الرئيسة/  ثقافة

حكايات حول خيري منصور

نشر بتاريخ: 2018-09-25 الساعة: 08:08

رام الله- الايام- "أذكر أن شاعرنا الراحل محمود درويش قال لخيري منصور أنت كتبت آلاف المقالات على الصفحة الأولى في جريدة الدستور الأردنية، وأنا أتابعها كلها، ومع ذلك لم تكرر الفكرة مرتين، فسأله عن ذلك، فأجابه خيري بأن مصدر الأفكار في مقالاته هم الناس .. خيري مان بإمكانه اقتناء أفخم سيارة، لكنه لم يمتلك في حياته سيارة، لكونه كان يحب أن يستقل السيارات العمومية (السرفيس) ليستمع لأحاديث السائقين والركاب، فكان زاده ثروة لا تنضب من المعالجات الراقية بلغة رفيعة المستوى مبنية على حكايات البسطاء، هو الذي وصف درويش مقالاته بأنها قهوته الصباحية" .. بهذه العبارات بدأ نبيل عمرو الحديث عن شيء من حكاياته مع الكاتب والشاعر والناقد الراحل خيري منصور.

وكانت وزارة الثقافة والاتحاد العام للكتاب والأدباء الفلسطينيين ومنتدى الرسالة، نظموا بيت عزاء وحداد وتأبين لخيري منصور، قبل أيام، في رام الله، أدارها عمرو بنفسه.

وتابع عمرو سرد حكايات عن خيري منصور، فقال: التقيت ذات مرة في موسكو برسول حمزاتوف، وجنكيز آيدماتوف الذي كان يتربع على عرش الرواية العالمية، آنذاك، فسألني حمزاتوف عما إذا ليس لدينا مبدعون باستثناء محمود درويش ومعين بسيسو، فأخبرته بأن لدينا كثيرا من المبدعين وبينهم خيري منصور فأوصى بدعوته من بغداد، وحين حضر خيري إلى موسكو، وكان من مستمعي ندوته هناك كل من حمزاتوف وآيدماتوف، وكنت رتبت برفقتهما أحد أهم المترجمين من العربية للروسية كان يقيم في الاتحاد السوفييتي.. عقب انتهاء الندوة وصفه كلاهما بالمبدع المبهر، حتى إن حمزاتوف قال لي، إن شعوب الاتحاد السوفييتي والشعب الروسي يحبون الشعراء والكتاب أكثر من السياسيين، وعليكم بإيفاد منصور وغيره من المبدعين إلى عواصم العالم ليتعمق ارتباط شعوب هذه العواصم بالشعب الفلسطيني وقضيته.

ومن الحكايات التي سردها عمرو أن "الروائي المصري جمال الغيطاني قال ذات يوم، إنه يشعر بالغيرة من خيري منصور، لأنه يتحدث عن القاهرة أفضل مما أتحدث عنها أنا، مع أن الغيطاني عاشق القاهرة وتفاصيلها، نبت كروائي من أحيائها وحواريها، هذا ما قاله لي، فأكدت له أن الأمر ذاته ينطبق على عمّان وعلى بغداد وفق تعبير العديد من المبدعين في الأردن والعراق، وهذا التماهي مع العواصم التي عاش فيها خيري منصور ساهمت ليس فقط في انتشار إبداعاته، بل في نشر قضيتنا وثقافتنا ونقلها إلى العالم العربي بأرقى الصور، ليس كلاجئ فلسطيني بل كواحد منهم".

وأشار عمرو إلى أن خيري منصور كان يمتلك لغة مميزة، ومصطلحات تخصه دون غيره، منها على سبيل المثال ما أعجب محمد حسنين هيكل، حين قال له خيري، "أنت عابر الطبقات والسياسات"، حيث كان يخترع مصطلحات لا يأتي بها سواه، وهو ما حصل في وصفه لمحمود درويش، وجمعتهما صداقة مميزة، كما كان يتمتع بقدرة كبيرة على استشراف المستقبل لأنه كان منغمساً بشكل كبير في الحاضر، ويعرف جيداً أن ما سيأتي سيكون أصعب، وهو الذي نجح في وضع الجذر الثقافي في عمق الوعي الفلسطيني، متحرراً من الترويج السياسي، ولم يكن من السهل عليه مقاومة "أوسلو" مع أننا أصدقاءه جميعنا كنا من سدنتها والمدافعين عنها والمراهنين عليها، وكانت له رؤية بأن للسياسيين ظروفهم ومبرراتهم، وهنا أتذكر أن درويش كان يتمنى نجاح "أوسلو"، ولكنه يرفضها من منطلق ثقافي .. كان خيري كما محمود يتمنيان كياناً ودولة فلسطينية، لكنهما في الثقافة لم يهادنا، وزاوج كل منهما بين الجذر الثقافي العميق في الأرض، وبين الاهتمام بفرصة سنحت للشعب الفلسطيني لعلها تحقق لهم حق تقرير المصير والدولة .. "انهار كل شيء، وفي السياسة يحدث ذلك، وكان للمثقف الفلسطيني موقف أكثر صوابية من السياسيين، لأنهم أكثر عمقاً في تحليل الأشياء وفهمها".

