر والونس"، والصادرة حديثاً عن دار العين للنشر في القاهرة، والتي استطاعت أن تسجل لنفسها موقعاً بارزاً خلال فترة وجيزة كواحدة من اكثر الروايات مبيعاً في معرض القاهرة الدولي للكتاب.

والرواية التي تدور أحداثها ما بين ثلاثينيات وسبعينيات القرن الماضي، تسير في خطين متوازيين ما بين السياسي والاجتماعي، وهو ما يتضح جلياً منذ البداية عبر مشهد غرق فتاة مجهولة الهوية، وتبقى كذلك حتى بعد دفنها بأيام، بالتزامن مع انقلاب جعفر النميري في العام 1969.


صراعات
وفي القرية المتخيلة "حجر نارتي"، وتقع على ضفة النيل بجوار قرى غير متخلية، يكون لكل شخصية حكاياتها وحيواتها، وخاصة أفراد عائلتي "الناير" أصحاب "العمودية" المتوارثة، و"البدري" المنافسة لها، وبينهما خلاف طائفي، حيث أن "البدريّين" ينتسبون إلى "أنصار المهدي" في حين ينتمي أبناء "الناير" إلى "الطريقة الختمية"، وهي إحدى الطرق الصوفية التي تشير المراجع إلى انتسابها لمحمد عثمان الميرغني الختم، وتعود أصولهم إلى مكة المكرمة.

والخلاف لم يقف عند حد الصراع على السيادة في "حجر نارتي" بل تعدّاه إلى المواقف السياسية العامة، فأبناء "البدري" كانوا من المؤيدين للاحتلال البريطاني، في حين أن أبناء "الناير" كان يؤيدون الحكم المصري للسودان.

وشكل عدد من أبناء "الناير" و"البدري"، إضافة إلى الجارية "فايت ندّو" وابنتها "عبير" التي حملت بها سفاحاً من عبد الرازق البدري، الشخصيات الرئيسية في الرواية، والتي كان لموضوع "العبودية" جزء أساسي فيها، على الرغم من قرار الاحتلال البريطاني إنهاء هذه الظاهرة، وإن ظلّ قراراً شكلياً لم يدخل حيّز التنفيذ الفعلي، فكانت "عبير" ابنة الثالثة عشرة جسداً مشاعاً لغالبية صبية ورجال القرية من الأسرتين، ومن قبلها والدتها "فايت ندّو"، وكلتاهما بقتيا "عبدتين" لدى العمدة الشيخ محمد سعيد الناير، وكأن اضطهاد العبيد هو ما يجمع العائلتين المتناحرتين، رغم حالات النسب والصداقة بين عدد من أفرادهما.


اضطهاد مركّب
ولم يكن الاضطهاد مقتصراً على عبير ووالدتها هنا، بل إن كل صاحب سطوة مهما علت أو هبطت كان يمارس اضطهاداً ما على من دونه، كما في قصة "ديْن بهيّة"، والتي تعود إلى حكاية "العافية" والدة العمدة "الناير الكبير"، التي أجبرت ابنها على القبول بثمن أقل مما تستحقه أرض لهم للبيع لأسرة البدري، شريطة أن ينزل فيها الغجر أبداً، عند قدومهم إلى القرية كل صيف، كنوع من رد الجميل لذوي الغجرية "بهية" بعد موتها.

وتتلخص الحكاية بأن زوج "العافية" محمد الحسن، وكان عاجزاً عن الدخول بعروسه، إلى أن بدأ يمارس جنونه في ضربها بالسوط، ما دفعها لإبرام صفقة مع "بهية" لتلعب دورها في النيابة عنها، لتأخذ الأخيرة حصة "العافية" من الضرب المزدوج من العريس العاجز و"العافية" نفسها، حتى نجحت هذه الساديّة في وصول العريس إلى مبتغاه.

 

حكايات واكتشافات
ومن الحكايات التي تسطع في رواية، تلك الخاصة بالحاج بشير، شقيق العمدة، الذي يتزوج معشوقته "سكينة" البدري، رغم الخلافات الحادة والمتواصلة بين العائلتين، فبعد أن تقدم لخطبة "سكينة" المحارب السوداني "المرموق" في الجيش البريطاني "بابكر ساتي"، وتزوجها، جنّ جنون بشير، إلا درجة أنه في عزاء زوجها الضابط الوحيد في المنطقة، والذي يقتل خلال دحر الهجوم الإيطالي عن بعض مناطق النفوذ البريطاني في السودان، يتقدم لخطبتها علناً بدلاً من القيام بواجب العزاء، وتنجح مساعيه في ذلك، ليستمر الزواج سنوات طوالاً قبل أن تتوفى فجأة، فتبع رحلته معها بزواج من ابنة شقيقتها برغبة من أسرتها للحفاظ على نصيب "سكينة" من أرض أسرة البدري.

وعبر شخصية "بابكر ساتي" يقودنا حمّور زيادة إلى الحديث بشيء من التفصيل عن التراتبية العنصرية في الجيش البريطاني، حيث لا يحظى السودانيون فيه، وإن علت مراتبهم، إلا على رتب لا تصل إلى "الأميرلاي" و"الأمباشي"، وكانتا حكراً على البريطانيين فقط، كما عرّج من خلاله أيضاً، وهو المهجوس بنقل حكايات من التاريخ السوداني السياسي والاجتماعي كما في رواياتي "الكونج" و"شوق الدراويش" السابقتين، للحديث عن الصراع الإيطالي البريطاني على أجزاء بعينها من أرض السودان، دون إغفال الحديث، في مواطن أخرى، عن الحكم المصري للسودان.

