أقدم قنية زيتون في الشتات الفلسطيني
نشر بتاريخ: 2020-07-10 الساعة: 07:45بقلم د. جمال نزال
الأسبوع الماضي نعت فلسطين الشرطي الفلسطيني هاني أبو شقرة "صديق الطفل الفلسطيني". وهو ذلك الشرطي الفلسطيني الذي راعه فزع الأطفال في مدرسة بقرية دوما عندما ظنوا أن حضور الشرطة لمدرستهم مبعث قلق. فما كان من المرحوم ألا أن تناول الميكروفون وأخذ يغني لهم ومعهم حتى راح خوفهم وحل محله الفرح والاطمئنان. منذ حينه عرف المرحوم هاني أبو شقرة عالميا بهذا المشهد الذي خفقت له قلوب. لي شرف معرفة أخيه مهند أبو شقرة صديقي العزيز في مدينة ترير. ماذا تظنون بمهند فاعلا؟ أنه يعمل شرطيا اجتماعيا في مدينة ترير وظيفته رعاية الشبيبة والأحداث من خلفيات اجتماعية ضعيفة .. فهو ايضا على هذا النحو من المحبة الفائضة لمن حوله. اتصلت يوم سماعي خبر وفاة شقيقه هاني فبكى وأبكان. لا شيء أقسى على قلب الأخ من وجع أخيه ولا شيء أشد قسوة من فقدان أخ. يعرف ذلك كلنا. مدينة ترير تبعد عني 4 ساعات. وجدت عزاء في مصاحبة صديقي يوسف دهيس وشقيقه محمد في رحلة تعزية حبيبنا المهند في ترير والعودة في نفس اليوم.
وصلنا وقت الظهر راغبين في اصطحابه إلى غداء.. ولكنه كان قد أعد فطورا فلسطينيا من أعذب ما للعين أن ترى سخاء وعطاء.
تبادلنا الشؤون والشجون ونظرت إلى صحن فيه زيتون. قال لي: هذا بعضه فلسطيني وبعضه الآخر من دول أخرى. ثم نهض من مكانه بسرعة كمن نادته أمه من المطبخ وعنده ضيوف. وعاد بقنية ملئى بالزيتون. وقف قبالتي وقال: هذه عمرها 15 عاما. فزعت للتو ظنا أنه سيقدم لنا مما فيها. ثم قال : هذه قصة طويلة. عدت لفلسطين قبل 15 عاما وقد توفيت والدتي في اليوم السابق لوصولي. ثم جاء لي اخوتي بقنية زيتون وأغراض أخرى. أخبروني أن أمي عبأتها لي خصيصا قبل وفاتها بيوم. قالت هذه لمهند عندما يجيء. هذه الأمهات لله درها لا تمل الإطعام. اغرورقت عيون السامعين بالدمع. وقال انه احتفظ بالقنية طوال السنين ذكرى من يدي والدته الكريمة. لم يستطع مهند العودة للمشاركة بمراسم دفن شقيقه المرحوم هاني والذي توفي في عز شبابه. وهذه المرة الثانية تفوته جنازة حبيب. من منا لم يجرب ذلك المرير؟
بعد الفطور تمشينا في مدينة مهند الشرطي الاجتماعي المعروف في مدينته.. ووسط البلد بدا الألمان يسلمون عليه كوجه معروف وناشط فلسطيني تعرفه الأحزاب. مع كل خطوة مشينا سرد المهند حكاية له من فلسطين فيها أسماء تعرفها وأسماء لا تعرفها.
هذه القلوب الفلسطينية في الهجرة أشجار ناطقة. تثمر علاقات وتحكي تاريخا. والقلب يخفق بين الضلوع في كل من أشرقت عليه شمس في فلسطين وغابت مهما طال غيابه هو. في الوعي الفسطيني يختلط الحنين للوطن بالحنين للأم حتى لا تعد تقوى على التفريق بينهما. الوطن والأم شريكان في الصوت والأطعمة والحكايات. فالأم وطن والوطن أم. يتسابق كلاهما في تعريفك بنفسك وتذكيرك بمن أنت وماذا فعلت وماذا أكلت وانت تحبو أو يوم بان سنك الأول. صوتهما فيك يظل يناديك أعلى كلما ابتعدت حتى تحضر ثم لا تجده. أو ينتظرك فتتأخر. عشق لا نهاية له ما جرت الدماء في الشرايين. مهند كشقيقه يحب الفن وفي بيته الصغير الجميل عود وغيتار. حضر صديقه اللبنايي محمد جتلمان شبابي يغطي شيب الأربعين بشيء ذي لون. حقوقي لبناني متجذر المعرفة والعلم في المانيا ويتحدث العربية أحسن مني قليلا. وقفنا عند جسر مرتفع في لوكسمبورغ عمره ألف عام وارتفاعه 100 مار. قال: وقفت وزوجتي العروس هنا قبل 22 عاما وقلت لها من يقف هنا يخشى ان يصعد لحافة الجسر مجنون فيقفز من هنا ليمت. وأضاف: ما أن أتممت جملتي حت كان أحد النس قد وقف على بعد ثلاثين متر منا وقفز من على الجسر ومات! قلت له انت في الأربعين فكيف تقول أنك متزوج منذ 22 عام؟! قال محمد: وصلت عائلتي المانيا من لبنان عام 1985 وقت الحروب الطوال. لم يكن اتصال هاتفي مع لبنان حينها. وكان الناس يتبادلون المكاتيب فتمكث شهرا أو شهرين على الطريق. ومن المعتاد أيضا تبادل أشرطة الكاسيت المسجلة. فيسجل المشتاق صوته قصصا وغناء لأحبابه في الغربة ويرسل الكاسيت في البريد. جدة محمد تسجل صوتها من لبنان وتحكي على الوجهين حكايات عام 1986. ويرسلون الشريط في البريد مسافة شهرين. قال محمد: ذات يوم وصل خبر وفاة جدتي. بعد ذلك بشهر وصل بالبريد كاسيت (شريط مسجل) وفيها صوت جدتي في آخر تسجيل لها تحدثنا عن كل شيء مدة ساعة من الزمن. بقي الشريط عند والده حتى اليوم كأنه قنية الزيتون.
