الرئيسة/  مقالات وتحليلات

لنكن أقوياء .. فالمستقبل لنا

نشر بتاريخ: 2020-06-09 الساعة: 12:18

القائد الوطني الفلسطيني الشَّهيد صلاح خلف (أبو إياد) :

مناضلٌ ثوريٌ شُجاع، وصانعُ هُوِيَّة

 

الدكتور عبد الرحمن بسيسو

 

 من النكبة إلى الثورة

 

في المسافة الممتدة ما بين حي "الحمام المحروق" المواجه لبحر يافا، وقمة تلة تونسية تحتضن ضريحاً يجلله علمٌ فلسطيني، ويحيطه اخضرار شاسع، تُوجد أزمنةٌ ومسافات، تحتضن سيرة حياةٍ تجسد نصف قرن من مسيرة شعب أبى إلا أن يُواجه الموت من أجل بعث الحياة؛ تلك هي سيرةُ حياة القائد الفلسطيني المناضل صلاح خلف (أبو إياد) التي انبثقت مع إطلالة الوليد في الحادي والثلاثين من آب (أغسطس) للعام ألف وتسعمائة وثلاثة وثلاثين، والتي كان لاستشهاد صاحبها، في الخامس عشر من (كانون الثاني) يناير للعام ألف وتسعمائة وتسعين، أنْ يبث في عروقها أنساغاً تكثف حضورها المتألق في ذاكرة الشعب الفلسطيني، وفي صلب مكونات هويته الوطنية التي يصوغها بدم قلبه، بانتفاضته الدائمة، وببسالة أبنائه وبناته التي تضيء رؤيته، وتفتح آفاق مستقبله، ورؤاه.

 

 

 

الاقتلاع من الوطن وارتسام الصورة الأخيرة

 

 

 

في الثالث عشر من العام ألف وتسعمائة وثمانية وأربعين؛ عام النكبة الكبرى، أفضت المجازر وأعمال الإبادة الجماعية التي واصلت عصابات الهاغانا (الجيش الرسمي للوكالة اليهودية) تنفيذها بحق الشعب الفلسطيني في مدينة يافا، إلى اقتلاع آلاف الأسر الفلسطينية من بيوتها، لتلقي بها في البحر، تحت وابل كثيف من القذائف التي تملأ سماء يافا، وتغطي بحرها، وتتفجر، هنا وهناك، ناراً وحقداً. وكانت أسرة الشبل صلاح خلف، المنخرط منذ عامين في فرع الأشبال بمنظمة النجادة (المنظمة الفلسطينية شبه العسكرية التي أنشئت لمقاومة الهاغاناة) واحدة من الأسر التي لم يبتلعها البحر، حيث تمكنت من الصُّعود إلى مركبٍ متهالك حملها إلى شاطئ غزة، لتجد نفسها عاريةً من نفسها، منتزعةً من مسقط رأسها، وملقاةً في عراء عالم ضارٍ، هو عالم الاقتلاع والنفي؛ عالم المتاهة.

 

 

 

كانت الصورة الأخيرة التي ارتسمت في عيني الشبل صلاح، وسكنت وجدانه، هي صورة وطن يمعن في الغياب الموضوعي كلما ابتعد القارب عن ذلك الشاطئ اليافاوي الملتهب بالنار، وفي اللحظة التي تشكل فيها نسق الاقتلاع من الوطن (البيت المقصوف بالقنابل والشوارع المغلقة، والمحاصرة باللهيب، والمكتظة بحشود هائمة على وجوهها وليس أمامها إلا الطريق المؤدي إلى البحر – المنفي)، كان الوطن يمعن في الحضور داخل وجدان هذا الشبل، بقدر غيابه عن بصره، وكان نسق استرجاع الوطن والتشبث به، قد شرع في التحقق المجرد داخل هذا الوجدان الذي لم يكف أبداً عن مطالبة صاحبه، الذي أسكن الحقدُ الصهيوني في قلبه حقداً متأصلاً على الحركة الصهيونية وإصراراً عنيداً على مقاومة مشروعها العنصري البغيض، بأن يجعله واقعا يتحقق، ويحقق للشعب الفلسطيني حقه الأسمى في تحقيق ذاته وبناء هويته وتقرير مصيره في وطنٍ يستعيده، ويُعيد بناءه.

 

 

 

 

 

ضراوة المنفى وسنوات الجمر

 

 

 

لم تحمل الحياة في غزة للفتى الفلسطيني المقتلع من مدينته يافا، ولأسرته، إلاَّ قسوة المنفى وضراوته (1)، وكذلك هي الحال بالنسبة إلى جميع الفلسطينيين الذين اقتلعتهم الصهيونية من بيوتهم وقراهم وبلداتهم ومدنهم، التي هي مسقط رؤوسهم، وبؤر انتمائهم للوطن، والتي لا يملكون، ولا يراودهم قط، ترف التخلي عن حقهم الطبيعي والقانوني الأصيل في العودة إليها.

 

 

 

إزاء الحاجة الماسة لتوفير مبلغٍ من المال يكفي لتأمين مسكنٍ وإعاشةٍ لأسرة مكونة من سبعة أفراد، وإزاء آلام الأب وأحزانه الناجمة عن عجزه عن إيجاد عمل يوفر له دخلاً دائماً، كان على الفتى صلاح وشقيقه عبد الله أن يبادرا، من دون إطلاع الأب على الأمر، إلى البحث عن عمل يحصلان منه على أجر يمكنهما من تأمين حياة كريمة لأسرتهما؛ فتمكن الشقيق الأكبر من العمل كاتباً في ورشة للنجارة، بينما تمكن صلاح من إيجاد عمل في مصنع للكراسي بأجر شهري قدره جنيهان مصريان، وذلك قبل أن يحمله العوز وإغراء الحصول على راتب شهري قدره عشرة جنيهات، إلى الانتقال للعمل في مقهى الكمال في وسط مدينة غزة، متجاوزاً بذلك سلطة الأب التي يُجِلُّها، ومخترقاً "التابو" العائلي الذي يعتبر العمل في مقهى عملاً شائناً.

