الرئيسة/  مقالات وتحليلات

مليحة حررت أبناءها من الرواية ‏

نشر بتاريخ: 2022-07-25 الساعة: 12:06

 

بقلم : عيسى قراقعفي 

 

قاعة محمود درويش في رام الله يوم 18-7-2022 لأول مرة ارى ابطال الرواية ‏يجلسون على المقاعد يراقبون ما فعلوه في النص وفي الاحداث المتواترة، اقوالهم وأنفاسهم ، ‏موتهم وحياتهم وأحلامهم ويصابون بالدهشة ، ما بقي منهم على قيد الحياة حررته مليحة من ‏الذكريات والذاكرة ،أطلقتهم من هذا المتحف المتخم بالأيقونات الصامتة ، دبت فيهم روح ‏الحياة وخرجوا من تحت الرصاص ومن الموت الذي لاحقهم لسنوات وسنوات ، خرجوا من ‏بين ظلمات السجون واستعادوا الماضي والحاضر واكتملوا واجتمعوا ليضعوا فصل النهاية.


بعض الحاضرين تفقد جسده وجروحه ونزع الشظايا من قدمه وصدره وتنفس طويلا كأنه ‏يشعر بالعافية ، بعضهم أخذ يبكي بعد أن تذكر رفاقه وزملاءه منذ أن عصفت النكبة بعالم ‏الشعب الفلسطيني وتشردوا بالمنافي والمخيمات لتكون مليحة الراوي والرواية والوثيقة ‏والشهادة التي ترد دينا الى الأموات الذين ماتوا والى الاحياء الذين لم يدركهم الموت ،فهي في ‏النهاية تنقل معرفة وطنية الى اجيال قادمة تحتاج الى ذاكرة وخارطة كي لا تضيع في ‏منتصف الطريق.‏


منذ الصفحة الاولى لرواية مليحة للكاتب والاسير المحرر محمد البيروتي وجدت أنها كتبت ‏تحت وقع ضربات الرصاص ،تسرد قصة وسيرة الشعب الفلسطيني منذ النكبة حتى الان ‏،الرواية تواصل الحياة وتعطيك الحياة التي يجب أن تعاش كما يقول الكاتب ، أبطال الرواية ‏حقيقيون وكانوا ملحميين شجعان يواجهون الموت والخذلان ،هم بالضبط كما وصفته له جدته ‏مليحة في حكاياتها الشعبية أيام الطفولة.


مليحة عنوان الرواية للكاتب البيروتي ، هي جدته التي اقتلعت مع عائلتها من قريتها صميل ‏التي تقع جنوب الخليل، دمرت القرى والمدن في تلك المأساة عام 1948 ، انقلبت حياة مليحة ‏مرة واحدة، هام المشردون على وجوههم في كل بقاع الدنيا ولم تأخذ مليحة معها سوى ‏المفتاح وكواشيين الطابو والامل بالعودة ، وقد طال الانتظار وحدثت النكسة وتواصلت ‏النكبات.‏


مليحة هي الارض المنهوبة السبية السليبة وهي المرأة الجميلة التي انتزعت من أولادها ومن ‏ملابسها واحلامها على يد العصابات الصهيونية ، مليحة التي دفنت ابنها محمد في الطريق ‏خلال عمليات القتل والتشريد ، دفنته تحت كومة حجارة في ذلك الجبل وكتبت عليه سأعود ‏مرة ثانية ، وقد حمل الكاتب اسم الشهيد فلم ينج من مسؤولية عبء التحرير وتصويب ‏الاجحاف الذي لحق بذويه وشعبه ووطنه، وكان لا بد له من أن ينجو كما نجا اليسوع ابن ‏مريم العذراء من الملاحقة ، وكان لا بد له أن ينتصر ويكمل الرسالة.


مليحة رواية تسلط الضوء على جيل ما بعد هزيمة عام 1967 ، جيل وجد نفسه وسط ‏الرجولة في وقت مبكر، وسط المعارك والموت الذي أحاط به في كل مكان ، الموت في ازقة ‏مخيم الوحدات وفي جبال جرش وعجلون وغور الاردن وعلى ضفتي نهر الاردن واليرموك ‏ووديان الجولان وجنوب لبنان ، لم تتوقف عجلة الموت حتى بعد ان وجد نفسه بين قضبان ‏السجن الصهيوني مقيدا بأحكام المؤبدات.


