الرئيسة/  مقالات وتحليلات

اسرائيل : غزو الجبل والأطراف للساحل

نشر بتاريخ: 2023-03-02 الساعة: 14:02

بقلم:د. وليد سالم


انطلاقا من دراسات الجبل المحافظ مقابل السهل المنفتح، كانت هنالك ابحاث تتعلق بذلك فيما يتعلق بالجبل الفلسطيني ضد البحر كتبها سليم تماري وسواه . تنقل هذه المقالة الموجزة هذا النقاش إلى حالة إسرائيل ، وتحاجج أننا نشهد اليوم تعزز الجبل الاستيطاني الاستعماري الإسرائيلي في القدس والضفة بالتحالف مع الأطراف الشمالية والجنوبية للدولة قبل عام ١٩٤٨ في مواجهة الساحل الاستيطاني الاستعماري القديم ، وذلك انطلاقا مما يمثله التحالف الجديد من حالة بعث أو ولادة للمشروع الصهيوني من جديد بعد أن فقد مشروعه الساحلي القديم زخمه في توسيع المشروع الصهيوني، ويسعى التحالف الجديد إلى تغيير طبيعة الدولة ونقل مركزها من الساحل الى الاطراف والقدس والجبل ومواصلة تعزيز المشروع التهويدي لفلسطين ، وهو سعي قد يصطدم مجددا بذات العقبات التي حالت دون النجاح الكامل للمشروع التهويدي السابق الساحلي القيادة، مع وجود خطط لتجاوز العقبات السابقة عبرت عنها خطة " الحسم " لسموتريتش . هذا في الوقت الذي يبذل فيه الساحل اقصى جهوده للحفاظ على قيادته وامتيازاته في معركة ربما تكون الاخيرة عبر المظاهرات والاحتجاجات التي ينأى عنها بل ويدينها مستعمرو القدس والضفة وأطراف الدولة الشمالية والجنوبية المساندون لنقل مراكز الدولة إليهم .

حسب سلمان أبو ستة يقطن ٨٩ بالمئة من سكان دولة إسرائيل اليهود بحدود عام ١٩٤٨ في مساحة ٢٤٥٨ كيلومترا مربعا ، أي ما لا يزيد عن ١٢ بالمئة من مساحة فلسطين في تلك الحدود . وتتركز غالبية هؤلاء في المدن الساحلية المنفتحة على العالم ، العصرية الغنية والمرفهة والعاملة في قطاعات اقتصادية متقدمة مثل الهاي تيك ، وهي مدن مثل تل أبيب وحيفا ، ويضاف لها وجود يهودي كثيف في القدس الغربية المدينة الشاذة عن هذا السياق باتسامها بالتدين والمحافظة بعد الهجرة المتزايدة للنخب الاشكنازية العلمانية من المدينة نحو مدن الساحل ، هذا فيما يتقلص الوجود اليهودي في أطراف الدولة الشمالية والجنوبية،والتي فيها تسود - إضافة للقدس الغربية - النزعة الدينية المحافظة المرتبطة بالفقر وأوضاع ادنى في السلم الاجتماعي .

من جهة اخرى لا زال الشعب الفلسطيني يمثل الوجود الأبرز في النقب والجليل والمثلث، بل والغالبية في الأخيرتين ، علما أن الاولى ( أي النقب ) يمثل مساحة تزيد عن ١٢ ألف كيلومتر مربع حسبما اورد غازي فلاح ، فيما لا يقطن فيه سوى أعداد قليلة من البشر. تشير هذه المعطيات إلى فشل القيادة الصهيونية الاشكنازية العمالية التي أسست الدولة والآيلة للسقوط في تهويد فلسطين ، وبدون التقليل من إنجازاتها حيث هدمت مئات القرى الفلسطينية واقتلعت مئات الآلاف من اللاجئين الفلسطينيين في عامي ١٩٤٨ و ١٩٦٧ ، وغيرت الإقليم والفضاء والمشهد في بعض أنحاء فلسطين ، إلا أن الجليل والنقب والمثلث لا زالت عربية فلسطينية ، وكذلك لا زالت معالم فلسطين باقية في الناصرة المدينة العربية وعكا ويافا وحيفا وغيرها مما يسمى بالمدن المختلطة .

حاولت الصهيونية بقيادتها الاشكنازية العمالية الهروب من هذا الفشل إلى الأمام وذلك عبر توسيع الكيان ليشمل كل أراضي فلسطين التاريخية ، وتم ذلك من خلال شن حرب ١٩٦٧ العدوانية والتي أصبحت بعدها تسيطر على كل فلسطين إضافة للجولان السوري المحتل الذي لا زال في قبضتها بعد أن انسحبت من سيناء عام ١٩٨٢. هنا تمت السيطرة على الجبل الفلسطيني ، وباشرت الاستيطان الاستعماري فيه تعويضا عن الفشل في توسيعه في أطراف الدولة التي قامت عام ١٩٤٨. ولكن كعب أخيل الذي قد يتسبب في النهاية التامة للهيمنة الاشكنازية العمالية الساحلية المرفهة ، قد تمثل في هذه " الخطيئة" بمد الاستيطان الاستعماري الى الجبل ، فقد ترتب عن هذا التوسع تحالف مستعمري الجبل مع سكان أطراف دولة ١٩٤٨ والقدس اليهود ضد الهيمنة الاشكنازية العمالية الساحلية .

