النكبة: من وعد بلفور إلى الضم
نشر بتاريخ: 2020-05-12 الساعة: 11:09بقلم/ د. صائب عريقات
نحن نقف اليوم على أبواب المنعطف المصيري الثالث في مسار المشروع الصهيوني الهادف إلى إقامة إسرائيل الكبرى على أرض فلسطين التاريخية. الأول كان وعد بلفور، والثاني النكبة الكبرى التي حلّت بشعبنا في عام 1948 وقيام دولة إسرائيل وما تبعها من نكبات متواصلة، والضم الذي تخطط لإنجازه حكومة نتنياهو-غانتس ليس مجرد إجراء جديد في سلسة التوسع الإستيطاني الإستعماري المتواصل منذ بدء الإحتلال، بل هو الخطوة الرئيسة المتوّجة لهذا المشروع، وينبغي أن يتم التعامل معه على هذا الأساس.
نستقبل ذكرى النكبة هذا العام في الوقت الذي نواجه فيه هذا الإستحقاق، وفي ظروف أكثر تعقيداً من أي وقت مضى بسبب إنهماك العالم كلّه في مواجهة فايروس كورونا، وما خلّفه إنتشاره من تداعيات صحية وإقتصادية لم يسبق لها مثيل في تاريخنا المعاصر.
كانت النكبة فعل تطهير عرقي بإمتياز، وهي وصمت عملية تقسيم البلاد التي قضى بها القرار 181 بِسِمات جعلتها تعبيراً عن أفدح ظلم تاريخي لحق بشعبٍ من شعوب الأرض في التاريخ الحديث، حيث شُرد أكثر من نصف الفلسطينيين قسراً خارج ديارهم الأصلية، ودُمرت المئات من البلدات والقرى الفلسطينية، ورفضت إسرائيل تطبيق القرار 194 بعودة اللاجئين رغم كونه القرار الذي كان شرطاً لقبولها عضواً في الأمم المتحدة.
الرواية الصهيونية لتبرير هذه الجريمة الكبرى متهافتة لحد لا تستحق تفنيدها، ولكنها تأكيد على أن المشروع الصهيوني لا يمكن أن يقوم إلا على قاعدة إغتصاب الحقوق الوطنية للشعب الفلسطيني، والعمل على نفي وجوده الوطني. ولا مجال للمواءمة بين هذه الرواية الصهيونية وبين الحقائق التاريخية التي تعبّر عنها الرواية الفلسطينية. إن أية تسوية مع إسرائيل لا يمكن أن تنطوي على إعتراف بأكاذيب الرواية الصهيونية، والتسوية الممكنة هي حل وسط بين الشعب الفلسطيني وحقوقه وبين المشروع الصهيوني، ولا يمكن أن تكون قبولاً بهذا المشروع أو تزكية له.
ومن هذا المنطلق، أعلنت منظمة التحرير الفلسطينية في 15 تشرين الثاني عام 1988 مبادرتها لتسوية الصراع الناجم عن الإحتلال الذي بدأ عام 1967، مؤكدة أن هذه التسوية لا تنفي الظلم التاريخي الذي وقع بحق شعبنا بفعل النكبة، وما تلاها من مجازر وجرائم متوالية. والحل الوسط الذي اقترحته المنظمة يستند بقوة إلى القانون الدولي وقرارات الشرعية الدولية.
إن الرفض الإسرائيلي المتواصل لهذا الحل الوسط هو تأكيد على الطبيعة التوسعية المتأصلة في المشروع الصهيوني الذي قام منذ البداية على فكرة أن حق تقرير المصير في البلاد أي في فلسطين التاريخية كلها هو حق يقتصر حصراً على اليهود، إنسجاماً مع نصّ وعد بلفور الذي يعتبر الفلسطينيين طوائف لها حقوق مدنية ودينية فقط وليست شعباً له حق تقرير المصير. هذه الفكرة تجسدت قانونياً في تعريف "الدولة اليهودية" بقانون أساس حظي بموافقة تكاد تكون شاملة من الأحزاب الصهيونية وبخاصة الحزبين الرئيسين الليكود وأزرق وأبيض اللذين كرّساه مرة ثانية في الإتفاق الإئتلافي الذي أبرماه لتشكيل الحكومة الجديدة. ولكن الأهم من التكريس القانوني لهذا المبدأ هو المبادرة من قبل نتنياهو، والتي انجرّ إليها بني غانتس، لتجسيد هذا المبدأ على الأرض من خلال مشروع الضم الذي توافق عليه مع دونالد ترامب في إطار ما يسمى بصفقة القرن. ذلك أن ضم الغور الفلسطيني وشمال البحر الميت ومناطق المستوطنات يعني عملياً تتويج مشروع إسرائيل الكبرى وحشر الفلسطينيين في كانتون لا يملك أدنى مقومات السيادة.
