الرئيسة/  مقالات وتحليلات

التحكّم بأموال المقاصّة وبروتوكول باريس

نشر بتاريخ: 2021-07-15 الساعة: 12:22


سنية الحسيني


استأنفت إسرائيل يوم الأحد الماضي استقطاع نسبة من أموال المقاصة، تعادل المخصصات المالية التي تدفعها السلطة الفلسطينية للأسرى وأسر الشهداء، بعد تراجعها عن ذلك الإجراء خلال الأشهر القليلة الماضية.
ويبدو أن إسرائيل قد جمدت تنفيذ هذا القرار مطلع هذا العام كبادرة حسن نوايا قدمتها للإدارة الأميركية الجديدة بشكل مؤقت.
إن قرار إسرائيل باستقطاع هذه الأموال يأتي في إطار سياسة مبرمجة، تهدف في الأساس إلى تجريم العمل النضالي الفلسطيني وشيطنته، وليس مجرد إجراء عابر تنوي التراجع عنه مستقبلاً. كما أن سياسة إسرائيل بإجراء استقطاعات مالية محددة أو حتى تجميد إرسال أموال المقاصة كاملة للسلطة، وهي التي تشكل ثلثي مواردها، ما هي الا تنفيذ لإستراتيجية وضعتها بعد توقيع اتفاق أوسلو العام ١٩٩٣، وتجسدت من خلال بروتوكول باريس الاقتصادي الذي تم التوقيع عليه في أيار العام ١٩٩٤.
يضع بروتوكول باريس قواعد تسمح لإسرائيل بمساومة السلطة مالياً، لتحقيق أغراض سياسية، ناهيك عن ضمانه تبعية اقتصادية لإسرائيل.
لم تتوقف إسرائيل طوال العقود الثلاثة الماضية عن استخدام إستراتيجية حجب الأموال المستحقة للسلطة للضغط عليها سياسياً.
وبدأت إسرائيل بتنفيذ هذه الاستراتيجية عملياً العام ٢٠٠٠ عندما منعت وصول أموال المقاصة إلى السلطة لعامين متتاليين بعد انفجار انتفاضة الأقصى، عانت خلالهما السلطة أزمة مالية خانقة. لحق ذلك الإجراء العديد من الإجراءات المشابهة، منها ما جاء بعد فوز حركة حماس في الانتخابات التشريعية العام ٢٠٠٦، حيث استمر حجز أموال السلطة أكثر من ١٦ شهراً، ومنها ما جاء لفترات زمنية أقل، كحجبها أموال المقاصة بعد سعي الفلسطينيين لنيل عضوية اليونسكو العام ٢٠١١، وبعد نجاحهم بالحصول على صفة دولة غير عضو في الأمم المتحدة العام ٢٠١٢، وبعد سعيهم للانضمام للمحكمة الجنائية الدولية العام ٢٠١٤.
ومن الملاحظ أن إسرائيل استخدمت هذه الإستراتيجية للضغط على الفلسطينيين لأسباب سياسية، تراجعت عنها بعد حين، إما لأنها حققت غرضها أو لأنها جاءت بهدف العقاب لفترة معينة.   
ولم يخرج إجراء خصم إسرائيل لمستحقات الأسرى وأسر الشهداء من أموال المقاصة، عن تلك الإستراتيجية سابقة الذكر.
وطالما اقتطع الاحتلال نسباً مختلفة من أموال المقاصة لأسباب اقتصادية، لتغطية فواتير مستحقة عليها، دون العودة للسلطة أو التفاوض معها حولها.
إلا أن الجديد في خصم إسرائيل لمستحقات الأسرى وأسر الشهداء هو أنه جاء لتحقيق هدف سياسي، ويحمل صفة الدوام أو الاستمرار، بعد أن سن الكنيست قانوناً أطلق عليه «مكافحة الإرهاب» العام ٢٠١٩ يفرض على الحكومة الإسرائيلية اقتطاع كل ما تدفعه السلطة للأسرى وأسر الشهداء من أموال المقاصة.
إن قضية وصم المناضلين الفلسطينيين بـ»الإرهاب» قضية سياسية شديدة الحساسية لدى الفلسطينيين وتشكل خطأً أحمر لديهم، خصوصاً أنه ليس هناك بيت فلسطيني واحد يخلو من أسير أو أسير محرر أو شهيد، ناهيك عن أن الاحتلال لايزال يجثم فوق صدور الفلسطينيين، وتعج سجونه بالأسرى الفلسطينيين.
وقد استغلت إسرائيل تبعات أحداث الحادي عشر من أيلول وحرب الولايات المتحدة على الإرهاب لتزج بالنضال الفلسطيني في إطاره، فكثفت إسرائيل من جرائم اغتيالها للمناضلين الفلسطينيين مطلع الألفية الجديدة، وسعت لشيطنة المقاومة الفلسطينية دولياً.
كما رفع إسرائيليون من حملة الجنسية الأميركية دعاوى في محاكم أميركية ضد الفلسطينيين بحجة قتل أبنائهم في عمليات فدائية، افتتحت عملية محاسبة ومطاردة لرموز النضال الفلسطيني، ومن هنا بدأت مساعي إسرائيل بمطاردة المناضلين داخل فلسطين المحتلة مالياً لكسر شوكتهم، وتجسدت باصدارها قانون الكنيست سابق الذكر.