حتى عام ١٩٧٧ كانت النخبة الحاكمة الاشكنازية العمالية الساحلية تسيطر على مقاليد الأمور بزعامة حزب العمل ، وقد ظنت هذه النخبة أنه يمكنها إقامة مشروع استيطاني استعماري تحت رادار الضبط ، بحيث يقوم فقط في المناطق التي تريد ضمها إلى إسرائيل في القدس الشرقية والغور والسفوح الشرقية من الضفة المحاذية لإسرائيل وفق خطة يغئال الون آنذاك ، ولكن مجرد إنشاء المشروع الاستيطاني الاستعماري قد مثل البداية التي حفرت فيها هذه النخبة الاشكنازية الساحلية القبر لنفسها، فقد أدت ديناميكيات نمو المشروع الاستيطاني الى انقلاب السحر على الساحر ، وخرج المشروع الاستيطاني الاستعماري عن الضبط ، وبدأ يتوسع نحو إنشاء مدن استيطانية استعمارية وليس مجرد مواقع استيطانية استعمارية صغيرة هنا وهناك في ريف الضفة ، ومثل الانقلاب الليكودي عام ١٩٧٧ تعزيزا لهذا التوجه ، حيث أن الليكود والأحزاب المتحالفة معه كانت تمثل غالبية يهود القدس الغربية والأطراف في فلسطين المحتلة عام ١٩٤٨، والمستوطنين في الضفة ( وغزة سابقا حتى تفكيك المستعمرات فيها عام ٢٠٠٥) ، وكذلك تمثل الاشكنازية الأخرى ذات التوجه الجابوتنسكي التي رأت منذ فجر الصهيونية أنه لا بديل عن إقامة " الوطن القومي " الذي نص عليه تصريح بلفور عام ١٩١٧ على كل أرض فلسطين التاريخية وليس على جزء منها وحسب.

أدى هذا التحول في حينه إلى اثارة الذعر في أوساط النخبة الاشكنازية الساحلية التي صارت تتحدث في ثمانينيات القرن الماضي عن أن المستوطنين سينشقون عن الدولة وسيخوضون حربا أهلية مع الجيش الإسرائيلي يسفر عنها نشوء " مملكة يهودا والسامرة "، وعبرت عن ذلك آنذاك كتابات صحفيين بارزين مثل زئيف شيف ، وأكاديميون مرموقون مثل يعقوب تالمون الذي وجه رسالة لرئيس الوزراء الليكودي مناحيم بيغن عام ١٩٨٩ يحذر فيها بأن البلد في خطر ومن حرب أهلية بين الأخوة .

لم يكن ذعر النخبة الاشكنازية الساحلية الا رعب الخائفين على مصالحهم وامتيازاتهم ، ومن أن ينتقل مركز توزيع الثروة من ساحلها البحري الجميل الى جبال الضفة حيث يقيم المستوطنون المستعمرون ، والى الأطراف ومنها بئر السبع التي طرح نتنياهو لاحقا تحويلها إلى عاصمة تكنولوجية لدولة إسرائيل .وعلى العكس من إمكانية انشقاق دولة يهودا والسامرة عن الدولة فقد قام المستوطنون بتكثيف تمثيلهم في أحزاب سياسية داخل الدولة بحيث باتوا يمثلون القوة المقررة الحاسمة في الكنيست والحكومة ، وهو الأمر الذي تحقق لهم في انتخابات الأول من تشرين ثاني ٢٠٢٢. في البداية طرحت حركة غوش ايمونيم بعد عام ١٩٦٧ فكرة " استمالة القلوب والعقول " داخل إسرائيل لصالح المستوطنين، واليوم تم الوصول الى مرحلة بات فيها المستوطنون هم المتحكمون بمفاصل الدولة ، لا بل الى وضع أصبح فيه مستوطنو الضفة والقدس يغزون الدولة من أجل صهينتها وتعزيز طابعها اليهودي وذلك من خلال إقامة النويات التوراتية في اللد والرملة ويافا ، من أجل محو ما تبقى من طابع عربي فلسطيني في هذه المدن .

