نتحاور بكياسة وفق آداب الاختلاف.
نشر بتاريخ: 2020-06-22 الساعة: 13:13بكر أبوبكر
يقول الله تعالى: (أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ ۚ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا) (82 النساء).
ويقول الشيخ السعدي في تفسيره، أي: فلما كان من عند الله لم يكن فيه اختلاف أصلاً، ما نفهمه أن كل الكلام من عند غير الله فيه الاختلاف، وبمعنى آخر أن الاختلاف سمة من سِمات البشر، ويضيف السعدي معلقًا على الآية: أمر تعالى بتدبر كتابِه، وهو التأمل في معانيه، وتحديق الفكر فيه، وفي مبادئه وعواقبه، ولوازمه، ذلك فإن تدبر كتاب الله مفتاح للعلوم والمعارف، وبه يستنتج كل خير وتستخرج منه جميع العلوم، وبه يزداد الإيمان في القلب وترسخ شجرته.
ومن هنا فإننا نصل لمنطق الحوار الذي يراه العرب العودة والرجوع الى الشيء وعن الشيء، وهنا لا نريد الغوص في تعريفات الحوار، أو المشاورة، ولكننا سنتحدث عن التعريف الذي يعتمده الكاتب د.إسحق رحماني[1] للحوار كما يعتمده الكاتب وليام اسحق[2] في كتابه الهام فن الحوار، وهو:أن نفكر معًا.
والذي يعتمد فيه على مهارات أربع وعلى أدوار أربعة، حيث يذكر أن المهارات الأربع هي مهارة الاستماع بغرض الفهم، ومهارة تأجيل الحكم أو تعليقه ومهارة احترام الجميع، ثم مهارة الكلام بكياسة.[3]
قَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: نِعْمَ الْمُؤَازَرَةُ الْمُشَاوَرَةُ وَبِئْسَ الِاسْتِعْدَادُ الِاسْتِبْدَادُ. وَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: الرِّجَالُ ثَلَاثَةٌ: رَجُلٌ تَرِدُ عَلَيْهِ الْأُمُورُ فَيُسَدِّدُهَا بِرَأْيِهِ، وَرَجُلٌ يُشَاوِرُ فِيمَا أَشْكَلَ عَلَيْهِ وَيَنْزِلُ حَيْثُ يَأْمُرُهُ أَهْلُ الرَّأْيِ، وَرَجُلٌ حَائِرٌ بِأَمْرِهِ لَا يَأْتَمِرُ رُشْدًا وَلَا يُطِيعُ مُرْشِدًا. وَقَالَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ: إنَّ الْمَشُورَةَ وَالْمُنَاظَرَةَ بَابَا رَحْمَةٍ وَمِفْتَاحَا بَرَكَةٍ لَا يَضِلُّ مَعَهُمَا رَأْيٌ وَلَا يُفْقَدُ مَعَهُمَا حَزْمٌ.[4]
المهارات الأربع للحوار
حين تستمع وهذا أولًا، عليك الاستماع للكلمات والمعاني، أن تستمع لماذا يقول ما يقوله؟ وماذا يمكن أن أتعلم منه؟ وأدقّق فيما قد فاتني،وأنظر للمفارقات والتناقضات أو التقابلات أو الطرائف، لذا فأنا أبقى صامتا ولكن منفعل روحانيا مع ما يُقال، فأنا استمع لأفهم.
وفي مهارة الحوار الثانية تبرز مهارة تعليق الحكم، حيث يؤجل المرء يقينه وثقته بما لديه من معلومات، وعليه بالحوار فهو يعمل على كشف الشكوك والاحتمالات الجديدة في الحديث، ولك أن تستفهم ولا تقف عند حد رأيك، وكما يقول وليام إسحق "عانق جهلك" وأقر بما لم تفهم، انتبه لرد فعلك الداخلي ولا تظهره خارجيا، واحتفظ بتوترك لنفسك، ويمكنك اختبار فرضياتك وفرضيات المتحدث فليس المطلوب منك إظهار الموافقة من عدمها.
وفي المهارة الثالثة يأتي احترام الجميع بأن تنسب الدوافع الايجابية لكل مشارك بالحوار، وأن تقدر كل ما هو جيد ولا تهمله، وأن تحترم كرامة المتحدثين بالحوار، فلهم شرعية الحديث وأحقية التعبير كما لهم انسانيتهم التي لا يجب التعدي عليها، والى ذلك قاوم رغبتك باللوم أو الهجوم ولاتنكر على الآخرين حقهم بالرأي والمخالفة ولا تنبذهم ولا تنشيء خصومة بل ولا تهمل ملاحظاتهم، فاحترامك لنفسك والجميع يظهر هنا، مانبذت العنف اللفظي والنفسي.
