المنهاج الفلسطيني والاشتراطات الأوروبية
نشر بتاريخ: 2023-06-27 الساعة: 05:16
عبد الغني سلامة
في أيار الماضي أصدر البرلمان الأوروبي قراراً يدين السلطة الفلسطينية بزعم استمرارها في التحريض على العنف والكراهية في المنهاج المدرسي، وهي إدانة تتكرر في كل اجتماع سنوي للبرلمان الأوروبي (بضغط من اللوبي الصهيوني)، لكن هذه المرة جاءت صياغة القرار حاسمة بشكل غير مسبوق، حيث ربطت صراحة بين التحريض في الكتب المدرسية وزيادة الهجمات المسلحة ضد الاحتلال، خاصة من قبل الطلبة. وقد صوت البرلمان بأغلبية كبيرة على قرار وقف المساعدات الأوروبية للسلطة، ما لم تغيّر مناهجها الدراسية، وتوقف ما وصفته بمعاداة السامية.
وفي حقيقة الأمر، ليست الدول المانحة (وإسرائيل) وحدها من يضغط على وزارة التربية لتغيير المنهاج؛ فهنالك جهات عديدة أُخرى، وهي جهات متضاربة ومتناقضة فيما بينها، ولكل منها دوافعها ومبرراتها. هناك التيار الديني التقليدي الذي يريد تكريس البعد الديني في المنهاج، وتضمينه كافة العناصر الدينية بما يتوافق مع أيديولوجيات الإسلام السياسي. يقابله التيار المدني أو العلماني أو الليبرالي الذي يريد تنقية المنهاج من الرموز والعناصر الدينية، وجعله منهاجاً مدنياً حداثياً. ويطالب بتصويب ما يعتبره نظرة سلبية ودونية للمرأة، وبعض المفاهيم الاجتماعية الأخرى.
ولدينا التيار الوطني الذي يريد تقديم الرواية الفلسطينية التاريخية، وتعبئة المناهج بالرموز والدلالات الوطنية والثورية، والتحريض على المقاومة.. وأيضاً النخب الأكاديمية المتخصصة والتي تتباين وجهات نظرها بشأن محتوى ومضمون المنهاج وطريقة إصلاحه، والحدود التي يمكن الوصول إليها، وهؤلاء ينقسمون بين دعاة إصلاح وتطوير، وبين دعاة الثورة على المنهاج كلياً، واستبداله بالتعلم التحرري.
أما الأهالي والمجتمع المحلي، فهؤلاء يميلون بشكل عام إلى إبقاء الوضع على ما هو عليه، فهم غير راغبين، أو متخوفين من أي إصلاحات في المنهاج، قد يعتبرونها تتعارض مع الموروث الثقافي والديني والاجتماعي، ولكن لديهم اعتراضات على صعوبة محتوى المنهاج، وكثرة الكتب.
والسؤال: في أي اتجاه نريد تطوير المناهج؟ فهذه خطوة شجاعة تتطلب إحداث تغيير مجتمعي، وإقناع الرأي العام بصوابية هذا التغيير. وهناك اعتقاد سائد بأن التيار الوظيفي المسيطر على المنهاج داخل وزارة التربية، والذي يضع القيود على أي خطوة تغيير، ينتمي إلى التيارَين الاجتماعي المحافظ، والديني المتشدد. والتحدي هو في كيفية التوفيق والمواءمة بين هذه الاتجاهات، وإعداد منهاج عصري حداثي ينسجم مع الرواية الفلسطينية، ويلبي الطموح الوطني، ويلغي كافة أشكال التمييز القائمة على أساس النوع الاجتماعي، ويعلي من مكانة المرأة، وينتصر للقضايا الإنسانية والقيم الأخلاقية والحضارية ومبادئ التسامح والتعايش، ويعزز قيم المواطَنة والانتماء، ويربي النشء على مفاهيم الحرية والعدالة ويسلحهم بمهارات التفكير الناقد، وبالمعرفة والعلم، مع ضرورة تنقيته من كل التفسيرات المغلوطة للدين، والتي قد تؤدي إلى تكريس العنصرية والعصبية أو الدعوة للعنف والتطرف.
وقبل أن نحسم أمرنا بأي اتجاه نريده في إصلاح المنهاج، يتوجب تحديد الهدف الرئيس من التعليم؛ لأنه سيحدد نمط وأسلوب التعليم ومحتوى المنهاج.
عموماً، يمكن تقسيم أهداف التعليم إلى ثلاثة أهداف رئيسة:
خلق مواطن صالح، فخور بوطنه وأمته ودينه، ومنتمٍ لبلده، يتحلى بالأخلاق الحميدة، وملتزم بالنظام والقانون ويحترم مؤسسات الدولة ويبجل رموزها وقادتها.
