الفلسطينيون والعدالة الضائعة
نشر بتاريخ: 2023-12-12 الساعة: 15:05
سنية الحسيني
في معركة غير متعادلة، صعب أن نطلق عليها صفة حرب، لأن الأخيرة تكون بين قوتين متعادلتين، وليس ذلك هو الحال في العدوان الذي يشنه جيش الاحتلال اليوم ضد حركات المقاومة في غزة، يستمر العدوان على شعب أعزل بصمت عالمي، يكتفي بالمتابعة والتصريحات الجوفاء والقرارات الفارغة. أكثر من ١٨ ألف شهيد، و٨ آلاف مفقود، و٥٠ ألف جريح لا يجدون العلاج، تهدم غزة على رؤوس المدنيين، في استهداف مباشر للمستشفيات والمدارس والبنى التحتية الأساسية اللازمة لاستمرار الحياة في القطاع. وخارج نطاق التصريحات، لم يتخذ أي إجراء حقيقي، لا من قبل دولة أو تحالف أو مؤسسة دولية يرغم إسرائيل على وقف هذه المجزرة، أو حتى يضمن وصول الحاجات الأساسية لاستمرار الحياة الإنسانية، الأمر الذي يعكس خللاً خطيراً في المنظومة الدولية الحالية، وتواطؤاً دولياً لتصفية القضية الفلسطينية. هذا التواطؤ وهذا الخلل ليسا جديدَين، فلا يمكن الاختلاف حول طبيعة المعادلة السياسية الموجودة في فلسطين، فهي تقوم بين قوة قائمة بالاحتلال وشعب محتل، وبقيت ثابتة ومستمرة دون أي مبادرة دولية حقيقية لحل المعضلة الفلسطينية، لتسجل بذلك أطول تجربة احتلال في التاريخ الحديث، «الاحتلال المستدام». تشكل العديد من لجان التحقيق، وصدرت الكثير من التوصيات للجمعية العامة وقرارات مجلس الأمن، وذهب العديد من الشكاوى للمحاكم الدولية، وجميعها تعكس حقاً بائناً وظلماً صارخاً، ومجتمعاً دولياً متواطئاً في تصفية القضية الفلسطينية.
من الصعب أن يعوّل الفلسطينيون على الأمم المتحدة، فرغم أنها حملت تطوراً عن العصبة التي جاءت بالانتداب البريطاني على فلسطين، وأقرّت بإعلان بلفور، إلا أن الأمم المتحدة بدأت عهدها مع القضية الفلسطينية بتوصية غير ملزمة صادرة عن الجمعية العامة، تقسم أرض فلسطين بين الفلسطينيين والمهاجرين اليهود الذين لجؤوا للبلاد، لتصبح بعد ذلك تلك التوصية أساساً لترسيخ وضع هؤلاء، والاعتراف بدولتهم التي جاءت عبر المجازر والقتل والإرهاب بحق سكان فلسطين الأصليين. كما أن الأمم المتحدة التي أصدرت قراراً ملزماً صادراً عن مجلس الأمن في وقت يتعرض فيه الأمن والسلم الدوليَّان للخطر، بعد الاحتلال الإسرائيلي لباقي أرض فلسطين، وأراضي دول عربية أخرى في العام ١٩٦٧، لم تبادر لتنفيذه عبر تفعيل الفصل السابع. أكثر من أربعة عقود من الاحتلال للأراضي الفلسطينية وأراض عربية، ويحول الفيتو الأميركي لصالح إسرائيل والدعم الغربي دون محاسبة إسرائيل من قبل هذه المنظمة الدولية المسيسة خارج اعتبار القانون.
ارتكبت جرائم عديدة بحق الفلسطينيين بعد توقيع اتفاق أوسلو، بدءاً من الانتفاضة الثانية مطلع الألفية الجديدة، ومروراً بالهجمات المتكررة على قطاع غزة، والعنف المنظم ضد المدنيين في الضفة الغربية، ولم تحاسب إسرائيل على ذلك ولو مرة واحدة، فهذه الجرائم التي يواصل الاحتلال ارتكابها تأتي بتشجيع من الولايات المتحدة والعالم الغربي الحاكم. في أعقاب الهجوم غير المسبوق على غزة، تشكل فريق من مئات المحامين والهيئات الحقوقية من مختلف أنحاء العالم بقيادة المحامي الفرنسي الشهير جيل دوفير، وقدموا دعوى قضائية للمدعي العام للجنائية الدولية، الشهر الماضي، تطالب بفتح تحقيق في ما يرتكبه جيش الاحتلال بقطاع غزة منذ السابع من تشرين الأول الماضي. إلا أن تلك العدالة تصطدم بالمنظومة الغربية بقيادة الولايات المتحدة.
جاءت زيارة كريم خان، المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية، في أعقاب لقائه مع أسر المحتجزين الإسرائيليين في لاهاي، الذين وجهوا له دعوه لزيارة إسرائيل. قام خان بزيارة عائلات المحتجزين الإسرائيليين، وأكد اختصاص المحكمة في أحداث ٧ أكتوبر، وأكد في بيان مكتوب «أن تلك الهجمات ضد المدنيين الإسرائيليين الأبرياء تمثل بعضاً من أخطر الجرائم الدولية التي تهز ضمير الإنسانية، وسيعمل على محاسبة المسؤولين عن تلك الجرائم»، معرباً عن التزامه بإجراء تحقيق، رغم أن إسرائيل ليست عضواً بالمحكمة ولا تعترف بسلطتها وترفض التعاون معها، وتعارض وجود أي سلطات لها داخل حدودها. إلا أنه يمكن للمحكمة التحقيق مع مواطني الدول من غير الأعضاء في ظروف معينة، مثل الحالات المتعلقة باتهامات تتعلق بارتكاب جرائم في أراضي الدول الأعضاء، خصوصاً أن الأراضي الفلسطينية مدرجة ضمن أعضاء المحكمة الجنائية الدولية منذ العام ٢٠١٥.