أما المهارة الرابعة فهي كما يقول وليام إسحاق تحدث بصوتك أو ما نعربها نحن بالقول تحدث بكياسة، و"المؤمن كيّس فطِن" في المأثور العربي ما تعني به الكياسة التهذيب والهدوء وحسن الفهم والسلوك، ومن هنا كن صبورًا واجمع أفكارك وعندما تتكلم تكلم مباشرة وبصدق آخذا بالاعتبار التجهيز للكلام بأن تعرف ما المهم الذي يجب أن تقوله. فليس كل ما تفكر به يقال. وعليه اعرض رأيك وشارك مشاعرك واهتماماتك، بل وعبّر ما شئت عن حقيقة ما بداخلك بكياسة ولتربط بتجاربك، وحين تستفهم فأنت تستعلم حقا وليس بغرض المناكدة أو المناكفة أوالقتال. أنت هنا بالحقيقة تتكلم بشجاعة دون سخرية أو إهانة مبطنة أو شتائم أو تهجمات لذا عليك الظهور بكياسة كما بدأنا القول ليكون الحوار حقا يعني أن نفكر معا.
أدوار الحوار الأربعة
وحين يتحدث الكاتب وليام إسحاق عن أدوار الحوار الأربعة فإنه يعتبرها كالتالي:
1-حرك وبادر: وهو دور من يبدأ بالحديث ويفتتح الحوار أو يمسك بخيطه ويتقدم.
2-ادعم ولاحق وتتبّع: وفيه تتم مناصرة الحديث، أو تأييده أو الاشتقاق منه ما يقويه أو يدعمه.
3-عارض أو انتقد: لغرض تبيان المشاكل والصعوبات والعقبات
4-راقب وتأمل، وهذا دور المتفرج الذي قد يراه البعض سلبيا، ولكنه إن تم اتخاذه منصة تأمل فإن بإمكانه أن يقدم أفكارا جديدة مستمدة من الأقوال المتعارضة أو أن يقدم مسارا أو اتجاها جديدا.
وهنا تصبح الأدوار الحوارية متكاملة في ظل فهم أنها حركية منتقلة، أي يتم تبادلها بين المتحاورين، ولا تكون متوقفة عند حد شخص محدد، ما قد يؤشر على المناكفة اوالسيطرة أو الجمود.
إن الديمقراطية التزام وحوار، ضمن أحد أهم التعريفات للديمقراطية، والحوار أن نفكر معا كما قلنا، فيما أن الاختلاف هو الضد والمغايرة والمعارضة التي قد تفهم في إطار الصراع إيجابا متى التزمت بالآداب وقد تصبح معركة "قاتل أو مقتول" حين يحتفظ كل برأيه ولا يحيد عن معسكره أو عن قوالبه العقلية الجامدة أو المصبوبة.
الأسس العشر لأداب الاختلاف
وكنا قد كتبنا في هذا موضوع سابق[5] سنعيد هنا طرحه في إطار تلخيصي مبتدئين بقوله تعالى من سورة هود:(وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً ۖ وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ (118) إِلَّا مَن رَّحِمَ رَبُّكَ ۚ وَلِذَٰلِكَ خَلَقَهُمْ ۗ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (119)، وفيها تأكيد على فكرة الاختلاف كموضوع في النفس البشرية وضرورة تفهمها والتعامل معها.
فهم يظلون مختلفين إلا من رحم ربك فلهؤلاء الجنة ولهؤلاء النار هذا في إطار الايمان بالتوحيد من عدمه.
وفي الإطار الانساني العام مساحة واسعة رحبة للتعاطي مع الاختلاف بين الأمم والسعوب والقبائل والشخصيات والمواقف، حيث كانت مشيئة الله ألا يجعل الناس أمة واحدة لذا أعطانا المولى العقل لنستبين الحق عبره ونتوازن، فكتب على البشر الصراع والاختلاف وأعطاهم الحق المبين وفهم الآخر وأدوات الحوار التي تتكرر بالقرآن الكريم بشكل سلس حتى بين الله سبحانه وعبيده بل بينه وبين إبليس كنماذج لفهم أن الطبيعة الانسانية التي تحتوي على الحق والباطل معا هي نفس في صراع دائم لا تستقر ولا تهدأ الا بالجهاد الداخلي المستمر.
