ازدواجية المعايير في الحُكم على الاحتجاجات الشعبية
نشر بتاريخ: 2020-06-12 الساعة: 18:02إبراهيم ابراش
ما تشهده مدن عدة في الولايات المتحدة الأمريكية من مظاهرات ضد العنصرية على إثر مقتل جورج فلويد يوم 25 مايو 2020 على يد رجال الشرطة وامتداد الاحتجاجات لعديد الدول الغربية يستحضر للنقاش والبحث مسألة حق الحكومات في اللجوء إلى القوة المسلحة لمواجهة مظاهرات واحتجاجات شعبية تهدد الأمن والاستقرار في البلاد، وازدواجية معايير الحكم سواء على سلوك الحكومات أو على التحركات الشعبية، وسنقارب الأمر من خلال ما يجري في الولايات المتحدة من احتجاجات شعبية وما جرى وما زال يجري في دول ما يسمى (الربيع العربي) .
عندما اندلعت مظاهرات واحتجاجات في دول ما يسمى (الربيع العربي) في بداية 2011 ولجأت الأنظمة السياسية لقمع هذه المظاهرات بذريعة الحفاظ على الأمن والاستقرار وقفت دول الغرب وعلى رأسها الولايات المتحدة الأمريكية ومعها حكومات غير ديمقراطية عربية وغير عربية ضد ما أسمته إرهاب الدولة وقمعها لحق الشعب بالتظاهر، وهذه الدول الغربية هي التي أطلقت وصف (الربيع العربي) على الحراك الشعبي.
كان مبرر دعم الغرب ومن يتبعه من أنظمة سياسية في المنطقة للاحتجاجات الشعبية العربية أن الشعوب تمارس حقها في التظاهر والاحتجاج في مواجهة أنظمة مستبدة وغير ديمقراطية، وحتى بعد تحوُّل هذا الحراك لعمليات عنف تقوم به جماعات إرهابية مسلحة تهدف لتدمير الدولة وإثارة الفتنة الطائفية والعرقية وتهدد وحدة الوطن لم تغير الدول الداعمة لهذا الحراك موقفها واستمرت في مد قوى المعارضة بالمال والسلاح والرجال، ولم تلتفت للمبررات التي قدمتها الحكومات سواء في تونس أو مصر أو سوريا أو ليبيا والتي تبرر سلوكها العنيف بأنه يندرج في سياق الدفاع عن النفس في مواجهة تدخلات خارجية، وممارسة حقها في حفظ الأمن والاستقرار ومواجهة قوى تهدد أمن واستقرار الوطن، وقد رأينا نتيجة هذا الربيع من خراب للأوطان واثارة للفتنة، دون أي تقدم يذكر في مجال الديمقراطية وحقوق الإنسان، بل إن من استلم السلطة كان أقل ديمقراطية وأقل احتراماً لحقوق المواطنين ممن سبقهم من حكام.
وفي المقابل وعندما تندلع احتجاجات شعبية في دول الغرب أو في دول موالية له حتى وإن حكمتها أنظمة دكتاتورية فاسدة تلتزم واشنطن ودول الغرب الصمت أو تنتقد هذه الاحتجاجات متهمة جهات خارجة عن القانون أو جهات أجنبية بالوقوف ورائها، والمثال الحي على ازدواجية معايير الحكم على الاحتجاجات الشعبية والكيل بمكيالين ما يجري في الولايات المتحدة هذه الأيام.
فمنذ اليوم الأول لخروج الجماهير في الولايات المتحدة ضد العنصرية المتراكمة منذ سنوات، وهي عنصرية لا نرى مثيلاً لها في العالم سوى في إسرائيل، أمر الرئيس الأمريكي فوراً بنشر الحرس الوطني وهدد بإنزال الجيش إلى الشوارع لقمع الاحتجاجات متهماً المتظاهرين بمثيري الشغب ومهددي وحدة الأمة، بل لم يتورع عن اتهام مجموعة "معاداة الفاشية" والمعروفة باسم "ANTIFA" بقيادة الاحتجاجات في ولاية مينيسوتا الأمريكية وأنه سيصنف هذه الحركة "منظمة إرهابية". كما وقفت بعض الحكومات الأوروبية إلى جانب الرئيس ترامب في التنديد بالمظاهرات والمتظاهرين.
لا شك أن حيز الديمقراطية وحقوق الإنسان في الولايات المتحدة ودول الغرب بشكل عام أكبر مما هو موجود في الدول العربية، ولكن علينا أن نتذكر أيضاً أن ما وصلت إليه دول الغرب من ديمقراطية كان نتيجة مراكمة إنجازات طوال مئات السنين وخلالها شهدت هذه الدول ثورات وحروب أهلية وتوالى على حكمها في بعض المراحل التاريخية أنظمة فاشية ونازية ودكتاتورية، وآل الأمر أخيراً لترسيخ حقوق المواطنة وفرض سيادة الدولة القومية، ومع ذلك وإلى اليوم تعاني هذه الدول من العنصرية والطبقية والتفاوت في الثروة كما تتزايد فيها النزعات اليمينية المتطرفة وتسيطر الليبرالية الجديدة المتوحشة.