إن قضية تحكم إسرائيل بأموال الفلسطينيين المستحقة نص عليها بروتوكول باريس الاقتصادي الملحق باتفاقية أوسلو، حيث افترض البروتوكول سيطرة إسرائيل على الحدود وبالتالي تحكمها بالمعابر الحدودية.
ونص البروتوكول في البند السادس منه على قيام السلطات الإسرائيلية بجباية ضريبة القيمة المضافة وضرائب المشتريات على الإنتاج المحلي، إضافة إلى ضرائب أخرى غير مباشرة عن السلطة، وتحويلها لها مقابل ٣٪؜ بدلاً عن هذه الخدمة.  
وعليه تتحكم إسرائيل بتلك الأموال وتساوم السلطة عليها كما ورد أعلاه. كما تتحكم أيضاً بناء على نصوص البروتوكول، بأموال الضرائب ومقتطعات التقاعد من العمال الفلسطينيين الذين يعملون في إسرائيل والمستوطنات، وتتحكم أيضاً بأموال الضرائب في المناطق الفلسطينية المصنفة (C)، والتي تمتنع إسرائيل عن إرسالها للفلسطينيين.
إن إسرائيل تتحكم بجل موارد السلطة الاقتصادية، وتستخدم الاتفاقيات التي وقعتها معها من جهة وقدرتها كقوة احتلال لتنفيذ سياساتها في الأراضي المحتلة من جهة أخرى لترويض الفلسطينيين وإخضاعهم.
لم يتحكم بروتوكول باريس بموارد السلطة المالية فقط، بل رسم حدود تطورها الاقتصادي عموماً. آثرت إسرائيل من خلال البروتوكول بعد توقيع اتفاق أوسلو الحفاظ على النظام الاقتصادي الذي حكم علاقتها بالأراضي الفلسطينية منذ أن احتلتها العام ١٩٦٧.
واعتمدت إسرائيل منذ احتلالها نظاما يعرف بـ»الاتحاد الجمركي» في تعاملها مع الأراضي المحتلة، سمح لإسرائيل باستغلال مواردها وعمالها الرخيصة لتنمية اقتصادها الصناعي، ورسخته قانونياً من خلال بروتوكول باريس.
ويضمن نظام الاتحاد الجمركي لإسرائيل بعد توقيع الاتفاق غياب الحدود الاقتصادية وتوحيد السياسة التجارية الخارجية بينها وبين السلطة وهو ما يحد من الممارسة السيادية للسلطة على قرارها الاقتصادي.
يأتي ذلك في ظل التباين الكبير في المستوى الاقتصادي بين البلدين، وسيطرة إسرائيل على المعابر الحدودية،، وسيطرتها الفعلية داخل الأراضي الفلسطينية وبين مدنها وقراها، ناهيك عن بعض الاشتراطات أيضاً التي وضعها البروتوكول والذي يمكنها من التحكم عموماً بالاقتصاد الفلسطيني بشكل مباشر مثل البند الخاص بإمكانية رفع نسبة الضرائب المفروضة على البضائع المستوردة بشكل فردي، وإمكانيتها حظر دخول العمال الفلسطينيين داخل الخط الأخضر.
كما يتحكم البروتوكول بنوع وكمية المواد التي يمكن للسلطة استيرادها وتصديرها، والذي يرتبط بشكل جلي بالمعادلات الاقتصادية في إسرائيل. وتتضح الصورة بجلاء عندما نعرف أن الاحتلال يستقبل ٨٥٪؜ من الصادرات الفلسطينية ويرسل للفلسطينيين ٧٠٪؜ من مجمل وارداتهم.  
يأتي استقطاع إسرائيل لما يعادل مخصصات الأسرى وأسر الشهداء من أموال المقاصة هذه المرة في ظل التبعات السلبية لجائحة «كورونا» اقتصادياً، وتراجع حجم المساعدات الخارجية عموماً،  وتزايد عجز السلطة المالي، ناهيك عن التعاطف الأميركي والأوروبي مع موقف إسرائيل، ما لا يرجح تراجع إسرائيل عن ذلك القرار هذه المرة، بل قد يكون مقدمة لمزيد من الضغوط فيما يتعلق بقضية المناضلين الفلسطينيين.
لن يستطيع الفلسطينيون امتلاك قرارهم السياسي والاقتصادي الا بالسيطرة الكاملة على أرضهم ومعابرهم وحدودهم.
وليس أمام الفلسطينيين الا التوحد والمصالحة والعمل تحت مظلة واحدة لمواجهة الاحتلال ومخططاته التي لن تتوقف أبداً عن تقويض مكانتهم ووجودهم.

mat
Developed by: MONGID | Software House الحقوق محفوظة مفوضية الإعلام والثقافة © 2024