النكبة.. ذاكرة لا يمكن أن تموت
نشر بتاريخ: 2020-05-14 الساعة: 12:45رام الله - مراسل وفا- يروي الشيخ محمد محمود حرب (75 عاماً) من مخيم بلاطة للاجئين شمال الضفة الغربية لأولاده وأحفاده ما تحمله ذاكرته عن مسقط رأسه قرية "مسكة" التي هجر منها قسرا عام 1948، وكله أمل باقتراب يوم عودته إليها.
وقال حرب في شهادة سجلها مركز المعلومات الوطني الفلسطيني "وفا"، في الذكرى الـ72 للنكبة: "لامني أبنائي وأحفادي حين حدثتهم عن مسكة،وكيف كنت أصحو على زقزقة العصافير فجرا، وعن فاكهة البيارات التي كانت أناملي تداعبها وأنا أقطفها قبل أن أتوجه بها إلى سوق يافا؛ لاموني وسالت دموعهم كما سالت دموعي قهرا وسألوني بمرارة: لماذا غادرتم الأرض ولم تصمدوا؟
وأضاف الشيخ حرب وهو أب لـ13 ابناً وابنة، استشهد منهم خليل وإياد في انتفاضة الأقصى، فيما يقبع جمال وحسام في سجون الاحتلال الإسرائيلي: سنعود لأرضنا وأملي بالله كبير، وبشائر عودتنا عادت لتظهر مع اشتعال الثورات العربية.
ويتذكر الشيخ حرب قصته مع النكبة، قائلا: "كان موسم الحصاد عندما بدأت معركة في المنطقة الواقعة بين دير زلمة والطيرة، هذه المعركة أوقعت الكثير من القتلى، وعلى إثرها اختار كبار البلدة التي كانت تضم آنذاك 4 عائلات "حمائل" أي ما يقارب (800 نسمة) المغادرة لقرية الطيرة القريبة، خاصة بعد التهديدات التي تلقوها من ضابطين أحدهما انجليزي والآخر إسرائيلي بمغادرة القرية".
وأضاف: "قبل أن يغادر أهل القرية، قاموا بحفر ساحات منازلهم، وطمروا أثاثهم، وكل ما يملكونه بنيّة العودة، ولم نحمل معنا إلا ما توفر لنا من النقود، وحملت والدتي "كواشين "الأرض معها، لتودعها في الأردن عند أهلها، ولم نتمكن بعدها من العثور عليها".
وقصة الشيخ حرب مشابهة لقصص أغلب اللاجئين الذين أجبروا على ترك أرضهم إبان النكبة بين عامي 1947-1948، حيث شرد قرابة 950 ألف فلسطيني عن أرضهم، وأصبح عددهم اليوم 6 ملايين لاجئ حسب آخر إحصائيات لوكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين "الأونروا".
وبهذا، شكلت النكبة أكبر عملية تطهير عرقي شهدها القرن العشرين، نفذت بقوة السلاح والتهديد من قبل العصابات الصهيونية إلى الضفة الغربية وقطاع غزة والدول العربية المجاورة، فقد تم تهجير قرابة 950 ألف فلسطيني من أصل مليون و400 ألف كانوا يقيمون في فلسطين التاريخية عام 1948، وتم إحلال المهاجرين اليهود مكانهم.
وسيطرت العصابات الصهيونية خلال النكبة على 774 قرية ومدينة فلسطينية، وتم تدمير 531 منها بالكامل وطمس معالمها الحضارية والتاريخية، وما تبقى تم إخضاعه إلى كيان الاحتلال وقوانينه، وارتكبت العصابات الصهيونية أكثر من 70 مجزرة بحق الفلسطينيين، تمثل كل واحدة منها جريمة حرب وجريمة بحق الإنسانية، وتصنف في إطار جرائم الإبادة الجماعية.