ودعنا بيت مهند. وفيه قنية زيتون سعتها لتران من الماء وداخلها بضع مئات من حب الزيتون. ذاكرة مخلله. فيها ماء وملح. و لعل بصمات أم مهند على بعض حباته. وقد يكون عليها دموع.
يوسف دهيس وشيقيقه محمد فلسطينيان اثنان من سوريا شاركاني التعزية بوفاة هاني أبو شقرة.. وصل كلاهما بقاربين اثنين عبر البحار إلى ألمانيا عبر ألف محطة ومحطة. قيل لمحمد إياك اذا طلب منك صاحب القارب أن تركب في الطابق الأسفل للمركب. فهناك أمامك خياران إما أن تختنق وإما أن تغرق! توسط القمر كبد السماء في ليلة ربيعية في بلد عربي محترق. في شقة أشبه بمخزن دق الباب ووراؤه ثلاثون لاجئا يستعدون لركوب البحر. دق أحدهم الباب الساعة الثالة والنصف صباحا. ظن محمد القادم من مخيم اليرموك أنها القذائف جاءته في منام. قال لهم الطارق إن البحر هادئا وعليهم الهرولة للشاطء الآن بهدوء. القمر نصف بدر. طلبوا منهم أن يمشوا في الماء حتى بلغ الماء صدر الرجل. أحد المهاجرين عجوز يترنح بين الأمواج صار ينوح وجلا وتوترا وحزنا. صعد محمد للقارب وعلى الفور أمروه بالنزول للطابق السفلي. قال لا أريد. أشهروا السلاح في وجهه فنزل. لا يعرف كم مضى عليه من الوقت في علبة السردين المعتمة. و اليوم يشرق وجهه كسيدنا يوسف يحفظ أحاديثا ويعرف في الفقه وينتظر التحاق خطيبته.
قال لي شقيقه يوسف. عام 1942 انتظر جده مصطفى حسن دهيس وصول الثائر السوري أديب الشيشكلي بشحنة سلاح إلى فلسطين قبل غرقها ببضع سنوات. دهيس مع الثوار الفلسطينيين. تأخر الشيشكلي (الرئيس السوري القادم) كثيرا عن الموعد ووصل في الهزيع الأخير من الليل واستقبله مصطفى حسن دهيس بوجه عابس. تجادلا في سبب التأخير والسوري على صهوة جواد والفلسطيني على الأرض فازداد برم دهيس وسحب الشيشكلي عن فرسة والقاه أرضا وطقعه كفا على رقبته. عام النكبة هجرت عئلة دهيس من فلسطين ووصلوا سوريا مطلع 1951 وكان الشيشكلي في درجة عليا من سلم استيلائه التدريجي على السلطة. ومن ثم صار رئيس البلاد. علم الشيشكلي بوصول دهيس إلى بعلبك فأمر بحسبه انتقامة من الصفعة. وبوساطة وجهاء تم إطلاق سراحه. علم يوسف عام 2017 أن عائلة سورية تحمل اسم شيشكلي قد هاجرت خلال الحرب السورية مؤخرا إلى لبنان وتم استضافتها عند عائلة فلسطينية فيها حفيد أحد بنات مصطفى حسن دهيس! لاجئ فلسطيني يؤوي عائلة تحمل اسم رئيس سوري سابق كرمال الضيافة السورية الكريمة خمسين عاما. يدور الزمن وتبقى الأصالة والنخوة للفلسطينيين رفيقا.
تلك لمحة من تاريخ القلوب الفلسطينية التقت في يوم واحد لإكرام ذكرى هاني أبو شقرة وشقيقه الرائع مهند أبو شقرة.
عاشت خفقات قلوب فلسطينيي الشتات حيث هم. وليبقوا روادا لكل خير. مرهفي الحس أذكياء قلوبهم لا ينسون
m.a