صداقة طويلة
وربطت الطيب عبد الرحيم، أمين عام الرئاسة الفلسطينية، وخيري منصور علاقة صداقة قوية وطويلة، خاصة حين كان عبد الرحيم سفيراً لفلسطين في المملكة الأردنية الهاشمية .. وقال: تعرفت إليه في منزل مالك صحيفة الدستور الأردنية، عرفني باسمه، وأخبرته بأنني أقرأ له، وأن لكتاباته وقعا في القلب وفي العقل .. كنت أحرص على قراءة كل مقال له، خاصة أنه كان يمزج الأدب بالفلسفة بالسياسة بغيرها .. كنت أقرأه في ساعات الليل، وإذا لم يسعفني الوقت كنت أعيد قراءته في اليوم التالي، وكان يطلب مني رأيي فيما يكتب، وأحياناً أفعل وكثيراً أخجل من ذلك، لأنني قلت له ذات يوم بأنك تكتب أحياناً "كلاما أكبر من مستواي" يصعب عليّ فهمه، وبعد فترة تفاجأت بمقالات له في صحف غير "الدستور" فأبلغته بأن لا قدرة لي على متابعة كافة مقالاته في مختلف المنابر الإعلامية.

وغاص عبد الرحيم في الذكريات، ليسرد: حرص ذات يوم أن يزورني في منزلي ليلاً، وكنا نتحدث في السياسة، ونقلت له ما قاله لي ذات يوم الرئيس اليوغسلافي العام 1988 بأن العالم معوّم، وأن تعويمه سيستمر حتى العام 1995، حيث تظهر جبال وتغور وديان، وتغييرات جيوبوليتيكة ستعم العالم، ستطال بداية دول المنظومة الاشتراكية، وهذه البلاد أي يوغوسلافيا ستشهد مجازر لم يشهدها أحد من قبل، أرجوكم يا أحبائي الفلسطينيين أن تأخذوا القرار في الوقت المناسب، وإلا يكون مثلكم كمثل الديك الذي يصيح في غير موعده، فإن جاء متقدماً قالوا مزعجاً، وإن جاء متأخراً قالوا مريضاً، وفي كلتا الحالتين يذبح، وحينها انبهر خيري منصور بهذا الكلام الذي "فيه بعد رؤية"، وطلب مني إذناً بأن يكتب مضمونه في صياغة غير مباشرة.

وأشار عبد الرحيم أنه تحدث مع عدد من الصحافيين الفلسطينيين والعرب عن الخطوط العريضة لـ"أوسلو"، وحين أخبرت خيري عنه، أشار بأنه سيكون من الرافضين لها، مع أنني أشرت له بأن الاتفاق يضعنا على أرض فلسطين، ويتضمن عودة الكثيرين، ويشتمل بأن الشعب الفلسطيني هو الأساس، ولكنه لم يغير رأيه، وبحزم، لكني طلبت منه ألا يقولها صراحة، ووافق على ذلك، وكتب مقالات عديدة يمكن من يفهم خلفية موقفه معرفة أبعاد كل كلمة يقولها، ورغم اختلاف الرأي الذي لم يفسد للود قضية تواصلت صداقتنا .. "الحقيقة كان واسع الصدر، وفلسطينياً حتى النخاع، وعربياً قومياً، لكنه كان يرتدي النظارة السوداء وهو يتحدث عن الأمة العربية، وكان يرفض طلبي بالتفاؤل بما يمكن أن تفعله الجماهير، وكان مصرّاً على أن الأوضاع ستزداد سوءاً، وذكرني بما نقلته عن الرئيس اليوغسلافي بأن جبالاً ستظهر ووديانا ستغور، وأننا نعيش في الوديان التي تغور، لكنه كان على قناعة رغم ذلك بدوره الفاعل والمؤثر بالحفاظ على المعنويات المرتفعة للقراء".

ووصفه الطيب عبد الرحيم بالمهذب، وقال: لم يكن خيري منصور شتّاماً ولا لعّاناً ولا واشياً ولا مرتشياً أيضاً .. جمعتني بخيري مناسبات عديدة، ولو لم يكن جزءاً منها، فذات يوم كنت أخرّج دفعة من طلبة جامعة بيرزيت بحضور محمود درويش، فوصفته في كلمتي، أي محمود، برمزنا الثقافي، فلم يعجبه الوصف وأشار الى أن هناك الكثير من الرموز الثقافية الفلسطينية، وحين قالها لي لم يخطر على بالي إلا عز الدين المناصرة وخيري منصور، فكل يبدع بقلمه وفي مجاله، ويبرز الشخصية الوطنية الفلسطينية ليس بمعناها الإقليمي، ويحرص عليها، وبالفعل الرموز الثقافية الفلسطينية لا يمكن عدها أو حصرها.

