الرئيسة/  مقالات وتحليلات

نزار قباني..ألفة اللغة وبساطة الحب

نشر بتاريخ: 2023-06-12 الساعة: 08:55


غسان زقطان

مرت قبل أسابيع مئوية نزار قباني، أحد أكثر الشعراء العرب انتشاراً في القرن العشرين وما تلاه، يصعب الحديث عن غياب شاعر ما زال حاضراً بقوة في ذاكرة وراهن أجيال من الشباب العربي، الشاعر الذي يتواصل حضوره عبر وسائط متعددة؛ طبعات كتبه التي تنفد وتتجدد كل موسم، قصائده المحمولة على أصوات أكثر الفنانين العرب شهرة منذ مطالع سبعينيات القرن الماضي وحتى الآن، الاقتباسات التي تغطي مساحات مواقع التواصل، الاقتباسات الحقيقية وتلك المنتحلة التي اتكأت على حضوره، جدل النقاد والشعراء الذي لم يهدأ حول هذا الشاعر الدمشقي، حضور غطى في أحيان كثيرة على مآسيه الشخصية، التي لا شك، تركت أثراً في روحه وشعره، منذ انتحار شقيقته إلى موت ابنه مروراً بمقتل زوجته.  
مبكراً قرأت نزار قباني، كان يهدأ في أحد رفوف مكتبة والدي، الرفوف المنخفضة التي في متناول اليد، خاصة لطفل متسلل قصير القامة مثلي، أظن أنه كان يحضر تلك النسخ المدللة من لبنان في رحلاته الغامضة المتكررة، في الأمسيات المتأخرة حين تمتلئ غرفته المستقلة عن بقية البيت بالأصدقاء والنشطاء السياسيين ودخان التبغ والقهوة، كان بالإمكان سماع صوته وهو يقرأ بتمهل لضيوفه قصائد مختارة من تلك المجموعات التي استمر وصولها، مثل كنز يتراكم مع كل كتاب جديد يصل من بيروت، أستطيع أن أتذكر بقوة تأثير مجموعة "الرسم بالكلمات"، التي حفظت عن ظهر قلب معظم قصائدها، أظن أنها صدرت في العام 1966.
منذ "قالت لي السمراء"/ 1945، بدا أثر قباني وظهرت خطوط هوية شاعر مختلف، رغم رومانسية المجموعة، وهي رومانسية رافقت عدة مجموعات لاحقة.
اللغة هذه كانت إضافة قباني إلى المشهد، لغة في متناول اليد ومتداولة وقادرة على مخاطبة الناس في الشارع وفي الأسواق.
لم يذهب إلى أسئلة الشكل التي كانت تعصف مثل حركة تمرد على القصيدة التقليدية، قاد تمرداً عفوياً على القاموس في ممر خاص به، كتب قصائد عمودية بلغة يومية تقترب من الصحافة، في مواضيعه كان امتداداً لنزعة الإحياء وفي لغته كان "حداثياً" بالمقارنة مع القاموس الشعري السائد في تلك السنوات.
في الشكل كان حذراً ومتمهلاً، إيقاعات عالية وموسيقى خارجية وقافية متقاربة، حتى عندما انعطف نحو قصيدة التفعيلة أخذ معه لغته وإيقاعاته والصور البسيطة في تشبيهات لا تبتعد كثيراً عن المعنى وتواصل طوافها حوله يحميها الإيقاع وتسيّجها القافية، مواد قصيدته كانت تأتي من المكان، مواد مأمونة مع استطرادات طويلة، وصور تتكرر بصيغ مختلفة مثل إعادة تركيب للصورة نفسها بالمكونات نفسها ولكن من زوايا مختلفة وبألوان تتجدد.
هذه قدرة لشاعر موهوب من دون شك، لعل ولعه بالرسم والموسيقى كان يحرك كل هذه الإيقاعات والتنقل بين الضوء والظل.
لا أظن أن شاعراً عبر عشريَّتي الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي نجا من أثر ما لقصيدة نزار، ولا أظن أن شاعراً عربياً معاصراً استطاع الوصول إلى القارئ العربي كما وصل نزار.
وهو حضور ما زال قائماً وحيوياً ومحمولاً على روافع كثيرة، سهولة الحصول على شعره وسهولة التواصل معه، طاقة التبسيط التي تخاطب الحياة وعدم الترفع على العاطفة البسيطة للحب، ترديد هواجس الناس ونقلها إلى الشعر. لم يكن عميقاً ومركباً ولا أظن أنه كان يسعى إلى ذلك.  
أما الجدل الذي لم يهدأ حول المرأة في شعر نزار واستحضار عمر بن أبي ربيعة، على سبيل المثال، والمتاهة المنصوبة بين الغزل ونقد المجتمع الشرقي، فهو جزء من سيرة غنية ونوع من رغبة التلقي في إسقاط أبعاد شخصية واستنباط نظريات على حساب النص.
إضافة نزار قباني كانت "اللغة" وتمرده على المعجم، كسر جهامة القاموس وعبوسه وجديته المتكلفة، واستبدال كل هذا بالتربيت على مشاعر الناس في الطريق، لقد مهد الطريق لشعر يومي حيث مشى شعراء كثيرون بعده، بعد أن أخذوا منه شيئاً، في طرقهم الخاصة ولم يكن هذا سهلاً على الإطلاق.

* جزء من هذه المداخلة ظهر في ملف في مئوية الشاعر.

mat
Developed by: MONGID | Software House الحقوق محفوظة مفوضية الإعلام والثقافة © 2024