وبحسب مركز الاعلام الوطني "وفا"، فقد شارك في معارك النكبة نحو 10,000 جندي مصري بقيادة اللواء أحمد علي المواوي، و4,500 جندي أردني، و2,500 جندي عراقي بقيادة الضابط العميد محمد الزبيدي، و1,876 جندي سوري بقيادة العقيد عبد الوهاب الحكيم، و450 جندي لبناني، 3,200 جندي سعودي بقيادة العقيد سعيد بيك الكردي، ووكيله القائد عبد الله بن نامي، و3000 متطوع عربي من جميع البلدان العربية (وهو ما أصبح يعرف بجيش الإنقاذ) بينهم 500 فلسطيني.
وبلغ عدد الشهداء الفلسطينيين في معارك النكبة حسب عدة مصادر تاريخية نحو 15 ألف شهيد، بينما بلغ عدد الشهداء العرب من 3500 إلى 7 آلاف شهيد.
روايات النكبة وحلم العودة
وتستعيد السبعينية بهية صالح ملامح قريتها الريحانية القريبة من حيفا، والتي كانت تشتهر بصبارها وزيتونها وخروبها وحقولها، فتقول: كانت البلد كلها عيون، عائلتنا كانت كبيرة، ونشتغل ونزرع ونقلع.
ومن أراضي الريحانية التي لا تنساها: البطيحة، والصفصافة، والنتاشة، والحج حسن، والجرماشة، وذراع نجم، ووادي الملح، والصوانة.
وفر أبناء عائلتها وأهالي قريتها إلى بير الناطف، واحتموا ببيت المختار أسعد المصطفى، وسقطت عليهم القنابل، فأصيبت جميلة الخليل، وصفية الخليل، وشقيقها يوسف، الذي جرته مسافة قصيرة بعد عجزها عن رفعه، وحمل الشبان والرجال الجرحى على ظهورهم، وفروا.
وتنقل يُسر توفيق صلاح "الشوبكي" (86 عاما)، قصة هجوم العصابات الصهيونية على قنير المجاورة لحيفا وتقول: "كانت الدنيا وجه الصبح، عندما هجم اليهود على البلد، وطلع الناس منها دفعة وحدة، بعدما سمعوا أصوات إطلاق النار، وطلعت أنا وأبي وأمي وأخوتي: رشدي ورشيد ومحمد، وأخواتي: لطيفة ورشيدة. ركبت أنا وأخواتي على الحمار، وأخوتي على الفرس، ووصلنا كفر قرع، وقعدنا في بيت زوج خالتي (شحادة) 20 يوماً، وكانت الناس تقول لبعض: بعد أسبوع يعود كل واحد إلى أرضه وداره". وتضيف: بعدها، انتقلنا إلى عرعرة لشهر، ثم وصلنا طوباس.
ويرسم عبد القادر حمد عبد الهادي، الذي ولد عام 1932، مشهد اليوم الأخير لقرية صبارين القريبة من حيفا، حينما طوقت العصابات الصهيونية البلدة من جهة جبل الُلبيدة، وراحت تهاجمها مع أم الزينات والكفرين والسنديانة.
مما سمعه وشاهده: حكاية يوسف أبو صيام، الذي كان يركب على عربة يجرها حمار، ثم أخذه اليهود ووضعوه تحت شجرة خروب وقتلوه. وقصة طفل اسمه فؤاد الفارس، حينما وصلت له العصابات الصهيونية، وسألوه عن صاحب المنزل المجاور لبيتهم، فلم يعرف، وكان وقتها يأكل الخبز والجبن، فقالت لهم أمه، هذا طفل لا يعرف الجيران، أتركوه يأكل، فقتلوه قبل أن يكمل ما في يده. ومشهد رجل اسمه ارحيم، لما علموا أنه فلسطيني أطلقوا عليه النار من مسافة قريبة.
وقال: كانت أمي تهرب وخلفها رجل من بلدنا اسمه جميل عبد المالك (أبو جمال)، واليهود خلفها يطلقون النار، وحين جاءت إلينا، شاهدنا عدة رصاصات ثقبت كوفيتها البيضاء وأجزاء من ثوبها. ولا أنسى كيف وزعت في بلدنا 500 بارودة على الشبان وصلت من سوريا، حين وضعت على البنادق الأرقام، وكتبت على أوراق أخرى أرقام مماثلة، وكان على الشاب أن يختار إحدى اليدين، ليعطى البارودة المحددة. لكن المفارقة أن السلاح لكم فيه غير ثلاث بنادق فعالة فقط!