 

 

 

وكان على صلاح وشقيقه أن يقطعا مع مطلع كل صباح ما لا يقل عن خمسة كيلومترات مشياً على الأقدام لتلقي العلم والمعرفة في مدرسةٍ اكتظت فصولها بالتلاميذ، وأن يذهبا إلى العمل فور خروجهما من المدرسة، وأن يمكثا قسطاً كبيراً من الليل في مراجعة دروس الصبا ح وإكمال الواجب المنـزلي والتحضير لدروس الغد. ولم يكن بمستطاع الشقيق الأكبر أن يكمل تعليمه، وربما كان ذلك لرغبة منه في ممارسة مهنةٍ أحبها أو لتحسسه حاجة الأسرة إلى مزيد من المال. أما صلاح فقد حصل، في العام 1651، على شهادة تؤهله للالتحاق بالجامعة، فالتحق في العام نفسه بكلية دار العلوم القاهرية، متخصصاً في الفلسفة وعلم النفس.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

منطلق النضال وبناء الذات

 

 

 

ولم يكن العام 1951، بالنسبة إلى صلاح خلف الشاب، عاماً لبدء الحياة الجامعية والتحصيل العلمي العالي، فقط، وإنما كان أيضاً منطلقاً لنضالٍ وطنيٍّ لم يكف أبداً عن التصاعد والارتقاء، على امتداد أربعة عقودٍ جسدت التاريخ الشخصي لإنسان فلسطينيٍّ اقتلع من وطنه، فما أطال الوقوف حتى أدرك أن بناء ذاته وصوغ هويته، لا ينفصلان عن إلزام نفسه على نحو صارمٍ، وعنيد، بالعمل على إنهاض شعبه لمواجهة الموت المحدق به في المنافي وتحت نير الاحتلال الصهيوني البغيض، وذلك عبر الانخراط في حركة تحرر وطني تحشد طاقات الشعب وموارده؛ تصوغ هويته الوطنية وتشكل ذاته الكلية الجامعة؛ وتفتح أمامه آفاق مسيرة نضالية يستعيد عبرها وطنه المسروق، ويحقق هدفه الأسمى في تحرير هذا الوطن، وفي إعادة بنائه.

 

 

 

وقد كان للعقد الأول من بين هذه العقود الأربعة؛ إي عقد الخمسينيات، أهميةً حاسمةً وتأسيسية في تاريخ الحركة الوطنية الفلسطينية المعاصرة، وذلك على المستويات التنظيمية والفكرية والسياسية، فخلال العام الأول من هذا العقد التقى صلاح خلف طالباً فلسطينياً يدرس في كلية الهندسة بجامعة القاهرة، وكان هذا الطالب الذي انجذب إليه الشاب صلاح خلف، وأعجب بما يتمتع به من ذكاء وفراسة وقوة ذاكرة وحيوية وروح مغامرة، مسؤولاً عن تنظيم تدريب عسكري لطلاب كلية الهندسة الراغبين في الالتحاق بالفدائيين الذين يقاومون القوات البريطانية في منطقة قناة السويس، وكان منخرطاً، مثل صلاح نفسه، في العمل النقابي في إطار رابطة الطلاب الفلسطينيين التي كانت تضم الطلاب الجامعيين الفلسطينيين الدارسين في مصر على اختلاف مشاربهم الفكرية ونزعاتهم السياسية (الإخوان المسلمون، الشيوعيون، القوميون العرب، البعثيون)، ولم يكن هذا الطالب إلا ياسر عرفات الذي سيعرفه العالم بعد حوالي سبع عشرة سنة؛ وتحديداً في 15 نيسان (أبريل) 1968؛ وعبر بيانٍ أعلنه صلاح خلف (2)، باسم "أبو عمار"، وذلك بوصفه ناطقاً رسمياً باسم حركة التحرير الوطني الفلسطيني (فتح)، وقائداً لقوات العاصفة.

 

 

 

عقد التأسيس: النضال المعلن والسري

 

 

 

يبدو أن التعرف إلى ياسر عرفات كان منطلقاً لبدء العمل النضالي المشترك، على مستويين: معلن وسري، أما المستوى المعلن فقد تجسد في العمل ضمن إطار رابطة الطلاب الفلسطينيين، بينما شرع المستوى الثاني في التبلور من خلال المناقشات التي تواصلت على امتداد بضع سنوات بين الشابين ياسر عرفات وصلاح خلف، وشباب آخرين غيرهما ولا سيما أربعة من أولئك الذين شكلوا(3)، في أيلول (سبتمبر) من العام 1952، قائمة "أنصار رابطة الطلاب"، وهي القائمة التي جسدت شكلاً من أشكال الوحدة الوطنية (ستة أعضاء من مجموعة ياسر عرفات وصلاح خلف، وعضو واحد لكل من الإخوان المسلمين، الشيوعيين، والبعثيين) وقد فازت هذه القائمة بالانتخابات، وجرى تعيين ياسر عرفات رئيساً وصلاح خلف نائباً له.

 

 

 

نهضت فكرة الوصول إلى قيادة رابطة الطلاب الفلسطينيين؛ وهي الإطار الفلسطيني الوحيد، في ذلك الوقت، الذي يجسد شكلاً من أشكال الكيانية الفلسطينية الممثلة لقطاعٍ من قطاعات الرأي العام الفلسطيني، عبر تشكيل هذه القائمة الانتخابية، على مبدأ أساسي كانت المناقشات بين ياسر عرفات وصلاح خلف، وغيرهما من الطلاب، بشأن المسألة الفلسطينية وممارسات الأحزاب والتجمعات السياسية العربية القائمة، وإيديولوجياتها وبرامجها السياسية، قد بلورته، ومؤدى هذا المبدأ هو أنَّه ليس للشعب الفلسطيني، الساعي إلى تحرير وطنه والعودة إليه، أن ينتظر شيئاً ذا مغزى من الأنظمة العربية الفاسدة في معظمها، كما أنه يخطئ تماماً إنْ هو واصل المراهنة على الأحزاب السياسية القائمة، وليس لهذا الشعب أن يعتمد إلا على نفسه، عبر الانخراط في حركة تحرر محض وطنية، جامعة ومستقلة كلياً، وتكرس نفسها تكريساً تاماً لتحرير فلسطين.

 

 

 

ويبدو أن هذا المبدأ قد نهض على توجهٍ فكريٍّ أساسيٍّ التفت حوله ثلة من الشباب المتحمس، وهو توجه ليبرالي ذي طبيعة قومية مدنية (علمانية)، يتجاوب تماماً مع ما كان يراه صلاح خلف، طالب الفلسفة وعلم النفس، ميلاً طبيعياً في نفسه المسكونة بالتسامح وباحترام الآخر وفهمه عبر التعامل معه كذات حرة، غير أن هذا التوجه لم يكن قد تبلور على نحو كافٍ، وإنما ظلَّ لسنوات طويلة، وربما إلى الآن وبسبب من إعطاء حركة فتح أولوية أكبر للممارسة على التنظير، مجرد توجه عام لا يزال ينتظر، كما يرى صلاح خلف نفسه(4)، المزيد من التوضيح على مستويي الشكل والجوهر.

