التطهير العرقي في غزة - الحرب على الهوية
نشر بتاريخ: 2024-01-27 الساعة: 04:24
الكاتب: د. منى ابو حمدية*
ان بداية العبث في تاريخ فلسطين قد بدأ من الايديولوجية التي اخذت تسوق لفلسطين على انها " ارض بلا شعب .. لشعب بلا ارض " ومن ثم تلاها وعد بلفور واستكمال تهويد فلسطين وشطب الهوية الفلسطينية والقضاء على الشواهد التاريخية والحضارة العربية بكل مكنوناتها التراثية والثقافية لصالح مزاعم المؤسسة الصهيونية المستندة على ثلاثية الاساطير المزيفة وهي :
" ارض الميعاد " و " شعب الله المختار " و "الحق التاريخي لليهود في القدس وفلسطين " .
منذ النكبة عام 1948م لم تتوقف المؤسسة الصهيونية عن مساعيها بالهجوم الرامي الى تهويد و عبرنة المكان والزمان ، وذلك بممارسة اجراءات مجحفة بحق الفلسطينيين ، من اقتراف المجازر الجماعية وتشريد اهل الهوية والحق والوجود، وبهذا اغتصبوا الجغرافيا وباشروا بمسح التاريخ لكي يقيمون دولة للكيان الصهيوني عام 1948م ، فالقادة الصهاينة الاوائل يدركون ان استمرارية دولتهم تعتمد على الإلغاء الشامل للهوية العربية الفلسطينية واستبدالها برواية وهوية وسيادة صهيونية .
تلك الدولة المزيفة تدرك انها اخترعت على أنقاض وطن وشعب جذوره ضاربة عميقاً في الارض والتاريخ والتراث ، ولذلك وجب شطب تلك الحقائق لتسود الهوية الصهيونية العبرانية بدلاً من الفلسطينية العربية ، كل ما حدث وما يحدث الان في غزة من ارتكاب للجرائم و ابادة جماعية لشعب اعزل هو استكمال لسياستهم الاولى منذ نكبة عام 1948م والمعروفة "بالتطهير العرقي" والذي بموجبه يتم القضاء على العرق الفلسطيني بتطهير غزة من مواطنيها الفلسطينيين وتشريدهم من بيوتهم نحو مصر.
يذكر المؤرخ الاسرائيلي ايلان بابيه في مقدمة كتابه التطهير العرقي في فلسطين بأن :
"الحرب الفلسطينية - الإسرائيلية سنة1948م هي في نظر الإسرائيليين "حرب الاستقلال" بينما بالنسبة إلى الفلسطينيين ستظل إلى الأبد "النكبة" فبالإضافة إلى نشوء دولة إسرائيل أدت الحرب إلى واحد من أكبر التهجيرات القسرية في التاريخ الحديث إذ طرد نحو مليون نسمة من بيوتهم بقوة السلاح، وارتكبت مجازر بحق المدنيين ودمرت مئات من القرى الفلسطينية عمدا ، ومع أن الحقيقة بشأن الطرد الجماعي الهائل شُوِهَت وجرى طمسها بصورة منهجية فإنه لو كان حدث في القرن الحادي والعشرين لكان سمي تطهيرا عرقيا "
وتعقيباً على ذلك فإن ما يحدث في قطاع غزة من تدمير للجغرافيا بكل محتوياتها و تهجير قسري للبشرية وابادة جماعية بحق الفلسطينيين يرمي الى القول بأنها عملية تطهير عرقي ممنهجة ، تقوم على قاعدة إلغاء الاخر وشطبه .
ومن جانب اخر وفيما يتعلق بالحرب على الهوية والتراث الثقافي الفلسطيني كما يبدو جلياً من هجوم واستهداف مكثف للشواهد التاريخية ذات السيادة الكنعانية العربية في غزة ، وبالرجوع الى سياسة "التهويد والعبرنة" للمواقع التي تم تطهيرها عرقيا من الفلسطينيين ، تلك السياسة التي انتهجتها المؤسسة الصهيونية ليأتي كل ذلك في سياق استكمال بناء الوطن القومي اليهودي للامة اليهودية ، وهذا ما يؤكده الباحث عبد الرحيم الشيخ في سياق التسميات الصهيونية للمواقع العربية فيقول :
"ما قامت به الحركة الصهيونية، وما واصلت إسرائيل القيام به من تجريد المكان من سمته العربية بطرد أصحاب البلد الأصليين من الفلسطينيين، وتغيير أسماء القرى والمدن العربية بإطلاق الأسماء العبرية عليها، وملئها باليهود الصهيونيين، وذلك في إطار فكرة إعادة بعث الوطن القومي اليهودي والأمة اليهودية في آن واحد" .
