الرئيسة/  مقالات وتحليلات

أعرفك.. وتعرفني!

نشر بتاريخ: 2024-09-30 الساعة: 00:55

 

- حسن حميد


اقتنعت، أم لم تقتنع!

أنت تعرفني، وأنا أعرفك،

أنت رتبت على نفسك كل الفواتير الثقيلة.

انحنت رقبتك الغليظة، هذا مؤكد، ومتوقع، ووهنت رجلاك، واشتكت ركبتاك، وضاق النفس عليك وبك، وما عادت عيناك تريان كما يليق بالرؤيا الواضحة، وسمعك ما عاد يلتقط إلا ما تريد أن تسمعه، وتأخرت أن تصدق كل ما جاء في الألياذة، والعوذيسا، والكوميديا الإلهية، وتجاهلت حماقات زيوس، وبوسيدون، وهيلانة، وآغاممنون، وأدرت ظهرك لكل سطر من السطور  الأربعين ألفا من كتاب جلجامش ورفيقه أنكيدو، ولم تشأ أن تمر، ولو مرور البرق، بكتاب الموت للفراعنة، ولا حتى الالتفات لسير (الأعمام الكبار) أوديسيوس، وأخيل، وفيكتور، وهرقل، وشمشون، والاسكندر، وجنكيز خان، وتيمورلنك، والنمرود، وريتشارد قلب الأسد، وتشرشل، وهتلر، وقتلة الهنود الحمر، ولم تهتم بما كان يفعله الطاعون في القرى حين يجعلها بيوتا وحيدة مثل مقابر وحيدة، ولم تتجاسر أن تقرأ شيئا عن الغابات وما يحدث فيها، أي كيف يولد الضعيف، والنبيل، ورقيق الجلد، وصغير الحجم.. في مربع الحذر، فينام ويصحو، يمشي ويقف، يأكل ويشرب، يظن ويخمن، يذهب ويعود، وهو طي الحذر، ولم تقف عند المعاني التي خلفتها الحروب والحرائق واللعنات، وقولات الأمهات: جازيهم يا رب، لم تقف عند الخواتيم، أتعرف لماذا؟ لقد أسكرتك نشوة انتصار القوة، فشيدت أسوارا من الجماجم حول بيتك، كدت أقول، حول قلعتك، وأيدتها بالصحو والحراس والحراب والأضواء والكاميرات. أعرف بأن الوقت، وقد كان طويلا، لم يتح لك أن تسأل، أو تقرأ، أو تراجع، أو تواجه شمعة بذبالة واحدة راحت تحترق بهدوء شديد كي تنير.

وأعرف أنك كنت مشغولا بإعداد الخطط كي تتكاثر المقابر! كنت تريد أن تراني وقومي جميعا في المقابر، لأمر كله دهشة، وهو أن تمر بمقابرنا كي تلعننا جميعا أيضا، صغارا، وكبارا، رجالا ونساء.

وأعرف أحلامك، بأن تصير ملوكية الدم وراثة في ثقافتك، وأن يصير ملوك الدم سلالة، وأن يقول الآخرون عنك بأنك كنت قويا وعنيدا تعصر قمصان دم أهلي في كاسات من زجاج نظيف وتتجرعها على مهل وبتأمل يتلوه كلام وثناء.

وأعرف أنك قدست القتل، ولم تعشه فقط، وفرحت بمشهد جريان الدم أكثر من فرحك وأنت ترى شجرة لوز مزهرة، وأنك عددت القتل بطولة، وفروسية، ونبالة حضور، وشرفا تاريخيا، وأنك ظننت بأن عماد البناء ولبابته القوة، أي رمي الضعاف في أساسات البناء، والضعاف، في عرفك، هم كل الذين حرمتهم من أن تصير لديهم عصا يدافعون بها عن حياتهم.

وأنت تعرفني، تعرفني جيدا، وكل ما تعرفه عني يؤرقك، ويدعوك إلى أن تطلب المزيد من العتاد، والأسلحة والرصاص، أنت تعرف كتبي، وقراءاتي، ودروبي، والقناطر التي بنيتها وهي من حجارة عظيمة، حذقتها أيدي أهلي.. عمال المقالع وهم يتصببون عرقا، وتعرف قراي، وعتبات البيوت التي بدت حين بدت أجمات الزنابق، وتعرف حقول قمحي، وما فيها من غلال وجداول، وما أحاط بها من أشجار السدر والعليق، وتعرف أنهاري التي عمقتها مترا مترا، وما أحاط بها من أشجار الخروب والسنديان والدلب، وتعرف غدران أرضي وما جاورها من أشجار البلوط والبطم والغار، وتعرف رجوم حجارتي التي رفعتها حجرا حجرا ليبدو التراب الزعفران الذي أنبت السمسم، وعباد الشمس، والورد، والكلخ، والباذنجان، وكيف نثرت سكك محاريث أرضي الألوان، وكيف رفعتها، على الكفوف، نحو السماء زلالي وسجاجيد من النعمة المشتهاة.

أنت تعرف كيف آخت البيوت، بيوتي، الدوالي، وكيف مشى شجر الصفصاف من الغابات كي يحرس حواكيري، وتعرف كتاب الدحنون، وما فيه، وما يقوله، وما يخبر عنه من تواريخ وحادثات، وكيف صار لونه حمرة من كثرة ما سفكت من دم أهلي، وتعرف أيضا مغارات أرضي، وما أخفته، وأغلقت عليه بالمفاتيح من الكنوز والأسرار، حين جعلتها خزائن الغلال وكتاب الصبر والمجهولية؛ وتعرفني كيف شققت الدروب حتى صارت القرى والحقول حبات خرز ملون لقلائد لم تعرفها عين باصرة من قبل.

بلى، اقتنعت أم لم تقتنع، أنا أعرفك، أنت تعرفني، أعرفك غريبا، رجوتني كي أعلمك اللغة، وكي أعلمك الأسماء، وكي أبيعك مترين في مغارة لتكون قبرا لأحد من أهلك، ولم آخذ دينارا واحدا لأن كرامة الموت لا تسمح لي، وتعرف كيف رجوتني وتذللت لي كي تكون جاري في الطرف البعيد من البيدر، ولكنك، حين صار الشاعوب بين يديك، هببت لتقتلني، ولم تستطع! أتعرف لماذا؟!

لأن القرى، وإن دمرت أو سرقت، أو هجرت لا تموت، ولأن التاريخ، وإن طويت صفحاته وامحت أحباره لا يموت،  ولأن الروح البانية لا تموت أيضا.

اقتنعت، أم لم تقتنع،

القوة الظالمة لا تبني القرى، ولا تزرع الحقول، ولا تشق الدروب، وإن بنت أو زرعت أو شقت.. فكل هذا إلى زوال، أين هي قلاع الاسكندر، وأين هي قلاع تيمورلنك، وأين هي قلاع الفرنجة، وأين هي الدروب والكتب والنظريات التي قرأها هتلر يوميا على الناس.

اقتنعت، أم لم تقتنع،

أنت زائل لأنك قوة ظالمة،

وأنا باق لأنني قوة الحقل والقرية والكتاب..

[email protected]

mat
Developed by: MONGID | Software House الحقوق محفوظة مفوضية الإعلام والثقافة © 2024