 

 

 

ولكن السؤال الذي يفرض نفسه، الآن، هو: كيف تمكنت هذه القائمة من الفوز في ظل هيمنة شبه تامة للأحزاب السياسية القائمة، وتعاطف كبير معها في صفوف الطلاب الفلسطينيين؟

 

 يُرجع صلاح خلف أسباب هذا الفوز إلى عاملين أساسيين:

 

*أولهما: العلاقات الشخصية الجيدة التي أقامها هو وياسر عرفات مع الطلاب الفلسطينيين من دون تمييز لانتماءاتهم السياسية، واستعدادهما التام لقيادة مظاهرات الاحتجاج، وتقديم التضحيات، في الدفاع عن مصالح الطلاب وحقوقهم النقابية والسياسية؛ **وثانيهما: العمل على تحييد الأحزاب السياسية القائمة وعدم تحدّيها أو مخاصمتها، بل السعي لإقامة تحالف معها في إطار قائمة وحدة وطنية.

 

ويبدو أن جوهر الأمر يتلخص في قدرة صلاح خلف وياسر عرفات على التقاط اتجاه الحساسية الفكرية والسياسية للطلاب الفلسطينيين، ولربما لأبناء الشعب الفلسطيني والعربي عموماً، وهو، من جهة أولى، الاتجاه نحو حشد القوى في عمل وحدوي يهدف أساساً إلى تحرير فلسطين، سواء أكان ذلك على مستوى الشعب الواحد أو على مستوى الشعوب العربية بأسرها، ومن جهة ثانية، تحقيق استقلالية العمل النقابي والوطني الفلسطيني عن الأنظمة، وعن الأحزاب التابعة لها، أو ذات الفكرانيات (الإيديولوجيات) المغلقة على الماضي، أو المسكونة بتطلعات حالمة (يوتوبيا) لا تتجاوب مع شروط الواقع الماثل في الأقطار العربية وحاجات شعوبها، على تباين هذه الشروط والحاجات وتكاملها، أو تتعارض مع مكونات الثقافة العربية، ومع أولويات العمل الوطني التحرري.

 

 

 

مثَّل العمل في إطار رابطة الطلاب، بل وقيادة هذا الإطار النقابي – السياسي، مجالاً حيوياً، خصباً وملائماً، للتحرك على المستويين المتكاملين: المعلن، والسري؛ فعلى المستوى الأول خاضت الرابطة نضالاً متواصلاً من أجل الدفاع عن حقوق الطلاب وتوفير حاجاتهم الأساسية، وتلبية مطالبهم المبررة(5). وقد قدمت قيادة الرابطة تضحيات بالغة، لعل أبرزها التعرض للاعتقال والسجن والتعذيب؛ فعلى سبيل المثل، قررت جامعة الدول العربية في شهر تشرين الثاني (نوفمبر) 1952، للمرة الثانية(6) ، إلغاء المساعدات المالية المتواضعة جداً التي كانت تدفعها للطلاب الفلسطينيين المحتاجين، مما دفع الرابطة إلى الشروع في إضراب عام، وإلى الاعتصام داخل مقر جامعة الدول العربية، ولم يبد مسؤولو جامعة الدول العربية(7) أي استعداد للتراجع عن القرار بإدراك مدى حاجة الطلاب الفلسطينيين المفتقرين إلى أسر تستطيع الإنفاق على تعليمهم إلى هذه المساعدة، بل إنهم لجأوا إلى استدعاء قوات الأمن التي فرقت المضربين المعتصمين بالقوة، واعتقلت تسعة عشر طالباً اشترطت للإفراج عنهم أن يسلم صلاح خلف نفسه إليها، باعتباره منظم الإضراب وقائده. وهو ما حدث بالفعل، حيث سلَّم صلاح خلف نفسه بناءً على نصيحة ياسر عرفات الذي كان قد التجأ إلى شقة عائلته في مصر الجديدة، ولم يُفرج عن صلاح خلف إلا بعد خمسة وثلاثين يوماً (8)، وذلك عقب تدخل أحمد الشقيري، الذي كان يشغل في جامعة الدول العربية وظيفة الأمين العام المساعد للشؤون الفلسطينية.

 

 

 

يمثل هذا الشكل من أشكال النضال المطلبي والسياسي، وحملات ممارسة الضغط، وهو الشكل الذي تكرر مرات عديدة، ولا سيما عقب الغارة الإسرائيلية على غزة في شباط (فبراير) من العام 1954، منحىً أساسياً للتحرك اعتمدته رابطة الطلاب الفلسطينيين، ومن بعدها الاتحاد العام لطلبة فلسطين على امتداد تاريخ نشاطه وفاعليته النقابية والسياسية.

 

 

 

أما المنحى الثاني للنضال المعلن لرابطة الطلاب الفلسطينيين، فقد تمثل في السعي الحثيث لتوعية الرأي العام العربي والعالمي بالقضية الفلسطينية، واكتساب دعمهما للحقوق الوطنية للشعب الفلسطيني، وتحضيرهما لاستقبال انطلاقة الهيكل الوطني الفلسطيني المستقل الذي يجري الإعداد لتأسيسه في الخفاء؛ ليمثل الكينونة الوطنية الفلسطينية، ويعكس تطلعات الشعب الفلسطيني وآماله في الحرية والاستقلال. ولعلَّ أبرز ما تمكنت الرابطة من إنجازه في هذا السياق يتركز في العلاقات التي أقامتها مع اتحاد الطلاب العالمي IUS الذي كان يتخذ من براغ مقراً له، وفي تمكنها من الحصول على دعوة للمشاركة في المؤتمر العام للاتحاد الذي عُقد في تموز (يوليو) 1954 في مدينة فرصوفيا، وهو الأمر الذي أتاح لوفد الرابطة(9)، الذي ترأسه ياسر عرفات، أن يطرح القضية الفلسطينية أمام المؤتمرين، وأن يؤسس علاقات مع اتحادات وهيئات نقابية عديدة، وهي العلاقات التي جرى تمتينها وتطويرها على امتداد السنوات اللاحقة، سواء عبر الرابطة أو عبر الاتحاد العام لطلبة فلسطين الذي حلَّ محلها في التاسع والعشرين من تشرين الثاني (نوفمبر) 1959.

