"مفك" للمخرج بسام الجرباوي يقدّم صورة سينمائية مدهشة ورؤية ناضجة
نشر بتاريخ: 2018-10-04 الساعة: 07:17خالد محمود
قليلة هي الأفلام الفلسطينية التي تمزج بين العمل الفني الجميل والمبهر وبين طرحها للقضية برؤية إنسانية وسياسية واجتماعية واعية، فكثير من الأفلام وقع في فخ المباشرة والخطاب المألوف، وصرخات لم يصل رنينها للعالم، بينما يجيء فيلم «مفك» الذي عرضه مهرجان الجونة السينمائي للمخرج الفلسطيني الشاب بسام الجرباوي وأبطاله جميل خوري وعرين عمري وزياد بكري، إنتاج فلسطيني ــ أميركي، ليقدم صورة غير نمطية للأسير الفلسطيني، لكنه يتطرق بوضوح لمعاناة الأسير بعد تحريره وكيفية تأقلمه مع الحياة، في رحلة صادقة في مشاعرها وهدفها، فالموضوع هنا مختلف، فلم نشهد سوى مجرد مشهد أو اثنين من التعذيب، لكنهما لم يشكلا عصب الطرح، بل هو كيف يعيش بطلنا حياته بعد سنوات طويلة من المكوث بالسجون الإسرائيلية.
أحداث الفيلم تبدأ العام ١٩٩٢، بطلنا هو زياد الذي يعشق فريق كرة السلة في مخيم الجلزون للاجئين الفلسطينيين شمال مدينة رام الله، يحاول هو وأصدقاؤه الانتقام لما يحدث من تجاوزات من قبل المحتل، وخاصة بعد مقتل أحد أصدقائه «رمزي»، برصاصة من المستوطنات الإسرائيلية، وبينما تتردد أخبار في المذياع عن فشل زيارة وزير الخارجية الأميركي كولن باول، يشارك زياد وقد ازداد شعوره بالغضب في إطلاق الرصاص على رجل يعتقد أنه إسرائيلي، فيتم القبض عليه ويدخل السجن 15 عاماً، يخرج بعدها شخصاً مختلفاً لا يستطيع التكيف مع محيطه.
رغم الاستقبال الحار من أهل المنطقة ومعاملته كبطل من الأهل والشارع والأصدقاء الذين يحتفون به.. تنقلب حياته رأساً على عقب، فبعد خروجه من السجن وجد نفسه في مواجهة واقع يصعب عليه التكيف معه ذهنياً ونفسياً، ما يؤثر في علاقته بأمه وبسلمى بنت المخيم، التي تحاول أن تحرك قلبه، وأخته التي تشجعه على الارتباط.
ومخرجة الأفلام الوثائقية الفلسطينية الأميركية مينا، التي كانت تصنع فيلماً وثائقياً عنه تريد رصد حكايات لتوصيلها للعالم، حيث تقول: إن الهدف من فيلمها لفت أنظار العالم للتعاطف مع الشعب الفلسطيني، أما هو فيقول لها: إنها تعيش في أميركا، حيث لا يوجد احتلال، بينما قضى هو خمس عشرة سنة في السجن.
قدم المخرج في أولى تجاربه للسينما الروائية الطويلة والذي كتب السيناريو أيضاً، صورة سينمائية مدهشة، عبر سرد يخلو من الشعارات، فقط قدم انفعالات بطله وألمه، وكيف أنه يشكو من صداع مزمن واحتباس بولي وهلع من الضوء وأي سوائل تذكره بمشهد الدماء عند اغتيال صديق طفولته بمنتهى العبث على يد مستوطن، حيث ظل وجه صديقه الشهيد عالقاً في رأسه، كما أنه خرج للنور بعد أن اعتاد ظلمات السجون فأصبحت لديه هلاوسه التي تعيش معه وتعوقه عن ممارسة ومعايشة التفاصيل الحياتية اليومية بشكل طبيعي وجاءت آلامه كرمز لما شاهده وعاشه.
