الشهيد صلاح خلف وفلسفة الجنائية الفلسطينية
نشر بتاريخ: 2020-08-19 الساعة: 09:03فادي أبوبكر
كاتب وباحث فلسطيني
رغم آلاف الحوادث والبيّنات التي تُثبت ارتكاب الكيان الإسرائيلي جرائم حرب بحق الشعب الفلسطيني ، لم يتمكن الفلسطينيون من ملاحقة ومحاكمة ومعاقبة مرتكبي هذه الجرائم في المحكمة الجنائية الدولية، وذلك لأسباب مصالحية دولية وأخرى قانونية فنية.
حيث تعتبر الجنائية الدولية اختصاصها مُكمّلاً للاختصاصات القضائية الجنائية الوطنية، ما يعطي الاحتلال الاسرائيلي هامشاً للتحايل على القانون، من خلال الإعلان عن تقديم المتهمين إلى لجان تحقيق ومحاكم جنائية إسرائيلية. ولحكومة الاحتلال سوابق قانونية عديدة في هذا المجال، فقد قدمت بعض جنودها وضباطها إلى محاكم صورية وحكمت عليهم أحكاماً شكلية.
أما السبب الرئيس والأهم يعود ببساطة إلى أن العدالة الدولية عدالة ناقصة وانتقائية، تخضع لتوزان القوى في المجتمع الدولي، لتكون بذلك عدالة سياسية وليست قانونية. حيث يفلت من العقاب كل مرتبط بمصالح ورغبات الدول الكبرى.
ومن أبرز حالات التدخل السياسي لانحراف العدالة الدولية في فلسطين المحتلة، القضية التي رفعت ضد المجرم أريئيل شارون رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق أمام المحاكم البلجيكية في العام 2001م، بتهمة ارتكاب جرائم ضد الإنسانية في اجتياح بيروت عام 1982، وذلك طبقاً لقانون بلجيكي سن عام 1993 يسمح بقبول قضايا جرائم الحرب غير المتعلقة ببلجيكا، لانتهاك معاهدات جنيف لعام 1949م، وقضت المحكمة العليا في بلجيكا برفض الدعوى ضد شارون بعد حملة أميركية – إسرائيلية شرسة صد بلجيكا، استمرّت حتى أقرّ البرلمان البلجيكي في العام 2003 بالغاء القانون المعروف بقانون "الاختصاص العالمي" واستبداله بنص آخر ألغى مسألة محاكمة مسؤولي دول أخرى في بلجيكا، وبناء عليه حكمت محكمة الاستئناف بعدم قبول الشكوى ضد شارون.
كما وقد أفلتت وزيرة الخارجية الإسرائيلية السابقة تسيبي ليفني، ووزير الحرب الأسبق بن اليعازر وعدد من قادة الجيش الإسرائيلي، من المحاكمة أمام القضاء الأسباني بعد أن غيّر القضاء الأسباني القانون الذى يتيح محاكمة مجرمي الحرب، نتيجة ضغوط سياسية على أسبانيا لتغيير القانون، نجحت في تحقيق هدفها.
يمكن الجزم مما سبق بأن القوي يستطيع أن يفعل ما يشاء، و كما يقول المثل الشعبي "القوي عايب"، والسياسة تحكمها المصالح السياسية والاقتصادية. حيث يستطيع هذا القوي أن يُرتّب الأولويات بمقدار ما يمتلك من قوة وتحالفات وعلاقات تجعل من أي فكرة أو دعوة تندحر وتندثر، تماماً كما هي فكرة "العدالة الدولية" أو " الموقف العربي الموحّد". ولعلّ اتفاق الخيانة الاماراتي – الإسرائيلي الذي أُبرم برعاية أميركية، يؤكد هذه النظرية، ويُنذر بإمكانية إبرام اتفاقيات إضافية مع دول أخرى مستقبلاً، خصوصاً في ظل الترحيب المصري والبحريني والامتناع المريب لمعظم الدول العربية عن إبداء الرأي إزاء الاتفاق!.
إن الوضع الذي نعيشه اليوم من تغوّل احتلالي غير مسبوق، وما يرافقه من دعم أميركي وتآمر البعض العربي غير المحدود، يعيد فلسطين إلى سبعينيات القرن الماضي و "أحداث أيلول الأسود"، وإن كانت أكثر عنفاً. وفي نفس السياق لا يمكن أن ننسى عام 1971 الذي تشّكلت فيه "منظمة أيلول الأسود" بقيادة الشهيد صلاح خلف "أبو إياد"، والتي استطاعت من خلال عملياتها خلال ثلاثة أعوام أن تنتزع اعتراف العرب والعالم بمنظمة التحرير الفلسطينية كممثل شرعي ووحيد للشعب الفلسطيني.
نعم .. القوي عايب، ولكن ليس المقصود هنا بالضرورة، اللجوء لنفس الأسلوب القديم لإختلاف الظروف المواتية، وإنما حتمية العودة إلى فلسفة "الجنائية الفلسطينية" التي أسسها الشهيد صلاح خلف، والتي تقوم على محاكمة المتهمين بجرائم ضد الفلسطينية واستقلالية القرار الفلسطيني أيا كانت جنسيتهم. وقد تكون أحدى أدواتها اليوم الدبلوماسية الشعبية ولكن مع تكثيف عنفي أكبر، بما يضمن تأليب الشعوب على الأنظمة التي تتنصّل من التزاماتها السياسية والقانونية والإنسانية تجاه الشعب الفلسطيني، وتهديد مصالحها والمصالح الإسرائيلية – الأميركية المرتبطة بها.
إن قوة الجنائية الفلسطينية والقضية الفلسطينية تكمن في وحدة الحال الفلسطينية والتصاق القيادة بالجماهير، حيث أن ذلك من شأنه أن يرد أي عدوان كان على الشعب الفلسطيني، وسيعيد لأذهان القاصي والداني ما قاله الشهيد صلاح خلف : " إن الشعب الفلسطيني قد ينكسر، وقد ينتصر وقد يصمد، ولكنه ينفجر وإذا انفجر فإنه يحاسب وحسابه يكون عسير وعسير جداً".
m.a