 

 

 

الأفكار والمبادئ العامة

 

 

 

أشرنا قبلاً إلى أن رابطة الطلاب الفلسطينيين قد مثلت المجال الحيوي والإطار الخصب للعمل النضالي السري وذلك للوفرة التي أتاحتها في مجال المعلومات والاتصال بالطلاب الفلسطينيين، وللغطاء الذي وفرته لإتمام الاتصال بهم وإقامة علاقات وطيدة معهم، وتجنيدهم، وذلك من دون إثارة ريبة سلطات الأمن وتوجسها. وقد استندت هذه الاتصالات والعلاقات، العامدة إلى تجنيد الأعضاء الفرديين في إطار نمط التنظيم العمودي تمهيداً لانخراطهم في بنى الهيكل التنظيمي المحتمل إنشاؤه، إلى طائفة من الأفكار والمبادئ العامة المتفق عليها بين أربعة أشخاص على الأقل ممن سيشكلون، فيما بعد، القيادة التاريخية لحركة فتح. وقد جرت مناقشة هذه الأفكار والمبادئ مع الأشخاص المرشحين للتنظيم بوصفها أفكاراً ومبادئ قابلة لمزيدٍ من العقلنة والتطوير، وذلك بحسب توضيحات صلاح خلف الواردة في مواضع مختلفة من كتابه "فلسطيني بلا هوية". ولعلنا نستطيع تحديد هذه الأفكار والمبادئ، وصياغتها، على النحو التالي:

 

 

 

الموقف من الأنظمة العربية: إن الارتياب في الأنظمة العربية، محافظة أو تقدمية، يستند إلى تحليل موضوعي لأوضاعها وعلاقاتها واستراتيجياتها السياسية والعسكرية، وسلم أولوياتها، كما يستند إلى التجربة الواقعية؛ فالأنظمة العربية تقدم مصالحها الأنانية الخاصة على تحرير فلسطين، وليست الأعمال الفدائية التي تشنها مجموعات تابعة لأجهزة مخابرات البلدان المجاورة، وتحديداً مصر وسوريا، إلا مشاريع عارضة تمليها مصلحة الدولة، وحاجاتها الخاصة، فحسب. وليس أدل على ذلك من أن هذه الدول تسعى لإجهاض أي عمل فدائي؛ فتوقف الفدائيين الفلسطينيين، وتعتقلهم وتعذبهم، سواء قبل وصولهم إلى أهدافهم داخل فلسطين أو عند عودتهم. إن انتظار قيام الأنظمة العربية الفاسدة في معظمها، أو المرتبطة بالإمبريالية، بالعمل على تحرير فلسطين، ليس إلا ضرباً من الحمق.

 

 

 

الموقف من الأحزاب العربية: إنَّ المراهنة على الأحزاب السياسية القائمة، وضمنها الأحزاب العروبية، يسارية أو يمينية، ليست إلا ضرباً من الوهم، فقد جعلت هذه الأحزاب من الإيديولوجيا بديلاً لتحرير فلسطين، أو هي، في أحسن الأحوال، تعطي لتحرير فلسطين أولوية ثانية، ولذا فهي تشكيلات سياسية سلبية تعيق العمل على تحرير فلسطين بإصرارها على بيع الوهم، وعلى تشتيت الشعب الفلسطيني.

 

 

 

الاعتماد على النفس لإنشاء هيكل وطني تحرري فلسطيني وإشعال الكفاح المسلح: ليس للفلسطينيين، الساعين إلى تحرير وطنهم، إلا الاعتماد على أنفسهم عبر حشد طاقات الشعب الفلسطيني، وتوظيف موارده البشرية والمادية، من أجل تأسيس هيكل وطني تحرري فلسطيني مستقل، وإشعال الكفاح المسلح ضد إسرائيل. إن تجربة جبهة التحرير الوطني الجزائري، ونجاحها المتواصل منذ تأسيسها في العام 1954، تفتح أمام الفلسطينيين أفق التفكير في إنشاء حركة تحرير واسعة تكون ضرباً من الجبهة التي تضم الفلسطينيين من جميع الاتجاهات، بحيث ينتمون إليها بصورة فردية، وذلك بغرض إشعال الكفاح المسلح في فلسطين.

 

 

 

الكفاح المسلح: الكفاح المسلح، أو العنف الثوري، هو وحده القادر على التسامي فوق الإيديولوجيات المتباينة والمتصارعة؛ وهو الطريق الوحيد لتحرير فلسطين، ولا بد أن يمارس، في المرحلة الأولى على الأقل، من قبل الجماهير الفلسطينية بقيادة فلسطينية مستقلة تماماً عن الأحزاب والدول. ولكن دعم العالم العربي الفعَّال هو أمر لا غنى عنه لنجاح المشروع، شريطة أن يحتفظ الشعب الفلسطيني لنفسه بسلطة التقرير، وبدور الطليعة.

 

 

 

الوحدة العربية: ليس للفلسطينيين الساعين إلى أخذ زمام المبادرة وتنظيم أنفسهم من أجل تحرير وطنهم أن يوسموا بأنهم انفصاليون، أو بأنهم أبطالٌ للوحدة العربية، فهم يدركون تماماً أنه ليس في وسعهم أن يحرروا وطنهم من غير دعم العرب، ولكنهم يسعون لأن يكونوا هم رأس حربة لإشعال الكفاح المسلح، وحافزاً لتشكيل قوة عربية وحدوية ثورية، أو جبهة عريضة تعمل على تحرير فلسطين، وبهذا المعنى؛ فإنه ليس بوسع الفلسطيني أن ينتظر تحقيق الوحدة العربية تحقيقاً كاملاً وناجزاً، ليتسنى له الشروع في التفكير بتحرير وطنه المغتصب، بل إنه لمن المنطقي، والأكثر عقلانية، أن يُفترض أن الوحدة العربية تمر بتحرير فلسطين، كهدف سامٍ وعاجلٍ يقود إلى هذه الوحدة، وليس العكس.

 

 

 

لقد كان لصلاح خلف إسهاماً مميزاً في بلورة هذه الأفكار والمبادئ العامة، التي كانت محلَّ اتفاق مع المسهمين الآخرين من المؤسسين، ولعله من المناسب القول إن هذا الاتفاق لم يصل درجة التطابق الكامل في الرؤية، ولكنه كان نوعاً من القاسم المشترك المعزَّز باتفاق تام على الهدف الأسمى وهو تحرير الوطن الذي يحتل مرتبة الأولوية القصوى، ويسمو فوق التباين في الرؤى والإيديولوجيات.

 

 

 

قراءة الماضي، واستلهام عِبَره

 

 

 

ولعلَّ في إشارة صلاح خلف إلى أنَّ دراسة منهجية أو تفكيراً جماعياً حول هذه الأفكار والمبادئ لم يحدثا حتى قرب نهاية العام 1959 (10) ، وأن كل واحد من المؤسسين استخلصها عبر قراءته الخاصة لدروس الماضي وعِبَره، ما يدل، ضمن ما يدل عليه، على أنَّ تحليله (أي تحليل صلاح خلف) للواقع الفلسطيني والعربي، وقراءته الخاصة لماضي الحركة الوطنية الفلسطينية، واستيعابه تجارب نجاحها وإخفاقها، تكمن في خلفية هذه الأفكار والمبادئ العامة، وتؤسس لانبثاق أفكار ومبادئ أخرى جرت بلورتها في مراحل لاحقة، ولعلَّ فكرة إقامة دولة فلسطينية ديمقراطية فوق كامل الوطن الفلسطيني أن تكون هي أهم هذه الأفكار، وأكثرها توهجاً وجاذبيةً.