إن هذه الخطوة ليست فقط إلتزاماً من قبل الحكومة الجديدة يبدأ تنفيذه في تموز القادم، بل هو مشفوع بسلسلة من الإجراءات التي يتم تنفيذها منذ الآن على الأرض، ومن بينها التطبيق الفعلي للقوانين الإسرائيلية على المستوطنات، والتوسع الإستيطاني المنفلت من عقاله في الشهور الأخيرة، بل وحتى التطاول على حقوق الأسرى وعلى ولاية السلطة الوطنية الفلسطينية المحددة في الإتفاقات المنهارة وذلك مثلاً من خلال القرار العسكري الإسرائيلي الحجز على حسابات مخصصات الأسرى في البنوك الفلسطينية.
يجدر بنا أن نلاحظ أن الأراضي الفلسطينية التي يزمعون ضمها رُسمت حدودها "بالتفاوض" بين الولايات المتحدة وإسرائيل في إطار اللجنة المشتركة التي شكلت لهذا الغرض، وهذا يفضح الزيف والسخرية الكامنة في تصريحات الإدارة الأمريكية التي تتحدث عن "شروط" للموافقة على خطوة الضم، أبرزها إستعداد الحكومة الإسرائيلية للتفاوض على أساس الخطة الأمريكية والجميع يدرك أن هذا ليس شرطاً بل هو مطلب إسرائيلي.
في مواجهة هذه الخطوة النوعية المرتقبة أين الفلسطينيون؟ وأين العرب؟
الشعب الفلسطيني أمامه سيناريو واحد لا بديل له وهو سيناريو المجابهة التي تعود بالصراع إلى نقاط إنطلاقه الأولى، وهو ما يعني أن على القيادة الفلسطينية أن تعلن قرارها بأن كافة الإتفاقات والتفاهمات مع إسرائيل خلال العقود الماضية باتت خلف ظهرنا. وأن يكون الرد الذي يجب أن يُجمع عليه الفلسطينيون هو إعتبار أن جميع الإتفاقات مع إسرائيل باتت لاغية وباطلة، وأن تصعيد المقاومة الشعبية ومحاصرة إسرائيل على الصعيد الدولي هي السبل التي تكفل رفع كلفة إستمرار الإحتلال والتوسع الإستيطاني، وتهيئة الشروط لتسويةٍ تجسد قرارات الشرعية الدولية في إطار مؤتمر دولي كامل الصلاحيات. أما العرب، فمطلوب منهم الكثير، ولكن الحد الأدنى المطلوب هو أن لا يسمحوا لهذه الخطة الإسرائيلية المجحفة أن تكون مركبة الإنسياق مع التصورات الإقليمية التي تنطوي عليها صفقة القرن وهي التي تدعو إلى تحالف عربي إسرائيلي في مواجهة خطر إيران التي عليها أن تبدأ على الفور بالتصرف بمسؤولية تستند إلى علاقات حسن الجوار، والكفّ عن التدخل في الشؤون الداخلية لدول الجوار. إن مخاطر إيماءات التطبيع التي نشهدها على الصعيد العربي تنبع من كونها تشجيعاً لهذه الأبعاد الإقليمية لصفقة ترامب - نتنياهو، وتمهيداً لتحويلها إلى واقع يتنافى مع القرارات المتكررة للقمم العربية المؤكدة على مضمون مبادرة السلام العربية.