ويتذكر في السجن عندما تستجوبه جندية إسرائيلية تهدّده بإحضار أمه والاعتداء عليها، تخبره أن الرجل الذي أصابوه ولم يقتلوه لم يكن إسرائيلياً بل هو عربي.. ودون شك كان أداء بطلنا «زياد بكري» رائعاً وهو يواجه هذا الصراع بتجسيده شخصية تجسد كل المشاكل والمعاناة التي واجهها الأسير الفلسطيني بعد تحريره، واستطاع المخرج أيضاً تجسيد تلك المعاناة للعالم الخارجي ولنا نحن بتلك الشخصية الواحدة التي تتمرد على الطبيب النفسي الذي يعالجه ويرفض فكرة أنه مضطرب نفسياً.
الفيلم الذي يعد أول عمل يتناول حياة معتقل بعد خروجه من سجون الاحتلال يعد انحيازاً للوطن ببساطته في حكي القصة، لكن العمق يبرز بين المشاهد، فالمسألة لم تكن مجرد ظلم وإلقاء للشباب الفلسطيني في السجن جزافاً، ولكن ما مدى تأثير ذلك فيما بعد على هؤلاء الشباب.
وفى أحد مشاهد الفيلم القدرية لبطلنا تقوده المصادفة للركوب مع مستوطن إسرائيلي يكره العرب جميعاً، بل ويريد إبادتهم، بالفعل كأن المستوطن يعتقد أن زياد إسرائيلي، وهنا يتولد لدى زياد إحساس بالانتقام لسنوات عمره الضائع ولصديق طفولته الذي استشهد غدراً، ليعبر المخرج بذكاء أن القضية مستمرة بروحها، لذلك ترك نهاية الفيلم مفتوحة؛ ليترك للمشاهد الإحساس بمواصلة الحكاية، ولا نعرف إذا ما كان المستوطن سيقتل زياد المحرر الذي مازال يعيش حالة الأسر التي دمرته نفسياً أم سيقتل زياد المستوطن.. فكل السيناريوهات مفتوحة.
لكن الفيلم أشار أيضا بواقعيته إلى أن من يعيش في فلسطين كأنه يعيش في سجن كبير حتى وإن عاش خارج سجون الاحتلال.
مخرج الفيلم لديه وعي كبير بالقضية، ولديه رؤية ناضجة، أراد أن يعود للوطن بعد دراسته للسينما في كولومبيا ليقدم أفلاماً تحاكي الواقع ولا تغترب عنه ــ بحسب قوله، وقد أقبل على إنتاج «مفك» هو وزوجته الممثلة والمنتجة ياسمين القدومي، ورفض أن يصور فيلمه داخل السجون، وقال إنه واجه صعوبة كبيرة في التصوير في الأراضي المحتلة في ظل الظروف المعقدة.
وأضاف: «جلست مع عدد كبير من الأسرى المحررين، وكنت أطلب مقابلتهم خلال اليومين أو الثلاثة التالية لخروجهم من السجن حتى أتعرف إلى مشاكلهم الشخصية وأكوِّن الصورة التي أريد تقديمها.. وقد تم تصوير معظم أحداث الفيلم بمخيم الأمعري ومدينة رام الله بطاقم ــ يشكل الفلسطينيون 99 بالمائة منه ــ ودون الأهالي ما كان للفيلم أن يخرج للنور.. فتحوا لنا بيوتهم وتركوها لنا حتى نصور بكل حرية. ونحن من جانبنا حرصنا على تشغيل أكبر عدد منهم معنا بالفيلم حتى نساعدهم».
إنها حقاً تجربة مهمة للمخرج الفلسطيني الشاب بسام الجرباوي، بعد فيلمه القصير «روس جاج» الذي فاز بجائزة المهر العربي من مهرجان دبي السينمائي.
عن "الشروق" المصرية
amm