وختم عبد الرحيم حديث الذكريات بحديث إلى صديقه، قائلاً: أخي خيري .. المناسبات الكثيرة التي جمعتنا تذكرتها، ومرّ شريط حياتك من أمامي عندما سمعت نبأ وفاتك، وبكيت عندما علمت أن الذين شاركوا في جنازتك لا يتعدون العشرة أفراد وأنت تدفن تحت التراب .. كنت أريد أن أذهب إلى دير الغصون كي أعزي، وارى ملامحه في ملامح أهله، لكن ظروفي الصحية لم تساعدني .. خيري لك مني كل الحب وكل الوفاء، ولروحك الطاهرة ألف ألف تحية.


خيري الصحافي
بدوره، تحدث أحمد عبد الرحمن عن خيري منصور كـ"صحافي تعايشت معه، وتابعت كتاباته"، واصفاً إياه بـ"الجبهة الصامدة في وجه الانحطاط العربي، والخنوع، وتمزق الشخصية العربية"، وهو "من علمنا الكلام الآخر بعيداً عن الحديث الاستهلاكي، ما كان يدفعني لأمسك بالقلم حين أقرأ له عن فقه الخرافات، وحلاق الفضاء الجديد، وغيرها من المواضيع، فكان من طينة عميد الأدب العربي طه حسين، وواحداً من أولئك الجيل من كتاب النهضة، فحين قرأ له محمود الشريف نقل مقاله من الصفحة الأخيرة في جريدة الدستور، وهي الثانية من حيث الأهمية، إلى الصفحة الأولى، فهو "مصفّح في كتاباته ضد اليومي، وضد العابر والسطحي، حيث يكتب مقاله كأنه يؤسس لوعي جديد، فهو توأم محمود درويش في الثقافة".

خيري يافعاً 
وتحدث صايل منصور، ابن شقيق المبدع الراحل، ويصغره بأربع سنوات فقط عن ذكريات الطفولة التي جمعته وخيري منصور في دير الغصون وغيرها من الجغرافيات، فتذكر: عشنا معه أيام الطفولة .. طفولة الأسرة الممتدة تجمع الأعمام العشرة مع العمّات والجدة والأبناء .. كان هو الطفل المتمرد بيننا، وزاد تمرده ما بعد النكبة، فهو من ساهم في تنمية الحس الوطني لدينا، والحنين الدائم والشغف بالعودة للبيت داخل الخط الأخضر، وللأرض التي سلبت، وقبور الأجداد هناك.

وأضاف: كان بإمكان خيري منصور بما تبقى من بيوت في دير الغصون، وأراض، أن يركن لها، لكن بقيت عيناه هناك نحو وطنه السليب، فعمقه ليس خاصاً بأسرته أو به .. هو من عائلة قدمت الشهيد تلو الشهيد، ومرارة الحسرة على شقيقه الشهيد نشأت قمر البقاع، أو وهو ينظر إلى المتوسط من مرتفع جبلي في دير الغصون، أو حين كان يقودنا نحو الخط الأخضر، ويقول، "هنا بيتنا على بعد أمتار، وهذه زيتونتنا"، أو حين قسمت قطعة أرض بسبب ما يعرف بخط الهدنة إلى قسمين أحدهما في الغرب أو ما بات يعرف بالداخل الفلسطيني والآخر في الغرب أو ما بات يعرف باسم الضفة الغربية، أو على شجرة زيتون اقتلعت من نصفها، فروعها هنا وجذورها هناك .. كل ذلك عايشه خيري منصور فبات ذلك الشاب المتمرد على واقع عربي مؤلم، هو الذي منبته في "بير السكة"، وهي إحدى تجمعات خرب دير الغصون التي باتت داخل الخط الأخضر عقب النكبة.

رسالة وفاء
وشدد وزير الثقافة د. إيهاب بسيسو على أن تأبين قامة كبيرة كخيري منصور يشكل رسالة وفاء لمن قدم لفلسطين إبداعاً لا ينضب .. وقال في كلمته خلال حفل التأبين: حتى بعد رحيل الجسد ستبقى الكلمات التي خطها خيري في مقالاته وأشعاره تواصل حضورها بين الأجيال المتعاقبة، فهو ينتمي إلى جيل حمل اسم فلسطين عالياً، وناضل بقلمه ومواقفه الثقافية والوطنية كي تبقى فلسطين حاضرة على خريطة الإبداع العربي.