لولا مليحة لما صمد الكاتب محمد البيروتي 11 عاما في السجن ، لا تعد الا منتصرا ،صوت ‏ظل راسخا في عقله حتى في اسوأ الظروف المريعة ، ان يكتب البيروتي روايته مليحة من ‏قلب زنزانته في سجن بئر السبع ولا زالت اثار التعذيب الذي تعرض له في سجن صرفند ‏تطفح على جسده ، ان يجد لعقله ومداركه مساحة سرية بعد منتصف الليل في تلك الزنزانة ‏ليطلق ذكرياته وخياله ويجمع البعيدين الاحياء والاموات والشهداء ، الجغرافيا والامكنة ، ‏الشوارع والحارات والناس والاصدقاء، ان يوسع مساحة الزنزانة ويجد له طرقا فضائية غير ‏مرئية ليصل الى قريته صميل والى بيت لحم حيث ولد ، والى حارة العناترة ومغارة الحليب ‏، والى امه الثانية حنظلية المسيحية ، أن يصل الى مخيم الفوار ومخيم الوحدات ، أن يصل ‏الى سوريا وحوران ودرعا والى امه الثالثة ام جريس ، ان يصل احبائه ورفاقه في ‏المعسكرات ، ويجمعهم في نصوص روايته ، يجتمع بهم دون أن تصده جدران السجن ‏والاسلاك الشائكة والابواب الموصدة، انها شجاعة المعاناة وقوة الذاكرة.


لولا مليحة لما استطاع الكاتب ان يلفظ السجن من داخله ويتسلح بإرادة المعنى وهي اقوى من ‏ارادة الاحتلال ، هي الحرية الروحية والقوة الداخلية للإنسان تعلوا به فوق أي قدرة اخرى ‏في العالم الخارجي ، يقول البيروتي : يختفي الزمن في السجن والرتابة والاحساس بالمكان ، ‏ثم تبدأ الجدران بالتلاشي والروح تحلق في عالم بلا ابعاد ، انها الحرية المطلقة.


لولا مليحة لما استطاع الكاتب ان يسترد حريته المفقودة ويصنع له عوالم موازية لا يراها ‏السجان : عالم الكتب والفلسفة والروايات ، يتقمص شخوصها ويعيش معهم ويشاركهم حياتهم ‏واحلامهم وافكارهم بلا قيود ، ثم عالم السجن والكتل الاسمنتية وقضبان الحديد والمواجهات ‏والاضرابات والدفاع عن كرامة الانسان وانتزاع الحقوق من براثن السجان ، ثم العالم الذي ‏ينتظره كل ليلة، يخرج من السجن مع ذكرياته ليصل الى بيته وعائلته وحبيباته، تختفي ‏الحدود ويتسامى الجسد والذات وتنتقل روحه الى فضاءات مكتنزة بمشاعر لا تعتمد على ‏الحواس، مليحة ردت على قاضي المحكمة العسكرية الذي قال للبيروتي لن تغادر جدران ‏السجن ابدا ، حطمت مليحة ذلك الشعار غير المرئي على بوابة سجن عسقلان والمستمد من ‏جحيم دانتي والذي يقول : ايها الداخل تخل عن كل أمل.


لولا مليحة لما استطاع الكاتب وسائر الاسرى ان يشيدوا المدينة الفاضلة ، الدولة المستقلة ‏التي شيدها الاسرى في السجون ، دولة اشتراكية ديمقراطية تعددية لها دساتير وقوانين ‏ولوائح وانظمة ، المدرسة والجامعة ، لها اذاعة وعلم ونشيد ووزارة دفاع ووزارة ثقافة ‏واقتصاد وملعب لكرة القدم والطائرة والسلة ، فالسجن اذا ليس مقبرة تحتوي امواتا ، فهؤلاء ‏احياء بل يضجون بالحياة ، يصرخون ويضحكون ويتجادلون ، مشاعرهم ليست متبلدة ، لم ‏يستطع الجدار ان يقوض حياتهم الحافلة ، يقول البيروتي : انا لا افكر بالموت ، الموت اذا ‏غير موجود ، انا لا افكر في الاعتقال ، السجون اذا غير موجودة.