أما في الدول العربية فهي حديثة العهد بالاستقلال وبالديمقراطية ولا يجوز أن ننتظر منها إنجاز حالة ديمقراطية شبيهة بما هو موجود في الديمقراطيات الغربية، كما أنها محل تهديد من طرف دول الجوار مما جعل الهاجس الأمني شغلها الشاغل، حتى وإن وظفت هذا الهاجس للحد من حريات المواطنين. هذا لا يعني دفاعاً عن الأنظمة العربية بما فيها التي تم اسقاطها خلال فوضى ما يسمى الربيع العربي حيث فسادها تجاوز الحدود، ولا انتقاصاً من حق الشعب بالتظاهر واللجوء لكل أشكال الاحتجاجات السلمية للمطالبة بالحريات والديمقراطية ومواجهة الفساد، إلا أن الذي جرى عربياً كان مخططاً لتدمير الدولة الوطنية والمشروع القومي العربي وإجهاض بوادر الانتقال الديمقراطي، وقد وظف الغرب وعلى رأسه أمريكا الغضب الشعبي والمطالب الشعبية المشروعة بالتغيير والديمقراطية لتنفيذ مخطط (الفوضى الخلاقة) التي تحدثت عنها كونداليزا رايس أثناء شغلها منصب وزير الخارجية الأمريكية 2006-2009 ، وما نشاهده اليوم في سوريا وليبيا يؤكد أكذوبة الربيع العربي ونفاق دول الغرب وغيرها من الأنظمة العربية والإسلامية التي دعمت وما زالت تدعم وتمول حالة الفوضى في سوريا وليبيا.
ازدواجية المعايير عند الأنظمة الغربية الرأسمالية جزء أصيل من سياساتها وسلوكها ومن فلسفتها البراغماتية التي تُعلي من شأن المصالح على المبادئ، فكيف يكون من حق الحكومة الأمريكية وحكومات الغرب أن تشرعن ممارستها العنيفة لقمع المتظاهرين في بلدانها وفي البلدان التابعة لها بذريعة حفظ الأمن والاستقرار ووحدة الدولة والمجتمع، بينما تنكر هذا الحق على غيرها من الأنظمة والحكومات؟ وكيف يكون المتظاهرون في عالم الجنوب وخصوصاً دول فوضى الربيع العربي على صواب ويجب الوقوف إلى جانبهم، بينما يتم الحكم على الجماهير الشعبية وقوى المعارضة في الدول الحليفة للغرب وعلى السود والملونين وقوى اليسار الرافضين للاستبداد والدكتاتورية وللعنصرية في الولايات المتحدة والغرب بأنهم يهددون مصلحة الوطن واستقراره؟ وكيف تصنف الولايات المتحدة حركات مقاومة فلسطينية تناضل ضد الاستعمار الإسرائيلي كجماعات إرهابية، والاستعمار أسوأ أشكال العنصرية؟.
لا نريد المبالغة في توصيف ما يجرى في الولايات المتحدة لدرجة اعتباره ربيعاً أمريكياً كما ذكر البعض لأن درجة الوعي العالية عند كل الأطراف الأمريكية وحرصها على وحدة الأمة والدولة وغياب التدخلات الخارجية المباشرة سيدفع جميع الأطراف لضبط الأمور ووقف التصعيد، وإن كان ما يجري سيغير كثيراً في الوضع السياسي والاجتماعي داخل أمريكا لصالح السود والملونين وكل الأقليات المضطَهدة كما أنه سيحد من قوة اليمين المتطرف، وقد تكون أولى إنجازات الاحتجاجات الشعبية قطع الطريق على ترامب لولاية ثانية، وهذا منوط بكيفية تعامله مع الاحتجاجات واستعداده لتقديم تنازلات والحد من سياساته الاستفزازية والعنصرية.
إن كنا لا نقلل من قيمة واهمية التقدم في مجال الحريات في الولايات المتحدة الأمريكية وفي الغرب عموماً إلا أنهم لم يعودوا واحة الديمقراطية والنموذج الذي يجب الاقتداء به، كما أن كيلهم بمكيالين في الحكم على الأنظمة السياسية والاحتجاجات الشعبية يشكك بكل مواقفهم السياسية ومزاعمهم بشأن الدفاع عن الحريات وحقوق الإنسان ومناصرة الشعوب المقهورة.
بالإضافة إلى ما سبق فإن ما يجري في الولايات المتحدة من احتجاجات شعبية وتنديد بقمع رجال الشرطة وبالرئيس المنتخب وبمؤسسات الدولة الرسمية يتطلب مقاربة جديدة للديمقراطية والانتخابات وما إن كانت الماكينة الانتخابية، في ظل تغول المال والإعلام وتفشي العنصرية والمد اليميني، قادرة على اختيار الأفضل لحكم الشعب. هذا ما سنتطرق له في مقال قادم.
m.a