وأضاف بسيسو: خيري منصور وغيره من القامات الإبداعية يشار إليها كجزء من تعريف فلسطين والهوية والأرض، فاسم خيري منصور ومكانته من اسم فلسطين ومكانتها التاريخية والوطنية والثقافية، وبالتالي فمكانته الذاتية جزء أصيل من مكانة فلسطين على خريطة الإبداع العربي، لذا نرى خيري منصور على امتداد الخريطة العربية، وبصماته الثقافية في العديد من الدول والعواصم، لأنه آمن بأن الإبداع أحد أهم الممرات الآمنة نحو المستقبل، فكان وفياً لإبداع ولوطنه بالكلمة وبالموقف.

وأكد بسيسو: علينا أن نرمم هذه الخسارات برحيل القامات الإبداعية كخيري منصور، بالعمل على جسر الهوة بجيل جديد يحمل راية الإبداع ويكمل المسيرة، وكما أن الثقافة في فلسطين لا تنضب لأنها جزء أصيل نتنفسه كما الهواء، فإن إبداعات الأجيال الجديدة في فلسطين تبشر بأن خيري منصور الفكرة والرؤية، ينتقل من حيز المكان وحيز الزمن إلى حيز الفكرة التي لا يمكن لها أن تفنى.

نشر إبداعاته
وفي كلمته، شدد نافذ الرفاعي، الأمين العام للاتحاد العام للكتاب والأدباء الفلسطينيين، على أن الاتحاد شرع بالتنسيق مع العديد من الفعاليات الثقافية الرسمية والأهلية لجمع ونشر إبداعات خيري منصور، وتنظيم فعاليات لتعميمها، وعلى رأسها وزارة الثقافة.

وقال: فور سماع نبأ رحيل منصور، قررنا في الاتحاد أن نعيد كتاباته إلى الواجهة في سلسلة أنشطة ثقافية وندوات يعقدها اتحاد الكتاب مع كافة المؤسسات الثقافية، وخاصة وزارة الثقافة الفلسطينية.

وأضاف: لم ألتق به لكني قرأت له الكثير، وهو يحظى بشعبية كبيرة ليس على المستوى المحلي بل على المستوى العربي، حيث هاتفني رئيس اتحاد الكتاب العرب حبيب الصائغ، والعديد من رؤساء اتحادات الكتاب العربية، معزين فلسطين وكتابها برحيل قامة كبيرة لشاعر وأديب وصحافي يعرفه العرب لربما أكثر من الفلسطينيين، كما يعرفه جيل من الفلسطينيين ممن صنعوا أسس ولبنات الثقافة الوطنية، لافتاً الى أن خيري منصور يستعيد حضوره مجدداً رغم رحيله من خلال ما تركه من مؤلفات وكتابات ومقالات ودواوينه الشعرية.

مهدان
وتحدث أصيل خيري منصور عن والده بالقول، "إن خانك جسدك بموت مفاجئ فلن تخوننا روحك التي تتجدد حين نقرأ أية كلمة كتبتها .. سنقهر حزننا على رحيلك، فرحيلك كما رحيل شقيقك نشأت قمر البقاع (يقصد الشهيد نشأت منصور)، عودة كما قلت لنا ذات شتاء، والقبر كما وصفت قبر نشأت ليس سوى مهد .. نم جميلاً في مهدك يا صبيّ الأسرار، فهو على مرمى همسة من مهد نشأت، واضحك ملء الكون حين تحبو في المساء لتعانقه وتغنيان فأنتم الأحياء، وأنتم العائدون، ولو مراثي للنائمين الجميلين".

وأضاف: سنقهر حزننا لأننا لن نحتكرك أباً وزوجاً وأخاً وجداً وعمّاً وخالاً وصديقاً، كما لم يستطع أن يحتكرك وطن ولا عاصمة ولا حتى فكر، فأنت من لم يعترف يوماً بحدود، وكنت أكبر من كل الأدوار، ولن نحتكر العزاء، لأننا وإن عظم مصابنا، نعلم أن شمساً قد غابت عن وطن وأمة، ثقافة ولغة، قصيدة وحلم ... نحن من نعزيكم جميعاً، كل من عرف خيري منصور، وأحبه، وقرأ له .. نم قرير العين في مهدك يا خيري، فالمهد ليس سوى بداية جديدة، وأنت سيد البدايات، نم ملء جفنيك ولا تجزع من الموت، فالموت ليس لمن مثلك، وإن كنت منذ أيام جسداً واريناه الثرى، فأنت الآن فكرة، والأفكار خالدة لا تموت.
 

amm
Developed by: MONGID | Software House الحقوق محفوظة مفوضية الإعلام والثقافة © 2024