يعني هذا التطور أن المستوطنين في الضفة والقدس باتوا يأخذون على عاتقهم استكمال المشروع الصهيوني التهويدي في كل فلسطين سواء المحتلة عام ١٩٤٨ او عام ١٩٦٧، وذلك ضمن تقسيم عمل يتولى فيه بن غفير وحزبه مسؤولية استكمال تهويد النقب والجليل والقدس الشرقية ، فيما يتولى سموتريتش ( وكلاهما مستوطنان في مستعمرات الضفة ) استكمال تهويد الضفة الفلسطينية ، والمشاريع بهذا الشأن باتت واضحة بعد أقل من شهرين من تولي الحكومة الإسرائيلية الحالي لمهامها . بهذا الفهم يمثل هؤلاء استمرارا لبن غوريون وقادة الصهيونية الاوائل الذين لم يكن لديهم استعداد لأية ذرة من الرأفة بالفلسطينيين ، بعدما رأوه من تراجع النخبة الاشكنازية الساحلية - وفق رأيهم - عن طريق القادة الأوائل.

أمام سيطرة مستعمري الجبل والقدس والأطراف على مفاصل الدولة ودوائر صنع القرار فيها ، وسعيهم الحثيث لتغيير بنية مؤسسات الدولة والمجتمع نحو المزيد من هيمنة الدين على كل نواحي الحياة بدعم من مستعمري القدس والضفة وأطراف الدولة الشمالية والجنوبية ، عاد الذعر الى النخبة الاشكنازية الساحلية والذي انتابها في ثمانينيات القرن الماضي ، ولكن هذه المرة بشكل أشد عبرت عنه مظاهراتها الأسبوعية في مراكز المدن، فهل تنجح النخبة الاشكنازية الساحلية في محاولتها هذه التي تبدو ربما أنها الاخيرة في الحفاظ على امتيازاتها ، أم أن مركز الدولة سينتقل من غوش دان إلى جبال القدس و" يهودا والسامرة " والأطراف ومنها بئر السبع وطبريا والعفولة وصفد ؟. لا زالت المعركة قيد السجال بهذا الشأن ، الا أن امرين يبقيان في غاية الجلاء : الأول منهما أن أطراف الصراع الصهيوني الساحلي - الجبلي متفقان على أسرلة وتهويد فلسطين وإن اختلفا في طرق العمل المتعلقة بكيفية تحقيق ذلك، كما أن هنالك ما هو مشترك بينهما بهذا الشأن عبرت عنه التصويتات المشتركة للحكومة والمعارضة على قوانين مثل سحب الجنسية من " الإرهابيين " وعائلاتهم، وتمديد العمل بقوانين الطوارئ في الضفة . كما أن المحكمة العليا تقف الى يمين الحكومة بشأن إخلاء الخان الأحمر وطلبها مؤخرا تفسيرا من حكومة نتنياهو عليها تقديمه حتى اول ايار القادم عن سبب امتناع الحكومة عن القيام بالإخلاء. هذه مجرد أمثلة على الأجندة المشتركة وتبادل الأدوار بشأن التهويد والأسرلة. والثاني : أن المشروع الصهيوني لتهويد فلسطين يفشل حتى الآن فيما يستمر في محاولات التهويد وتغيير أساليب البطش والتفنن بها وفق منهج التجربة والخطأ الذي عبر عنه عنوان كتاب حاييم وايزمان ، وإعادة تكرار المحاولة مرة ومرات بدون كلل حتى الآن، ومع ذلك لا زال الجليل والنقب والمثلث عربيا ، وعلى ذات النحو تم تفكيك المستعمرات الصهيونية من قطاع غزة عام ٢٠٠٥، وتبقى البلدة القديمة من القدس عربية فلسطينية ، حيث لا يزيد عدد المستعمرين اليهود فيها عن واحد بالعشرة من سكانها رغم كل المحاولات التهويدية منذ عام ١٩٦٧ . وحدها حرب اقليمية، او حرب شاملة ضد الشعب الفلسطيني قد تحل هذه المشكلة كليا أو جزئيا عبر عملية طرد شاملة أو جزئية تحت غطاء هذه الحرب، ويخطط بن غفير وسموتريتش لاستفزاز الشعب الفلسطيني بكل الطرق بما يوصل الى الحرب الشاملة بحجة التصدي للعمليات الفلسطينية وبحيث يترتب عن ذلك طرد أقسام واسعة من الشعب الفلسطيني تحمل مسؤولية طردها بذريعة ممارسته " للإرهاب "، ويسمي سموتريتش ذلك بخطة الحسم ، ولأنه يمثل التيار الأكثر تصميما ، فإنه يمثل مستقبل الصهيونية ودولة اسرائيل الجديدة ذات المراكز في القدس وبئر السبع والمستعمرات في الضفة، ومدن الشمال في الدولة ، مقابل خبو " جمهورية تل أبيب " كما سماها أرنون سوفير. وحدها متغيرات إقليمية ودولية وكفاحية فلسطينية يمكن ان تغير هذا المسار. ولهذا الحديث الموجز بقية.

mat
Developed by: MONGID | Software House الحقوق محفوظة مفوضية الإعلام والثقافة © 2024