تأهيل الطالب للالتحاق في الجامعة، وللمنافسة ودخول سوق العمل، وهذا يتطلب حشو دماغ الطالب بأكبر قدر من المعلومات، وخضوعه لنظام التقييم والامتحانات، ما يجعله في حالة ذعر وقلق دائمَين، الأمر الذي ينمي فيه نزعة الانضباط والامتثال للنظام.
أو يهدف التعليم إلى إنتاج إنسان حر، مرهف الحس، منسجم مع نفسه وواثق بها، يمتلك مهارات التفكير الناقد، متذوق للفن والجمال، متمرد على الواقع، ورافض للظلم، مؤمن بقدراته على إحداث التغيير، يسعى دوماً لتحسين واقعه المحلي والعالمي. وهذا الهدف تفتقر إليه أغلب نظم التعليم في العالم.
وهذه الأهداف الثلاثة لا تنسجم مع بعضها تماماً، بل أحياناً تتعارض، لأن آليات تحقيقها متناقضة، وإذا جُمعت معاً بطريقة ارتجالية سينمو الطالب في ظل حالة من التجاذب والتنازع فيما بينها، وسينشأ صراع داخلي في نفسه بين ما يتلقاه في حصة الدين، وما يتلقاه في حصة العلوم على سبيل المثال. وعلى الأرجح، أغلبية الطلبة تتأثر بالهدف الأول، ما يعني أن النظام ينجح في إنتاج جيل مشابه للأجيال السابقة، يحمل الأفكار والقيم ذاتها، بل ويحارب أي نزعة للتجديد والتحديث.
وفي الواقع، يلتقي الهدفان الأول والثاني ويكملان بعضهما، وهما الهدفان اللذان تريدهما النظم السياسية والمؤسسة الدينية والقوى التقليدية المحافظة، وحتى يتحقق ذلك، يطالب النظام التربوي المعلم والطلبة بإتباع مجموعة من الأساليب المحددة سلفاً، والتقيد بها حرفياً، مثل التقيد بالكتاب، والتسليم بأن كل ما ورد فيه يمثل الحقيقة الوحيدة، والخضوع للامتحان، وإتمام المنهج وعدم الخروج عنه، والالتزام بالدوام، والتقيد بقرارات الوزارة.. وهذا ما يطلق عليه التعليم البنكي، المرتكز بشكل كبير على السمع والحفظ والتلقين.
أما الهدف الثالث فلا يمكن تحقيقه إلا من خلال "التعلم التحرري"، أي رفض النمط التعليمي الجامد والمتخلف السائد حالياً، وهو النمط التعليمي الذي يسعى لتحرير العقل من القيم السلبية، وفكفكة الموروث السائد بالتفكير النقدي، ومن خلال الحوار والتشارك واحترام إنسانية الطلبة، واحترام عقولهم، ووجهات نظرهم، وبالتالي بناء قدراتهم القيادية، وتعزيز روح التسامح واحترام وجهات النظر المختلفة، وتعزيز الفضول والرغبة في التعلم والاستكشاف وطرح الأسئلة بجرأة.
يمكن لنا تحقيق الأهداف الثلاثة معاً، أو بمعنى أدق، تحقيق الجوانب الإيجابية لكل هدف، بطريقة مدروسة، ووفقاً لتقسيم الفئات العمرية، بحيث نراعي متطلبات كل مرحلة؛ فنزرع في الطالب القيم الوطنية والأخلاقية، وفي الوقت ذاته ننمي عنده روح الشك والتساؤل والتفكير النقدي ونشجعه على طرح الأسئلة، وعدم التسليم بالبديهيات. وإتباع المنهج النقدي المؤمن بالنسبية، وتعويده على التفكير الحر بدلاً من التقيّد بحرفية النص والتسليم الغيبي.
نعلمه احترام القانون والنظام، ونعزز عنده روح التمرد على الواقع السلبي. نعلمه حب الوطن، ولكن بعقلية منفتحة على الإنسانية. نعلمه حب واحترام دينه، ولكن نعلمه أيضاً احترام الأديان الأخرى. نعلمه قيم المواطنة، ونعرفه على حقوقه وواجباته، ونعمق عنده حب الحرية. نعلمه الثقة بالنفس، وحرية التعبير، مع احترام الآخر المختلف.
ومن دون تطوير وتحديث المنهاج، وتغيير طريقة التدريس والتقويم، ومن دون تأهيل المعلم وتدريبه على هذه المهمة، لن نحقق النجاح المنشود، وستظل الأمور على ما هي عليه، إن لم تشهد مزيداً من التراجع.