ويستجمع عبد الرحمن محمد خطيب، المولود عام 1941، حكاية قرية مصمص التي رحل عنها قسراً، فيقول: انتقلنا إلى إجزم المجاورة، وحين بدأ قصفها بالطائرات، رحلنا مع موعد أذان المغرب، وأذكر أننا كنا في شهر رمضان، وبدأنا نمشي في عز الليل، ولا أنسى كيف شاهدنا سيدة كان طفلها يرضع على صدرها، وهما يغرقان في دمهما. ومشينا خطوات أخرى، ورأينا عجوزاً مقتولاً هو ودابته، التي كانت تحمل لحفاً وفراشاً.
كان خط السير من إجزم، نحو قنير، ثم عارة وعرعرة، وصولاً إلى رمانة قرب جنين، فمنطقة جنزور قرب مثلث الشهداء، حتى الفارعة، تخللته مشاهد قهر وألم ومعاناة لم تنته.
الأمل باقٍ
وبقي نحو 150 ألف فلسطيني فقط في المدن والقرى الفلسطينية التي قامت عليها "إسرائيل" بعد النكبة الفلسطينية، وصل عددهم في نهاية العام 2019 نحو مليون و597 ألف نسمة.
وحسب سجلات وكالة الغوث بلغ عدد مخيمات اللاجئين الفلسطينيين 58 مخيمًا رسميًا تابعًا لوكالة الغوث الدولية تتوزع بواقع 10 مخيمات في الأردن، و9 مخيمات في سوريا، و12 مخيمًا في لبنان، و19 مخيماً في الضفة الغربية، و8 مخيمات في قطاع غزة..
وبلغ عدد الفلسطينيين في نهاية عام 2019 حسب الجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني حوالي 13 مليون منهم نحو 5 مليون فلسطيني يعيشون فـي الضفة وقطاع غزة، (43% منهم لاجئون حسب التعداد العام للسكان والمساكن والمنشآت 2017)، وحوالي مليون و597 ألف فلسطيني يعيشون في الأراضي المحتلة عام 1948، فيما بلغ عدد الفلسطينيين في الدول العربية حوالي 6 مليون، وفي الدول الأجنبية حوالي 727 ألفًا.
ولم تنته النكبة الفلسطينية عام 1948، بل تبعتها نكبات أخرى مرورًا بنكسة عام 1967 التي شردت نحو 200 ألف فلسطيني معظمهم نحو الأردن، وصولًا إلى ما تنوي إسرائيل فعله بضم الأغوار الفلسطينية بدعم من الولايات المتحدة الأمريكية لإحلال نكبة جديدة بدأت فصولها بإعلان صفقة القرن، التي تعمل على تصفية قضية اللاجئين وتنكر عليهم حقهم في العودة وتقرير المصير الذي يستمد مشروعيته من حقهم التاريخي في وطنهم، ولا يغيره أي حدث سياسي طارئ ولا يسقطه أي تقادم أو صفقات، وتكفله مبادئ القانون الدولي والاتفاقيات والمعاهدات الدولية بالإضافة إلى قرارات هيئة الأمم المتحدة ذات العلاقة، ومن أبرزها الإعلان العالمي لحقوق الإنسان سنة 1948 والذي جاء في المادة 13 منه "أن لكل إنسان الحق في العودة إلى بلاده"، كما أكدت على ذلك اتفاقية جنيف الرابعة وقرار الجمعية رقم (194 – د) الصادر بتاريخ 11/12/1948 الفقرة رقم (11)، والتي تنص على الآتي: "تقرر وجوب السماح بالعودة، في أقرب وقت ممكن للاجئين الراغبين في العودة إلى ديارهم والعيش بسلام مع جيرانهم، ووجوب دفع تعويضات عن ممتلكات الذين يقررون عدم العودة إلى ديارهم وعن كل مفقود أو مصاب بضرر، عندما يكون من الواجب، وفقًا لمبادئ القانون الدولي والإنصاف، أن يعوض عن ذلك الفقدان أو الضرر من قبل الحكومات أو السلطات المسؤولة".
m.a