ونحن في إطار الأسس العشر للحوار
أولا: الايمان بالاختلاف من أصله: وحيث نفهمه تنوع لا تطابق، ونفهمه ثراء لا إفناء، وغنى لا تجريد حراب، وهنا أيضا يكون الحوار مقدمة لازمة لاي حوار بين الأطراف ضمن فهمه ذو نتيجة
ثانيا: الاعتزاز بالرأي مع مساحة تغيير: لطالما كرّر صلاح خلف أبوإياد القائد العربي الفلسطيني مقولة فولتير (قد اختلف معك في الرأي ولكني على استعداد لتمكينك من قول رأيك)، وذلك حين تظهر الخلافات بين الفصائل في الساحة الفلسطينية، ما يعني أن الثقة بالرأي ورجاحته لا تمنع من الاستماع للرأي الآخر، بل وعدم منعها مع التمكن من ذلك، بل الدفاع عنها والسماح لها بالتعبير. إذ يجب أن تكون المساحة متاحة في سياق حركيّة الأفكار وتداخلها وامكانية تغيرها أوتثبيتها أو إلغائها.
ثالثا: اعتماد الشك مدخلا لليقين:ولأن الفكرة حركية، متحرّكة، أي غير مستقرة فهي تنتظر الإثراء من الرأي المخالف، أو من التفكر والتأمل، فإن الشك هو مدخل التثبت واليقين أو عدمه.
يعتبر الفيلسوف "ديكارت" صاحب مذهب الشك المعرفي، حيث كان الحل في نظر "ديكارت" للوصول إلي حقيقة بواطن الأشياء، هو عدم الإيمان بها، فكفر بكل ما توصل إليه من حقائق وقرر عدم تصديقها، حتى ولو كان مؤقتًا، باعتقاده أنه إذا استمر في الإيمان بها، فلن يعرف أبدًا إن كان على صواب أم على خطأ.
الا أن المفكر الاسلامي والفقيه الكبير أبوحامد الغزالي قد سبق ديكارت بذلك حيث يقول(من لم يشك فلم ينظر"ينظر بمعى يتفكر"، ومن لم ينظر لم يُبصر، و من لم يُبصر، يبقى في متاهات العمى.) وليقترن الغزالي بمقولة "علمني الشك اليقين".
رابعا: الانفتاح العقلي ونقض القوالب المصبوبة: فالعوائق للحوار والمطبّات في تبني أدب الاختلاف كثيرة منها السطوة والنفوذ الشخصي والهوى الذاتي وافتراض العصمة أو الحق المطلق والارتباط بالتحيزات المسبقة ضد أو مع، وأيضا بتمكن القوالب الجامدة في عقل المرء ما يمنعه عن الانتقال لمساحات الآخرين يسيح فيها ليفهم ويتعلم.
إذ تصبح القوالب المصبوبة هذه أداة هدم للحوار، وبابا مغلقا عليه، وتخليدا للاختلاف حيث منطقة الاتهام المشطّ أو الدفاع الثأري.
خامسا: احترام الرأي المخالف: فمن أشكال الاحترام للآخر حُسن الاستماع اليه، وحُسن التعبير عن قبول أو رفض رأيه، أو جزء منه. ومن معايير الاحترام عدم اللجوء للسخرية أو التتفيه أو التسخيف للآخرين، وعدم نعتهم بنعوت منفرة أومؤذية، بل عدم توصيف ذواتهم أصلا.
سادسا: الاختلاف مدخل الاستفادة، حيث (لا يزال المرء عالما مادام في طلب العلم فإن ظن أنه قد علم فقد بدأ جهله) كما يقول الفقيه والمحدث والمؤرخ الاسلامي ابن قتيبة.
ومن هنا يتأخر العالم القابض على علمه لا يتزحزح عنه، يتأخر عن الركب في ظل فيض المعلومات والتغيرات في المناهج البحثية وفي المكتشفات الكثيرة، في عالم المعرفة المفتوحة. فالفكر الجامد عقدي كان أو سياسي أو اقتصادي أو ثقافي او غيره عندما يجمد عند أسلوب أو نمط معين يتكلس ويتجمد.
وعليه فإننا مطالبون بالاستفادة من كل جديد دوما ليس بالضرورة الأخذ به كله، بل تفحصه وتأمله والتفكر به على الأقل. وهذا يحتاج منا قراءة ومران وتدريب وحوارات وإيمان بالحق عند غيري.