 

غرق يتواصل
وتتواصل حالات الغرق على مدار الصفحات والسنوات، وكأنه هنا يتحدث عن الغرق المستمر للسودان سياسياً واجتماعياً، فعلاوة على الغرق الفعلي في مطلع الرواية، وغرق "سعاد" التي تلاحق والدتها "فاطمة أم الصبية"، أي جثمان يظهر فجأة في رحلة بحث يائسة لإيجاد جثمان "سعاد" تتواصل قرابة الثلاثة عقود، تبعاً للخرافة السائدة بأن النيل يقذف عدداً من الجثث بعد كل جثة يلفظها، ثمة غرق معنوي في أعماق الرواية يتجسد في مسيرة "عبير"، التي حرمت من اسمها الحقيقي "شهيناز" لكونه يتطابق واسم واحدة من قريبات زوجة العمدة، ومن ثم حرمت من إكمال دراستها وحلمها في أن تكون طبيبة المستقبل في القرية، وبعدها حرمت من مولودها، لينتهي بها الأمر ملتبساً عند حافة النيل، وكأنها حالة الالتباس التي لا تزال ترافق الوضع السوداني إلى يومنا هذا.

وبتقنية أشبه بتلك التي تظهر في بعض أفلام السينما، كتلخيص لمصائر لم تظهرها الرواية بكامل تفاصيلها، يسطّر حمّور زيادة خاتمة تقفز بالأحداث السياسية والاجتماعية إلى ما بعد قرابة نصف قرن من أحداث الرواية، كاشفاً عما حدث لشخصيّاتها المحورية، وللبلاد، التي لربما اكتشف أن الحديث المفصّل عنها يحتاج إلى روايات وروايات، فكانت "الغرق" رواية الكشف ليس فقط عن القهر، بل عن ليالي الأنس أو "الونس"، حيث المتعة لعلية القوم على حساب العبيد والغجر والطبقات المتدنية.

كما أنها رواية مغرقة بالمحلية دون ملل، فقد نجح زيادة في رسم ملامح الشخصيات باقتدار لم يخل من متعة، وبتفصيل يجعل من القارئ وكأنه يعايش الشخوص ويومياتهم، فتارة أشعرني بأنني أشارك في ليلة حناء عبد الحفيظ البدري بكامل طقوسها، وأغانيها الشعبية العتيقة، وتارة أخرى جعلني أعيش مأساة عبير ووالدتها، وكأنني أشاركهما القهر وإعداد الونس لممارسيه، بلغة جزلة مجدلة بمصطلحات سودانية هي ابنة الحكايات وأزمنتها وجغرافياتها، تلك الحكايات المتشعبة والمتماسكة في آن، والتي جعلتني أقفز من صفحة إلى أخرى برشاقة، لعلي أقترب من رشاقة السرد وروعته، حتى خلت نفسي وأنا أنهي الرواية بأن "الشلوخ" طالت وجهي كما وجه "السكينة".

و"الشلوخ" عادة سودانية قديمة كانت تجرى للفتاة للدخول إلى مرحلة النضج وفقاً للمعايير الاجتماعية السائدة حينها، وهي جروح ترسم في الخدود على جانبي الوجه أو على الصدغ (طولية أو عرضية)، ويعتقد بأن هذه العادة مرتبطة بتاريخ الرق القديم، إذ تعتبر "الشلوخ" بمثابة إثبات انتماء، وأساس للتمييز بين قبيلة وأخرى.


في اللاوعي
وأشار زيادة في خضم حديثه عن الرواية إلى قناعته بأن "انقلاب النميري غيّر تماماً وجه السودان، وهو ما أدى إلى ما يحدث في فيها هذه الأيام"، لافتاً إلى أن الأسماء الواردة في الرواية ومن بينها "فايت ندّو"، وتعني بالدارجة السودانية "المتفوّق على أنداده"، تندرج في إطار القهر أيضاً، فمالكو الرقيق في السودان، كما العرب قديماً، كانوا يسيرون على مبدأ "نسمّي أبناءنا لنا وعبيدنا لأعدائنا"، لذا كان اسم العبد، رجلاً كان أو امرأة، يأتي في إطار مدح سيده أو سيدها لنفسه، فأسماء العبيد شعارات لتمجيد السادة.

وأكد: الكاتب ابن مجتمعه لا شك، ويتأثر فيه ولو في حالة اللاوعي، لكن هذه الرواية جاءت بعد أن لاحظت مؤخراً أن الكتاب يبحثون عن دهشة الموضوع أو الفكرة، فكان قراري الواعي بألا ألاحق هذا التوجه، ولهذا اتجهت إلى صياغة حكايات درامية، كنت أصفها متهكماً بأنها تناسب ربّات المنازل، لكن في اللاوعي، وعند ممارسة الكتابة، كانت تظهر شخصيات حفرت عميقاً في ذاكرتنا وذاكرة السودان السياسية والتاريخية، وإن لم تكن في المخطط الأساسي للرواية، وأحياناً تلعب الصدفة دوراً في هذا كأن يتوافق تاريخ ميلاد شخصية ما في الرواية مع حدث تاريخي مهم.

وختم صاحب "الغرق" حديثه بالقول: لكوننا نعيش في مرحلة من الاضطرابات فلابد أن تنعكس على كتابنا، ولو في حالة اللاوعي، كما أسلفت، وهنا ظهرت العديد من الروايات العربية التي تقفز نحو المستقبل أو تعود إلى الماضي لتحديد جذر شجرة الغول، وهو ما يُظهر رواياتنا، وكأنها تنطبق على الواقع المعاش حالياً، لكون المجتمعات ثابتة ورتيبة لا تتغير إلا شكليّا، برأيي. 

amm
Developed by: MONGID | Software House الحقوق محفوظة مفوضية الإعلام والثقافة © 2024