 

 

 

تنهض قراءة صلاح خلف لتجربة الحركة الوطنية الفلسطينية منذ مطلع القرن العشرين، وتحليلها تحليلاً موضوعياً معمقاً يستهدف كشف الأخطاء لتلافي ارتكابها في المستقبل، على تقدير أساسي مؤداه أنه "ليس من العدل إصدار حكم إجمالي سلبي عل عمل من سبقونا"(11)، وقد توصلت هذه القراءة إلى معطيات واستنتاجات بالغة الأهمية تتعلق بالبنية التنظيمية؛ والقيادة السياسية، وبالعلاقة بين الفكر والممارسة؛ فقد كانت البُنَى التنظيمية لهذه الحركة بُنىً هشةً، غير متراصة؛ فلئن احتوت البرجوازيين الكبار، والمنحدرين من الأوساط الشعبية، فإنها انبت على عشوائية ضمت الخونة إلى الوطنيين، والمخطئين إلى صائبي النظر، ولأنها خضعت إلى قيادة شخصيات تنحدر من العائلات الكبيرة، وإلى مركزية الزعيم الملهم، فإنها لم تقم بتطوير فكر يتجاوز الذهنية التقليدية السائدة، ولم تعمد إلى أن تضم السكان اليهود، أو جزء منهم على الأقل، إلى العمل الوطني، وألحقت إرادتها بإرادة الأنظمة العربية الخاضعة للإمبريالية أو المتواطئة مع الإنجليز، خالطةً بذلك بين بواعث هذه الأنظمة ودوافعها الأنانية المغرضة، وبواعث الشعوب العربية ودوافعها الأصيلة السامية. وقد نجم عن هذه المعطيات أن انحدرت تنظيمات الحركة الوطنية إلى حالة من الشلل، والتضارب، أو المواجهة التي غالباً ما كانت تنفجر عندما لا تتوصل إلى اتفاق على السلوك الذي يتوجب اتباعه. كما أنها تعرضت، بفعل نهوضها على مبدأ مركزية الزعيم الذي هو روح التنظيم وركيزته، إلى الاضمحلال التلقائي والانهيار، عند اختفاء هذا الزعيم (الروح والركيزة(

 

 

 

ولئن كان هذا هو واقع تنظيمات الحركة الوطنية الفلسطينية وتشكيلاتها، بحسب قراءة صلاح خلف، فإن الشعب الفلسطيني، بموجب هذه القراءة المحقة، كان يتبع قادته، ولكنه كان يسبقهم في بعض الأحيان، ويمارس، بفضل لجان المقاومة المحلية الناشئة عفوياً، مختلف أنواع النضال، كالإضراب والمظاهرات، بل وحرب العصابات؛ فالإضرابات وأعمال العصيان التي وقعت في الأعوام 1919، 1922، 1928، 1933، 1936، و 1938 "تشهد بروح الأهالي الكفاحية، ولكنها تشهد كذلك بعقم المعركة التي لا يشنها ويقودها ويدعمها جهاز مركزي دائم يتمتع ببنية متينة." (12(

 

 

 

واستناداً إلى هذا التحليل، كان على أولئك العاملين على تأسيس الهيكل الوطني التحرري الفلسطيني، أن يتلافوا تكرار أخطاء الماضي، وأن يعطوا أولويات قصوى متماثلة لإقامة "منظمة شعبية حقاً، تكون قادرة على الاستمرار مهما حدث، وكائناً ما كان مصير هذا القائد أو ذاك"(13)؛ و"للتصدي لكل محاولة لإخضاع الحركة الوطنية الفلسطينية لإشراف حكومة عربية كائناً ما كانت هذه الحكومة"(14)؛ وللاستمرار في استشفاف "إمكانية إقامة دولة ديمقراطية في كامل فلسطين يعيش فيها اليهود والمسيحيون والمسلمون كمواطنين متساوين"(15(

 

 

 

الانخراط في النضال وإنهاض الوعي

 

 

 

كانت الفترة الممتدة من العام 1952 حتى منصف العام 1956 فترة تمهيدية تركَّز النشاط فيها على العمل الطلابي والنضال السياسي، وعلى بلورة أفكار ومبادئ نضالية عامة يمكن أن يلتف حولها شباب فلسطينيون متحمسون ومستعدون للتضحية، يجري انتقاؤهم بحرص وتدقيق شديدين، ويُتصل بهم في سرية تامة، وذلك تمهيداً لإشراكهم في تأسيس الهيكل الوطني التحرري الفلسطيني المستقل، المزمع إنشاؤه.

 

 

 

وفي تموز (يوليو) 1956 حدث منعطف حقيقي بالغ الأهمية على أكثر من مستوى وصعيد، وقد تجسد هذا المنعطف في إعلان الرئيس المصري جمال عبد الناصر، قائد ثورة تموز (يوليو) 1952، تأميم قناة السويس وإعادة ملكيتها خالصةً للشعب المصري، باعتبارها حقاً ثابتاً لهذا الشعب لا يجوز التفريط به. ويذكر صلاح خلف أن موقفه من جمال عبد الناصر، وتقييمه لشخصه ولدور ثورة تموز (يوليو)، قد تبدل تماماً عقب هذا الإعلان؛ فنظراً لشراسة سلطات الأمن المصرية في مطاردة المناضلين غير المتطابقين مع النظام المصري، وهي الشراسة التي كانت تظهر أحياناً في ممارسات هي أقرب ما تكون إلى الصغائر، وبسببٍ من أنَّ عبد الناصر لم يفعل شيئاً من أجل القضية الفلسطينية، ونتيجة لعجز النظام المصري عن الدفاع عن أهالي قطاع غزة إزاء الغارة الإسرائيلية التي شنت على غزة في 28 شباط (فبراير) 1955، وعدم رده على هذه الغارة بضخامة تتناسب مع ضخامتها، فإنَّ صلاح خلف لم يكن يتعاطف مع جمال عبد الناصر إلا قليلا، وكان يُشارك الإخوان المسلمين والشيوعيين حذرهم من بدايات نظامه(16(.