روى ابن عبد البر صاحب كتاب جامع بيان العلم وفضله عن بعض السلف قال: "من لم يسمع الاختلاف فلا تعدوه عالماً".
ويقول بشار بن برد في ضرورة مشورة الآخر، وقد يكون المخالف لك
إذَا بَلَغَ الرَّأْيُ الْمَشُورَةَ فَاسْتَعِنْ ... بِرَأْيِ نَصِيحٍ أَوْ نَصِيحَةِ حَازِمِ
وَلَا تَجْعَلْ الشُّورَى عَلَيْك غَضَاضَةً ... فَإِنَّ الْخَوَافِيَ قُوَّةٌ لِلْقَوَادِمِ.
سابعا: التوجه بالنقد للفكرة لا للشخص أبدا، وفي هذا يقول الإمام علي بن أبي طالب رضي الله عنه لأصحابه: (أكره لكم أن تكونوا سبابين، ولكن لو وصفتم أعمالهم وذكرتم حالهم كان أصوب).
وكان يقول لنا المفكر العربي خالد الحسن (لا تنتقدوا الشخص وانتقدوا الموقف فأنتم اليوم ضد هذا الموقف مع ذات الشخص وقد تكونوا غدا معه في موقف آخر فلا تخسروه بشتمه شخصيا).
قال يونس الصدفي: ما رأيت أعقل من (الإمام) الشافعي، ناظرته يوماً في مسألة ثم افترقنا، ولقيني فأخذ بيدي ثم قال: " يا أبا موسى ألا يستقيم أن نكون إخواناً وإن لم نتفق في مسألة!"
ثامنا:حسن الإنصات والفهم: يذكر أحد الكتاب نقلا عن العالم الإماراتي المعروف بن بيّه أنه كان في مجلس علمي تحدث به الجميع إلا هو ثم خرجوا وكان معه قريب له تأذي من عدم حديثه فراجعه بذلك، فما كان من العالم الجليل إلا أن قال له: (لا تنتصر لنفسك بكثر الكلام)
ففي حسن الإنصات كما ذكرنا ضمن قواعد الحوار ما يفي بالغرض في هذه المقالة المكثفة.
تاسعا: وضع القواعد أو أطر الخلاف والحوار، وهي مقدمة أي حوار كي يكون الخلاف فيه منضبطا بما يقرّه المجتمعون حيث: الدور والوقت واحترام اللقاء وقدسية الفضاء المشترك، والالتزام بحسن الاصغاء، وتبادلية التعبير عن الاحترام ولا فلا.
عاشرا: الصدق، فالمصداقية والثقة تكتسبات مرة إثر مرة وعندما تفقد مرة يصبح من الصعب العودة لمراكمتها، لذا فصدق الحديث يؤشر على الشخصية وصدق الاستدلال والمرجعيات والتفسير والنقولات ما هو من موجبات النظر السليم.
وليس لنا هنا الا الإشارة لمسيرة أصدق الخلق محمد صلى الله عليه وسلم الذي لقب بالصادق الأمين، ونقول أيضا كما قال الله عز وجل: (إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللّهِ وَأُوْلئِكَ هُمُ الْكَاذِبُون). وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «يُطْبَعْ المؤمنُ على كُلِّ خُلُقٍ ليسَ الخيانةَ والكذبَ»، وقال عليه الصلاة والسلام: «إنما بُعِثْتُ لأتمم مكارم الأخلاق».
خاتمة
ونختم بالقول أن الحوار أو آداب الاختلاف من مضامين الاتصالات التي تحوز على معظم وقت الناس. وعليه فإن حُسن الاتصالات عامة، والحوار وآداب الاختلاف تخصيصا، تقتضي ثلاثا: فهي تقتضي ]التفهم[ للآخرالمختلف حُكما، و]التقبل[ لهذا الاختلاف فهو واقع، فقد نتقارب ونتفق وهو المراد وقد نختلف في جزئية أو كلية. لكن الثالثة وهي ]التجاور[ تعني أنه حال دوام الاختلاف والنظر فيجب أن أقر بوجود الآخر معي في نفس المساحة، ولا أطرده او أعزله أو أكفره أوأشيطنه.
وفي السياق يقول الإمام الشافعي (كلامي صواب يحتمل الخطأ وكلامك خطأ يحتمل الصواب) ويقول الشيخ رشيد رضا: "نتعاون فيما اتفقنا عليه، ويعذر بعضنا بعضا فيما اختلفنا فيه".