الرئيسة/  مقالات وتحليلات

ترجل رجل الفرادة عن المسرح

نشر بتاريخ: 2020-06-07 الساعة: 14:49

عمر حلمي الغول

غيب الموت رجل تميز بالفرادة والألمعية الفكرية والسياسية، خمسة وثمانون عاما قضى جلها في الكفاح الوطني والقومي والأممي، لم يكل ولم يمل القائد الفذ محسن إبراهيم عن العطاء، حتى عندما صمت، ولم يبح بموقف أو تصريح، كان يعطي، رغم انه عُرف بشجاعته وجرأته. لكنه كان يعي متى يتحدث، ومتى يتوقف عن الكلام.

ابو خالد من الرواد الأوائل في حركة القوميين العرب، كان مؤسسا وشريكا لجورج حبش ووديع حداد وأحمد الخطيب وقحطان الشعبي وعبد الفتاح إسماعيل وهاني الهندي وصالح شبل وحامد الجبوري وباسل الكبيسي وأحمد اليماني ونايف حواتمة .. وغيرهم من الرعيل الأول، الذين أنشأوا حركتهم في مطلع الخمسينيات من القرن الماضي ردا على نكبة العام 1948. وتميز بذكائه وفطنته وألمعيته الفكرية والسياسية. وتمرد باكرا على الجمود الفكري، الذي شاب تجربة الحركة، وكان من اوائل الشخصيات، التي ساهمت بتطور فكر الحركة وإنتقالها من الفكر القومي إلى الفكر الإشتراكي الماركسي دون ان يقطع بين المسألتين، بل ربط بينهما بشكل ديالكتيكي عميق.

وكان محسن إبراهيم حاضرا دائما، ولماحا، ومبدعا في إلتقاط اللحظة السياسية المناسبة، والفكرة الجديرة بالأولوية، ولهذا حظي بمكانة مميزة عند الراحل الخالد جمال عبد الناصر، الذي حرص دوما على إستشارته في القضايا القومية وخاصة في المسألة اللبنانية، التي إحتلت حيزا مهما في رؤية الزعيم القومي عبد الناصر. 

وبعد هزيمة حزيران عام 1967، وفي أعقاب تأسيس الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين في كانون اول / ديسمبر 1967، وتشكيل فروع لحركة القوميين العرب في الدول العربية، ومع تنامي الصراع بين تياري الحركة القومي المحافظ واليساري الإشتراكي، إتجه ابو خالد لتشكيل منظمة العمل الشيوعي في أعقاب إنشقاق الجبهة الديمقراطية في شباط/ فبراير 1969 عن الشعبية، ونسج علاقة عميقة مع نايف حواتمة وياسر عبد ربة. ولكنه بقي حريصا على إبقاء خيوط التواصل مع الحكيم حبش والجبهة الشعبية وكل فصائل العمل الوطني وخاصة حركة فتح، وربطته علاقات حميمة وخاصة مع الزعيم الفلسطيني ياسر عرفات.  

كانت القضية الفلسطينية أحد أهم إهتمامات ابو خالد بالتلازم مع المسالة اللبنانية، ولم يتخلى عنها، حتى عندما إنتقد الثورة الفلسطينية، وإعتبر انه غالى في الإنحياز المفرط لها على حساب لبنان، وإنتقد ايضا إستسهاله الحرب الأهلية اللبنانية (1975 حتى مطلع التسعينيات) لم يتخلى عنها. وبقي وفيا حتى مماته لقضية العرب المركزية ولقيادتها، حتى ان قادة القوى والأحزاب اللبنانية كانوا يصفونه بالعرفاتي. وكثيرون لم يميزوا بين لبنانية وفلسطينية محسن إبراهيم، لإنه كان مجبولا بالهم القومي والإنساني، ومنحازا حتى النخاع لفلسطين، لإداركه ان المعضلة الفلسطينية عنوان كل المآسي والنكبات في شعوب الأمة العربية. وبقي حتى ترجل عن مسرح الحياة في الثالث من حزيران الحالي (2020) وفيا لفلسطين، ولهذا كرمه الرئيس محمود عباس بأرفع وسام من الدرجة الأولى، وسام نجمة القدس، ونكس الأعلام لثلاثة ايام بعد رحيله الأربعاء (3/6/2020)، وهذا عرفانا بمكانة وجهود الرجل الإيجابية والمتميزة في الساحة الفلسطينية. لا سيما وانه كان على تماس مع كل مراحل النضال الوطني الفلسطيني، ووصف بأنه عضوا اساسيا في القيادة الفلسطينية.

كان محسن إبراهيم علامة فارقة في قيادة الحركة الوطنية اللبنانية، وتميز بعلاقات ووشائج عميقة مع القائد القومي والتاريخي للحركة الوطنية اللبنانية، كمال جنبلاط، وإحتل موقع الرجل الثاني في قيادة الحركة، وكذلك في القيادة المشتركة الفلسطينية اللبنانية، وفي الجبهة العربية المساندة للثورة الفلسطينية، وبعد رحيل الزعيم اللبناني العربي جنبلاط قاد الحركة الوطنية.

كما انه شكل ثنائي متميز مع جورج حاوي، أمين عام الحزب الشيوعي اللبناني، وكان لهما الدور الريادي في تاسيس المقاومة ضد الإستعمار الإسرائيلي بعد إجتياح لبنان عام 1982 وقبل غيرهم من القوى اللبنانية، وشاركتهما الجبهتان الشعبية والديمقراطية بإصدار اول بيان للمقاومة بعد إجتياح العاصمة بيروت وكل لبنان.

ومن أبرز سمات الرجل، انه كان يملك حضورا وجاذبية وحنكة فكرية وسياسية في خطاباته وندواته، حيث كان يتميز عن الكثيرين من المفوهين في فن الخطابة، بأنه يجمع بين الخطابة والندوة، وكان يقدم فكرته بسلاسة وبراعة منقطعة النظير، ويشد الجمهور بقوة للإصغاء له، ودون ملل، بل بحيوية فائقة.

ابو خالد رجل تفرد عن أقرانه بالكثير من الخصال، حتى قيل أنه يجمع مائة رجل برجل. وكان وصل الصلة يين كل الخصوم السياسيين، وجسرا دافئا لجمع شمل المتناقضين على القواسم المشتركة.

ترجل محسن إبراهيم عن مسرح الحياة، لكنه مازال حيا بتراثه الفكري والمعرفي والسياسي، وخالدا في سجل فلسطين ولبنان والأمة العربية الذهبي، وستبقى مسيرته وتجربته عنوانا اساسيا في تاريخ الكفاح الوطني والقومي والأممي. ولن تنسى فلسطين ابا خالد ابدا.

m.a
Developed by: MONGID | Software House الحقوق محفوظة مفوضية الإعلام والثقافة © 2024