 

 

 

وفي إثر العدوان الثلاثي(17) على مصر، شكلت رابطة الطلاب الفلسطينيين كتيبة فدائيين لتسهم، إلى جانب المتطوعين المصريين، في مقاومة هذا العدوان؛ ونظراً لأن السلطات المصرية لم تسمح بذهاب صلاح خلف إلى قناة السويس ضمن كتيبة الفدائيين؛ فإنه تطوع في المقاومة الشعبية حيث أسندت إليه مهام دفاعية من قبيل حراسة جسور القاهرة. كما أنه عمل بالتعاون مع طلاب آخرين، ولا سيما أولئك الذين سيصبحون، بعد ثلاث سنوات، من مؤسسي حركة التحرير الوطني (فتح)، على إدخال المال والسلاح والمنشورات التعبوية والتحريضية، إلى مدينة غزة المحتلة من قبل إسرائيل، وذلك إسهاماً في جهود جبهة المقاومة التي ضمت الإخوان المسلمين إلى جانب الشيوعيين والقوميين العرب والبعثيين والناصرين، على أساس برنامج عمل مشترك(18(

 

 

 

وعلى امتداد الفترة من العام 1952 حتى الأشهر الأولى من العام 1957 عمل صلاح خلف ورفاقه على نشر الأفكار والمبادئ العامة في الوسط الطلابي الفلسطيني في مصر، وفي أوسـاط قطاعات أخرى، ولدى من يثقون به من العمال والموظفين والتجار ورجال الأعمال، سواء أكانوا من الفلسطينيين المقيمين في مصر، أو الفلسطينيين القادمين إليها من غزة ومن الدول العربية ودول العالم، زائرين. وقد تمكن صلاح خلف ورفاقه من ضم عدد غير قليل من الأشخاص المرشحين للحصول على إعدادٍ يؤهلهم لأن يكونوا كوادر فاعلة في الهيكل التنظيمي الذي يجري التفكير في إنشائه، ولأن يباشروا ممارسة العمل النضالي.

 

 

 

أما طبيعة هذا الهيكل التنظيمي فلم تكن واضحة تماماً، فما كان واضحاً إلى حدٍّ ما هو فقط الأفكار والمبادئ العامة التي يتوجَّب أن يستجيب إليها هذا الهيكل، أو التي ينبغي الاستهداء بها عند إنشائه. ويشير صلاح خلف، في هذا السياق، إلى أن "إنشاء حركة شعبية واسعة وجيش تحرير وطني حقيقي، كان لا يزال في فترة حرب السويس عام 1956، أفكاراً غائمةً، سوف تتبلور في أهداف واضحة خلال السنتين التاليتين." (19(

 

 

 

 

 

تسمية فتح

 

 

 

كانت الأشهر الأولى من العام 1957 نهاية فترة وبداية أخرى؛ فقد أنهى صلاح خلف دراسته الجامعية التي كان قد مددها للحصول على دبلوم التربية من جامعة عين شمس، وكان عليه أن يسعى للحصول على وظيفة. وكذلك كان ياسر عرفات وخليل الوزير (أبو جهاد) قد ذهبا للعمل في الكويت، وما لبث فاروق القدومي (أبو اللطف) أن لحق بهما، في حين أن كلاً من محمد يوسف النجار (أبو يوسف)، وكمال عدوان، محمود عباس (أبو مازن) قد انتقلوا إلى قطر للعمل فيها.

 

 

 

ويبدو أن الاتفاق على الطابع العام للهيكل الوطني التحرري الفلسطيني المستقل، الذي يجري إنشاؤه، وعلى اسمه، وعلى توقيتٍ تقريبيٍّ للإعلان عن تأسيسه بعد استكمال بنائه التنظيمي وتحديد وسائل عملة، وقنوات تمويله، وتشكيل أجهزته، وإعداد أنظمته الداخلية واستراتيجيته وبرنامجه السياسي، كان قد تم بين هؤلاء الأشخاص المتخرجين لتوهم من الجامعات، وربما بمشاركة آخرين غيرهم. وفي هذا الصدد يذكر صلاح خلف أنه ورفاقه المقيمين في الخليج (الكويت وقطر) كانوا قد اتفقوا(20) ، قبيل مغادرتهم القاهرة، على أن يأخذ هذا الهيكل طابع الحركة (حركة تحرير فلسطين)، وأن تأتي التسمية من الأحرف الأولى (ح. ت. ف)، ونظراً للمعنى غير الملائم الذي تحمله هذه الحروف إن هي جمعت في كلمة واحدة (حتف)؛ فقد اتفق على قلب الأحرف عند تركيب الكلمة لتصبح (فتح). وتلك، فيما نرى، كلمة تنطوي على دلالات إيجابية عميقة التأصل في الثقافة العربية والإسلامية، ولها وقع خاص شديد الجاذبية في نفوس الفلسطينيين والعرب والمسلمين، وترتبط ارتباطاً وثيقاً بالهدف الرئيسي المتمثل في تحرير فلسطين عبر استدعائها أمجاد الفتوحات الإسلامية، والإيحاءات القرآنية المبشرة بالنصر(21). ولا ريب أن التجربة التاريخية قد أثبتت صوابية اختيار هذه الكلمة ذات البنية التركيبية الصغرى؛ إذ أوضحت تميزها بقدرة فائقة على توليد إيحاءات ودلالات جذبت الناس، على تباين فئاتهم ونزعاتهم ومشاربهم، إلى الانخراط في حركة (فتح)، أو مناصرتها وتقديم الدعم لها.

 

 

 

تسريع بناء الهيكل الوطني المستقل، وتوسيع رقعته

 

 

 

وبناءً على التوجه نحو تعزيز العمل على استكمال بناء الهيكل الوطني التحرري الفلسطيني المستقل (حركة تحرير فلسطين) وتوسيع رقعته الجغرافية ليشمل مناطق الوجود الفلسطيني، سعى صلاح خلف للحصول على وظيفة في مجال التعليم في قطاع غزة، مما أثار حفيظة سلطات الأمن المصرية التي افترضت أنَّ هذا السَّعي غير منفصلٍ عن نياتٍ مسبقةٍ، غير سوية بالنسبة إليها، وهي نيات ترتبط بالسلوك النضالي لهذا الشاب الخطر! فقد جرت العادة أن يسعى الخريجون الجامعيون الفلسطينيون إلى التوظُّف في بلدان الخليج للحصول على مرتب شهري عالٍ، أو إلى إيجاد عمل في القاهرة أو في غيرها من المدن المصرية الكبرى، وليس البحث عن عمل في غزة!