لولا مليحة لما قطع الاسير سليم الزريعي الصحراء ليصل الى فلسطين ، لقد تفوق على النبي ‏موسى عندما حاول شق البحر ليس بعصاه وانما بقارب وموجة وبندقية ، ولولا مليحة لما ‏استطاع الكفيفان الاسيران علاء البازيان ومحمود دنهش من رؤية البعيد وملامسة السماء ‏والنجوم والغيوم والاستحمام تحت المطر ، اصبح لهما عينا ثالثة.

 

لولا مليحة لما التقى الاسير المرحوم موسى الشيخ مع خطيبته العراقية على شط الفرات ، ‏غازلها وعانقها ليغني لهما الاسير ابو علي الديراوي اغنية شعبية من كلمات المرحوم راجح ‏السلفيتي ، ولولا مليحة لما نجح الكابتن عادل (فاضل يونس) ان يكتب رواياته العديدة ، ‏ويرى دلال المغربي وموسى جمعة يصعدان الى قمة الانفجار في تلك الرواية او القصيدة.‏
لولا مليحة لما استطاع البيروتي ان ينقل كل تلك الاحلام ، الاحلام الحية والاحلام الشهيدة ‏على عالم الحقيقة ، ان يصنع في زنزانته امل المأسورين ، ذلك الامل المستعصي على الكسر ‏والمساومة والمقايضة ، ولولا مليحة لما حضر الفيلسوف نيتشه الى برش الكاتب في سجن ‏بئر السبع ليعلمه دروسا في القوة قائلا له : من يمتلك سببا يعيش من اجله فانه يستطيع غالبا ‏ان يتحمل ويعلو على أي قوة اخرى مهما كانت.


لولا مليحة لما حضر الكاتب العالمي ديستوفيسكي الى سجن بئر السبع ، تحرر من بدلة ‏الاعدام في سجون قيصر الروسية ليقول للكاتب من هناك ، من بيت الموتى : على الرغم ما ‏حصل لي لم افقد الشجاعة ولا الامل ، الحياة في كل مكان ، الحياة موجودة في داخلنا وليس ‏في العالم الخارجي. ‏


لولا مليحة لما حمل البيروتي كل هذه الحصانة ، الحصانة التاريخية ،فالتاريخ ليس فلكلورا او ‏للنسيان او الفرجة ، الوعي التاريخي الذي يصنع الهوية التحررية ، لهذا الاسرى المحررون ‏خريجو السجون هم قادة الانتفاضات ، عجلة التاريخ تدور ، يقول الكاتب : ليست المدرسة ‏من يصنع الرجال وليست الجامعة ، انها القاعدة العسكرية والعيش تحت الاشتباك هي التي ‏تفعل وغرف السجن في نابلس وجنيد وعسقلان وبئر السبع هي التي تفعل ، انها الطاقة ‏والوحدة التي جمعت الاسرى تحت سقف واحد في غرفة واحدة مكتظة ومغلقة وتحت رحمة ‏سجانين قساة ، العامل والفلاح والطالب ، القومي والملحد والمتدين، الفقير والغني ، أسسوا ‏دولتهم الخاصة العلمانية التحررية، قاتلوا خارج السجون وقاتلوا داخل السجون ، مجتمع ‏شديد التنوع ، اجترح الابداعات والملاحم البطولية ، انها مليحة.


لولا مليحة لما حمل البيروتي هذا الايمان وتلك الفلسفة ، الايمان الحر ، الايمان المتسامح ‏المنفتح على الاخرين ، الايمان غير المغلق وغير المتعصب والمتشدد ، الايمان الذي يقبل ‏الاخر ، الايمان الذي يستعمل العقل ولا يتجمد في النص ، يقرأ القومية من وجهة نظر ‏التحرر الفلسطيني ، ويقرأ التحرر الفلسطيني من وجهة نظر قومية، ويقرأ الماركسية ‏كلاهوت للحرية والعدالة الاجتماعية ، يقرأ القران والانجيل والتوراة في الزنزانة وليس في ‏ارض الميعاد ، انه الايمان القائم على الجمع والوحدة لا التفرقة ، ايمان ام جريس التي تصلي ‏على الطريقتين الاسلامية والمسيحية ، ايمان حنظلية التي اسمته عيسى في ساحة كنيسة المهد ‏وارادته ان يكون ابنا لها في حياتها الباقية ، ايمان فيه سلام الروح وسلام القلب والاطمئنان ‏الوجودي ، انه الايمان الفلسطيني ، ايمان الحرية. 

mat
Developed by: MONGID | Software House الحقوق محفوظة مفوضية الإعلام والثقافة © 2024