وأكد خان أن تفويض مكتبه يشمل هجوم «حماس» على إسرائيل، وأي جرائم ارتكبت في إطار الرد الإسرائيلي، بما في ذلك قصف قطاع غزة. لم يتطرق خان للجرائم التي حددتها المدعية السابقة للمحكمة فاتو بنسودا، والتي ارتكبت في حروب سابقة. وطلب خان الدخول إلى غزة، لكنه لم يدخل بسبب رفض إسرائيل، لكنه أعرب عن قلقه إزاء العدد الكبير من الضحايا المدنيين في غزة، مشدداً على ضرورة الالتزام بقوانين الحرب، وداعياً إسرائيل إلى احترام القانون الدولي في غزة.
في مطلع شباط من العام ٢٠٢١، رأت الدائرة التمهيدية الأولى بـ»المحكمة الجنائية» أن المحكمة تملك اختصاصاً في الحالة الفلسطينية والتي تشمل غزة والضفة الغربية بما في ذلك القدس الشرقية، وفي الشهر التالي أعلنت بنسودا فتح تحقيق في حرب غزة العام ٢٠١٤ وما بعدها، وسياسة الاستيطان الإسرائيلي في الضفة الغربية، معتبرة أن هناك أساساً معقولاً لأن تكون الأراضي الفلسطينية قد شهدت جرائم حرب. إلا أن خان الذي حلّ محل بنسودا كمدع عام للمحكمة بعد ذلك بثلاثة أشهر فقط، الذي أكد أنه منذ ولايته في حزيران من العام ٢٠٢١ قد شكّل فريقاً متخصصاً لتعزيز التحقيق فيما يتعلق بالوضع في دولة فلسطين، إلا أن ذلك لم يقرن في الحقيقة بأي تطور على الأرض.
رغم أن المسؤوليات المنوطة بمدعي عام المحكمة الجنائية الدولية تشمل النظر في جرائم محتملة والتحقيق بشأنها، وإصدار مذكرات توقيف، ومحاكمة المتهمين، إلا أنها محكمة مسيّسة، إذ يمكن لمجلس الأمن تأجيل أو تجميد التحقيق أو أي تحرك للمحكمة لأجلٍ محدد يمكن تمديده، كما لا توجد ضمانات تلزم مكتب المدعي العام بالانتقال إلى مرحلة التحقيق والملاحقة بعد الانتهاء من الدراسة الأولية. ولم تنجح المحكمة حتى الآن في استكمال تحقيق واحد ضد الولايات المتحدة أو إسرائيل. فتجنّب المدعي العام السابق للمحكمة أوكامبو الخوض في قضايا ضد الولايات المتحدة في العراق أو أفغانستان خلال فترة ولايته، وواجهت المدعية العامة للمحكمة بنسودا وفريق عملها، خلال فترة ولايتها، عقوبات مالية وحظر سفر من قبل الولايات المتحدة؛ لتحرّكها ضد الولايات المتحدة لجرائم اقترفتها في أفغانستان والعراق. ويختص عملها بالتركيز على الدول الضعيفة، خصوصاً الأفريقية، فيمثل حالياً أمام المحكمة ستة وأربعون شخصاً في قضايا متعلقة بتسعة سياقات جميعها في أفريقيا، كما صدرت مذكرة توقيف في حق رئيس السودان السابق عمر البشير. كما تركز هذه المحكمة عملها ضمن سياق من خارج المنظومة الغربية. فرغم أن أوكرانيا ليست عضواً في المحكمة، إلا أنه بعد الغزو الروسي لأوكرانيا في شباط العام الماضي، وطلب ٣٩ دولة من المحكمة فتح تحقيق في الجرائم المرتكبة داخل أوكرانيا، بدعم من الولايات المتحدة، غير العضو أيضاً في المحكمة، لم يتطلب إصدار المحكمة مذكرة اعتقال بحق الرئيس الروسي فلاديمير بوتين سوى أسبوعين. في المقابل، تقدمت أكثر من مرة، وأكثر من دولة للمحكمة بطلبات للتحقيق في جرائم ارتكبتها إسرائيل بحق الفلسطينيين خلال السنوات الأخيرة، وبعد انضمام فلسطين للمحكمة، والتي يوثقها العديد من مراكز ومؤسسات حقوق الإنسان المحلية والدولية ولجان تحقيق أممية، إلا أن المحكمة لم توجه أي إدانة أو اتهام لإسرائيل، رغم كل تلك الجرائم.
إن ذلك لا يعني استثناء العمل الدبلوماسي والسياسي والقانوني من أدوات العمل الفلسطيني، ولكن على الفلسطينيين عدم الاعتماد على هذه الأدوات، والتركيز على أدوات العمل الأخرى، والتي تحتاج كأولوية الاتحاد لمواجهة منظومة دولية متكاملة، لا تأبه بمصيرهم.