 

 

 

ولدهشة صلاح خلف واستغرابه، وربما لتعمد سلطات الأمن المصرية عدم إضاعة فرصة إبقاء هذا الشاب تحت بصرها، وملاحقته، ومتابعة تحركاته، للحصول على معلومات تتعلق بمسار العمل النضالي لدى هذه الثلة من شباب فلسطين، عُين صلاح خلف مدرساً للغة العربية وعلم النفس في مدرسة الزهراء الثانوية بقطاع غزة، وهو الأمر الذي يخرق القاعدة المتبعة التي تنصُّ على ضرورة "ألا يعمل في مدارس البنات إلا الرجل المتزوج"(22). ويبدو أن هذا التعيين قد أزعج صلاح خلف الشاب الذي نشأ على تقاليد مجتمع إسلامي تقليدي لا يتيح الاختلاط ما بين الجنسين في الحياة العامة، مما دفعه إلى لفت انتباه مدير دائرة التربية إلى أن تعينه في مدرسة للبنات يخالف القاعدة المتبعة، ويضايقه؛ وذلك لأنه "ليس ثمة ما هو أزعج بالنسبة لرجل في مجتمع إسلامي تقليدي من العمل في وسط نسائي"(23). وإذ اكتفى مدير دائرة التربية بالابتسام وهو يقول "لكل قاعدة شواذها"(24)، فإن هذا كان كافياً لأن يُفهم صلاح خلف أن سلطات الأمن المصرية تسعى إلى نبذه، وعزله داخل وسط يصعب عليه أن يمارس فيه عمله السياسي النضالي، أو أن يتخذه غطاءً لهذا العمل!

 

 

 

ولم يكن للعمل في مدرسة للبنات أن يثبط عزيمته أو يحبط عزمه على متابعة عمله النضالي، وتأدية المهام التي اتفق عليها مع رفاقه. وربما كان لتجربته القصيرة في تعليم بناتٍ "مدللات مزاجيات غير منضبطات"(25)، أثرها الإيجابي الذي سيظهر في السنوات اللاحقة حيث بدا أنَّ صلاح خلف، كإنسان وكمناضل فلسطيني، يتمتع بقدرات ومهارات عالية تؤهله للتعامل الحميم مع المرأة عبر تفهم مشاعرها وتطلعاتها ورؤيتها للعالم، وتقدير دورها المتميز في الحياة الاجتماعية وفي مسيرة النضال الوطني، بوصفها ذاتاً فاعلة. ولعل صلاح خلف أن يكون هو القائد الفلسطيني الأكثر حماسةً وتأييداً للحركة النسائية الفلسطينية والعربية التي تنخرط في النضال الوطني العام وتناضل، في الوقت نفسه، من أجل الإقرار بالهوية البيو – ثقافية للمرأة كإنسان كامل، له حق التمتع بكل حقوق الإنسان.

 

 

 

ومهما يكن من أمر، فإنه لم يكن أمام صلاح خلف إلا إن يستفيد من الوظيفة التي شغلها ليباشر العمل على إنهاض الوعي بالأفكار والمبادئ السياسية العامة المتفق عليها، وذلك عبر طرق تناسب تلميذاته؛ وهكذا شرع في دعوتهنَّ إلى تشكيل مجموعات مدنية(26) في أحيائهن لتعرُّف حاجات الأهالي والعمل على مساعدتهم، ونشر الوعي الوطني في صفوفهم، والتقدم بعناوين موضوعات تنبثق عن هذه التجربة كي تُناقش من جانبه بمشاركة جميع تلميذات الفصل.

 

 

 

لم يدم عمل صلاح خلف في مدرسة البنات إلا ستة أشهر نقل بعدها إلى مدرسة خالد بن الوليد الثانوية، وهي مدرسة للصبيان كانت تقع، في ذلك الوقت، خارج مدينة غزة، وأغلب طلابها من اللاجئين المقيمين في مخيمات اللجوء القريبة منها، والتي أنشأتها وكالة الغوث(27) على عجل لإيواء الفلسطينيين المقتلعين من الجزء المحتل من فلسطين. وفي مقابل عدم تلبية مباني المدرسة ومرافقها للحد الأدنى المناسب من الناحية الصحية أو التعليمية، شكَّل طلاب المدرسة من اللاجئين الفقراء المنفيين، والذين يتحرقون لانطلاق النضال الوطني من أجل تحرير فلسطين والخلاص من شروط واقعٍ اجتماعي وإنساني متردٍ ومذل، مجالاً حيوياً خصباً لاستمرار صلاح خلف في نشاطه الهادف إلى إنهاض الوعي السياسي، واكتساب المزيد من الأعضاء والمناصرين.

 

 

 

وعلى مستوى العمل المعلن لإنهاض الوعي السياسي عبر الممارسة يذكر صلاح خلف أنه شكل مع الطلاب لجنة معونة للثورة الجزائرية، وانه دعا الطلاب إلى الإسهام في جمع المال، فاستجابوا للنداء، رغم بؤسهم وعوزهم، مما أشعل في نفسه الإحساس بأنَّ هؤلاء الطـلاب المتطلعين إلى العودة إلى وطنهم عبر مناصرة الثورة الجزائرية مستعدون، بلا أدنى ريب، لبذل أقسى التضحيات وأغلاها من أجل تحريره.

 

 

 

 

 

مسرحيتان لفلسطين: "أيام مجيدة" و "المحاكمة"

 

 

 

وإضافة إلى هذا الأسلوب، لجأ صلاح خلف إلى استثمار مهاراته الأدبية لتعميق الوعي النضالي لدى طلابه، وعلى نطاق المجتمع الغزي بأسره، فكتب في العام 1958 مسرحية بعنوان "أيام مجيدة" بناها على استلهام تجربة اقتلاعه وأسرته من يافا وإلقائهم في البحر ليتشبثوا بأخشاب مركبٍ متهالك ليحملهم إلى شاطئ غزة، وهي التجربة التي ارتبطت بحادثةٍ بالغة القسوة مؤداها أن امرأة من بين أولئك الذين تمكنوا من الصعود إلى المركب اكتشفت، بعد إقلاعه، غياب واحدٍ من أطفالها الأربعة؛ فراحت تتوسل عودة المركب إلى المرفأ، غير أن غزارة نيران المدفعية الصهيونية جعلت مثل هذه العودة مستحيلة، فما كان من المرأة التي حرقت قلبها فكرةُ ضياع طفلها إلا أن تلقي بنفسهما، منهارةً، في البحر. وإذ لحق بها زوجها الذي بدا أنه لا يحسن العوم، فإنَّ الأمواج ابتلعتهما، تاركين ثلاثة أطفالٍ فوق المركب في انتظار مصير غامض، وطفلاً متروكاً في يافا ليس مصيره أقل غموضاً (28(

 

 

 

ويبدو أن النجاح الذي لاقته هذه التجربة، كعملٍ أدبيٍّ يبث رؤية نضالية للعالم، وكأسلوب من أساليب إنهاض وعي الجمهور ودعوته إلى عمل ما بوسعه من أجل تغيير الواقع المأساوي الذي يعانيه، قد حفَّز صلاح خلف على تكرار التجربة، فأقدم على كتابة مسرحية أخرى(29)، يقوم أسلوبها النقدي التهكمي الساخر على نوع من التورية، وذلك تحاشياً للرقابة التي لم تكن لتسمح بتوجيه نقد مباشر ومعلن للأنظمة العربية، والتنديد بمواقفها السلبية والمذلة من القضية الفلسطينية. ويتجسد الإطار المكاني لهذه المسرحية في قاعة محكمة، أما الحدث المركزي فيها فهو يتأسس على محاكمة عسكرية (شعبية) يترأسها قاضٍ له خصائص شخصية فاضل عباس المهداوي الهزلية الساخرة، وأسلوبه التهكمي، وهو القاضي الذي ترأس محكمة عسكرية عليا شكَّلها النظام العراقي (حكومة الثورة)، في 15 آب (أغسطس) 1958، لإرسال المعارضين السياسيين إلى المشنقة، بينما يرمز المتهمون إلى رؤساء الدول العربية وملوكها وأمرائها، ويُواجهون تهماً تكاد أن تكون مقتبسة تماماً من أقوال المهداوي الحقيقي نفسه!