ونحن الفلسطينيين، نريد من العرب أن يقوموا بما هو في نطاق طاقتهم لا أكثر. ولكننا في الوقت نفسه ندرك أن موقفاً عربياً موحداً يستخدم أسلحة القوة العربية للضغط على مراكز القرار الدولي كما كان الحال مثلاً في الموقف العربي عام 1973 هو عامل ضاغط حاسم ومؤثر وقادر على إحداث تغيير هام، حتى لو كان جزئياً، في موازين القوى الدولية. ولذلك، من حقنا أن نتطلع إلى إستخدام عناصر القوة هذه في الضغط على مصالح الدول ذات التأثير وبخاصة الولايات المتحدة الأمريكية التي انتقلت من موقع الوسيط غير النزيه إلى موقع الشريك في تنفيذ مشروع إسرائيل الكبرى. فالدور الأمريكي الجديد لا يقتصر على تدمير الأسس المعتمدة دولياً لحل الصراع ومحاولة فرض أسس جديدة محلها، بل هو أيضاً شارك في تنفيذ إجراءات على الأرض تساهم في التمهيد لهذه الخطوة، كان من أهمها العمل على تدمير وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين "الأونروا" وإعادة تعريف اللاجئ بما يقود عملياً إلى شطب الإلتزام الدولي بالمسؤولية عن مأساة اللاجئين وبالتالي شطب حق العودة. وقد إنعكس هذا الإستهداف المباشر على تمويل "الأونروا" وخدماتها الحيوية الأساسية ومساعداتها لما يقارب 7 مليون لاجئ فلسطيني، حيث يصل العجز في موازنتها إلى 1.2 مليار دولار أي بمقدار موازنتها السنوية على الرغم من الحاجة والإلحاحية في تقديم خدماتها اليوم أكثر مع انتشار كوفيد 19، إضافة إلى محاصرتها على الأرض في القدس المحتلة وفي القرارات ومشاريع القوانين الإسرائيلية.
إن الوضع الدولي مهيأ لإستقبال موقف عربي كهذا الذي ندعو إليه، فخطورة إجراء الضم وتناقضه الصارخ مع القانون الدولي ومع جميع قرارات الأمم المتحدة ذات الصلة جُوبهت بإعلانات واضحة من قبل أبرز التكتلات الدولية والعديد من الدول المؤثرة برفض هذه الخطوة والتحذير من تداعياتها، وكان ذلك جزئياً نتاج حملة سياسية ودبلوماسية مكثفة قدناها وأجرينا خلالها الإتصالات الحثيثة والمتواصلة مع الأمم المتحدة والإتحاد الأوروبي والصين وروسيا، وكتلة عدم الإنحياز، والاتحاد الإفريقي، وبريطانيا، والنرويج وألمانيا وفرنسا وبلجيكا وإيرلندا، وجنوب أفريقيا، وكندا، وغيرها الكثير من الدول، بالإضافة إلى الدول العربية التي تمخض إجتماع مجلسها الطارئ على مستوى وزراء الخارجة العرب ولقاء وفد عنها مع الأمين العام للأمم المتحدة قبل أيام عن إدانة ورفض خطط الضم والاستيطان والتأكيد على عدم شرعيتها. إذاً، فإن تحويل هذا الموقف الدولي إلى موقف عملي يعاقب إسرائيل على الجريمة الكبرى التي ترتكبها من خلال الضم يتطلب موقفاً عربياً موحداً بهذا الإتجاه.
إن الأوضاع الطارئة التي يعيشها اللاجئون الفلسطينيون منذ إثنين وسبعين عاماً، والفلسطينيون الرازحون تحت الإحتلال منذ عام 1967، تحتم على المجتمع الدولي مضاعفة جهده من أجل إنهاء المشكلة الرئيسية الكامنة في الاحتلال الإستعماري، وإيجاد حل سياسي وعادل للقضية الفلسطينية، وحتى ذلك الحين يتوجب عليه دعم "الأونروا" وضمان إستمرارية عملها، والالتزام بالتعهدات المالية السنوية تجاهها، باعتباره تعبيراً عن التزامه بضمان حقوق اللاجئين وسائر الحقوق الوطنية للشعب الفلسطيني، ووفقاً لتجديد التأكيد المتواصل للجمعية العامة للأمم المتحدة على تحملها لمسؤوليتها الدائمة عن قضية فلسطين وحّل جميع جوانبها.
خلال قراءتي المتمعنة في نشرة النكبة 71 التي تروي شهادات 71 لاجئة ولاجئ فلسطيني من الجيل الأول الذين هجروا قسراً عام 1948، وشهادات الجيل الثاني والثالث من أبنائهم وأحفادهم من جميع بقاع الأرض، بدءاً من القدس إنتهاء بتشيلي، والتي نشرتها دائرة شؤون المفاوضات في منظمة التحرير العام الماضي بمناسبة حلول الذكرى الواحدة والسبعين للنكبة الكبرى، فإنني أعيد هنا ما عبرّوا عنه في مضمون شهاداتهم دون إستثناء: "العودة ليست فقط حقاً مقدساً بل هي قدر محتم، والسؤال هو ليس ما إذا كانت العودة سوف تتم بل متى سوف تتم؟ الكبار منا ليسوا مُخلّدين ولكن الصغار لن ينسوا أبدا، فهم يكبرون وأياديهم تقبض على مفاتيح العودة، ووسمها يبقى مطبوعاً على قلوبهم إلى أن تتحقق".
m.a