ان السياسة الصهيونية لا تقف على التدمير والتهجير واقصاء الآخر وطفس هوية شعب بأكمله ، بل الى مأسسة وطن يهودي بابتكار رابط عرقي تاريخي زائف لليهود في فلسطين ، وعمدت الحركة الصهيونية جاهدة لاختلاق تاريخ كاذب و رواية مزيفة لتضمن بقائهم الابدي على الارض .
تبدو مساعي الحرب الصهيونية على الهوية في غزة واضحة ، وعلى مرأى العالم من قبل حكومة اليمين الصهيوني المتطرف برئاسة "نتنياهو" من تجويع و تشريد وابادة جماعية لشعب اعزل و تدمير للشواهد التاريخية التي تؤكد احقية الشعب الفلسطيني بملكية الارض وسيادته عليها.
ولعل ابرز التصريحات التي صدرت عن تلك الحكومة عبر وسائل الاعلام الاسرائيلية في هذه الحرب هو تصريح وزير التراث الصهيوني "عميحاي الياهو" بإلقاء قنبلة ذرية على قطاع غزة ، الامر الذي يؤكد دموية هذه الحكومة واصرارها على مسح الوجود الفلسطيني وطمس هويته ، ولم يكتفي هذا الوزير بهذا التصريح فحسب بل تبعته تصريحات مماثلة لاحقاً ، فقد دعا مؤخرا لإيجاد طرق اكثر ايلاما من الموت للفلسطينيين.
وبالرجوع الى سياسة نتنياهو تجاه الحرب على الهوية الفلسطينية وسرقة التراث العربي الفلسطيني وتهويده ، بل وإلصاقه بالشعب اليهودي علينا التعمق في خطاب نتنياهو في مؤتمر هرتسيليا للأمن القومي العاشر (31/1 – 3 /2/2010 م( عندما تحدث قائلاً : "اليوم لن أتحدث عن فك الارتباط، وإنما عن الارتباط بتراثنا وبالصهيونية وبماضينا وعن مستقبلنا هنا في أرض أجدادنا التي هي أرض أبنائنا وأحفادنا ، وإذا أردنا أن نتحدث عن شيء أكثر أساسية فإنني سأتحدث عن ثقافة قيم الهوية والتراث، ثقافة معرفة جذور شعبنا، ثقافة تعميق ارتباطنا الواحد مع الآخر في هذا المكان، حيث لدينا حوالي 30 ألف معلم تاريخي يهودي يجب أن نحييها من جديد، فإن شعبا لا يتذكر ماضيه يبقى حاضره ومستقبله ضبابيا".
ان تداعيات هذا الخطاب تشير الى اجهاز نتنياهو بحرب مفتوحة على الارض والتراث والتاريخ لاختراع رواية صهيونية مزيفة تمحو كل ما هو عربي فلسطيني .
اما نتنياهو في حكومة 2022م وبعد أقل من 24 ساعة على إعلان "بنيامين نتنياهو" تمكنه من تشكيل حكومته السادسة بالشراكة مع تيار الصهيونية الدينية صاحب التوجهات الفاشية و الحردييين، بدأت تتكشف ملامح الاتفاقيات الائتلافية التي تشكلت الحكومة الجديدة على أساسها، وتشمل إجراءات لتعزيز سيطرة الاحتلال الإسرائيلي على الضفة الغربية المحتلة وتنفيذ حكم الإعدام بحق الفلسطينيين من منفذي العمليات ضد قوات الاحتلال ومستوطنيه ، فأخذ بالتعهد امام سموتريتش " بالمزيد من ضم و مصادرة أراضي الفلسطينيين في الضفة الغربية، و كذلك تطبيق قانون إعدام الفلسطينيين"
وبالتصعيد الاخير لحكومة نتنياهو بعد 7 اكتوبر في غزة يأتي هذا التصعيد اليميني المتطرف مؤكدا الحرب على الهوية ليخدم اجندة يمينية متطرفة ، ويركز على الاطاحة بالوجود الفلسطيني وشطب للسيادة العربية الفلسطينية لتقوم السيادة الصهيونية المزيفة على أنقاض شعب كامل ، وهذا كله ضمن سلسلة انتهاكات وتجاوزات للمواثيق والقوانين الدولية .
*دكتوراة تاريخ ، تراث وآثار
mat