 

 

 

وجليٌ، رغم تعمُّد التورية، أنَّ مضمون المسرحية التحريضي المندد بمواقف االأنظمة العربية المستكينة والمذلة إزاء قضية فلسطين، لم يكن ليخفي على مشاهد حصيف، وهو الأمر الذي أعطى مسؤول دوائر الأمن في غزة، العقيد كمال حسين الذي رافق الحاكم العسكري لمشاهدة العرض الافتتاحي للمسرحية، مبرراً كافياً لاستدعاء صلاح خلف بغية استجوابه سعياً وراء معرفة الأهداف الكامنة خلف هذا التحريض، والتيقن من أن شيئاً ما لا يعد في الخفاء لتفجير فعلٍ يستجيب إليه. وقد برهن صلاح خلف على حسن نيته ومشروعية عمله بالاعتماد على موافقة الرقابة على المسرحية، وإشراف وكيل دائرة التعليم على إخراجها، وامتداح الحاكم العسكري لها عبر رسالة رسمية وجهها إليه وأطرى فيها جودة النص. غير أن هذه الحجج، وتصنُّع السخط الذي أبداه صلاح خلف، لم يقنعا رجل الأمن ببراءته وطيب نيته، وإنما زاده غيظاً على غيظٍ دفعه إلى القول بلهجةٍ ساخطةٍ مقذعة: "صلاح، أنت مراوغ مكار، ولكنني سأنال منك، وتستطيع الوثوق بي في هذا الصدد"(30). غير أن هذا الضابط المغرور كان يجهل تماماً ما تخبئه الأيام!

 

 

 

تكشف هذه التجربة عن مدى الهامش المتاح لحرية التعبير في نطاقٍ تعليميٍّ محاصر، بقدر ما تكشف عن الشراسة التي تتملك سلطة مستبدة هشة يخيفها الكلام، وعن الطاقة التحفيزية الخلاقة التي يمتلكها الإبداع الأدبي والفني، ولا سيما المسرح الذي يقوم إنتاجه على روح الفريق والعمل الجماعي، وتنطوي عروضه أمام الجمهور على تجربة جماعية يتولَّد عنها شعوراً جماعياً بالقوة والتلاحم، ورؤية جماعية للعالم، وتصوراً عميقاً لإبداعية العمل الجماعي وقدرته على التغيير. وتلك، في تقديري، هي المكونات العميقة للرؤية التي توخَّى صلاح خلف أن يبثها في مجتمعه عبر استثمار موهبته الأدبية، وتوظيفها لنشر الأفكار والمبادئ السياسية العامة التي تشكل نواة الخلفية الفكرية والسياسية والنضالية لحركة التحرير الوطني الفلسطيني (فتح(

 

 

 

لم تكن تجربة صلاح خلف الأدبية وموهبته المسرحية(31)، والأنشطة التي رعاها لدعم الثورة الجزائرية، إلا جانباً صغيراً من الجزء الطافي من جبل الجليد، أما ذلك الجزء الرئيسي الخفي فقد تركَّز في تجنيد المناضلين وإعدادهم، سرياً، وذلك وفق نمط التنظيم العمودي(32)، وبناءً على معايير فكرية وخلقية وسياسية كان صلاح خلف يستوثق تمتع الشخص بها قبل أن يعرض عليه فكرة الانضمام للتنظيم؛ إذ ينبغي لهذا الشخص أن يكون حراً من كل رابطٍ حزبيٍّ من دون أن يعني ذلك ألا يكون قد انتمى مسبقاً إلى حزب فكري أو سياسي، وأن يتمتع في حياته الخاصة بسلوكٍ تطهريٍّ لا مأخذ عليه، يحترم الشعب وتقاليده الأصيلة، ويحافظ على مصالحه ويصون أمنه؛ وأن يكون قادراً على تحمل أعباء الكفاح المسلح وتبعات النضال طويل المدى متسماً في ذلك بصفة الجندي والقائد معاً، وأن يكون على اقتناع تام بالأفكار والمبادئ العامة وأن يسهم في بلورتها، وأن يدلي بقسم فتح، مشهداً الله على نفسه(33(

 

 

 

وقد تمكن صلاح خلف خلال فترة تُقارب العامين، وبترو عالٍ وحذر شديد، من تجنيد عدد غير قليل من الأعضاء، ومن الإشراف على تزويدهم بالإعداد الفكري والسياسي، وتأهيلهم للممارسة العمل النضالي المزمع إطلاقه. ويبدو أن التمهيد لهذا الإطلاق قد بُوشر بالفعل عبر تحرير وطبع وتوزيع عدد من المنشورات والبيانات التي انتقدت مواقف سياسية معينة اتخذتها السلطات المصرية، أو نددت بإجراءات قمعية اتخذتها سلطات الأمن ضد المناضلين الفلسطينيين من مختلف الأحزاب السياسية غير المتماهية مع النظام المصري الذي حرَّم التعددية الحزبية. وفي هذا السياق يُشير صلاح خلف إلى أن أياً من المنشورات والبيانات لم يُمهر باسم فتح وإنما مهرت بأسماء وهمية لتنظيمات لا وجود لها من قبيل "شباب الثأر" أو "شباب الإصلاح"، وذلك زيادة في الحذر، ولعدم لفت الانتباه إلى وجود نواة لتنظيم فتح في قطاع غزة.

 

 

 

وفي منصف العام 1959، انتقل صلاح خلف، بناءً على طلب ياسر عرفات، للعمل في الكويت(34)، وذلك لتوفير مرتبٍ مجزيٍّ يكفي لتلبية الحاجات المعيشية لشاب متزوج حديثاً، ولاستقطاع جزء من هذا المرتب لتمويل العمل النضالي؛ ولأن الإعداد الجيد "لإيقاف حركة فتح على قدميهm.a

Developed by: MONGID | Software House الحقوق محفوظة مفوضية الإعلام والثقافة © 2024