خِفّة المثقفين وثِقل فلسطين.
نشر بتاريخ: 2020-02-09 الساعة: 09:35بكر أبوبكر لم نتعلم بسهولة أبدا بل تعلمنا بمشقة شديدة، حيث كنا نذهب لمناهل العلم لنقرأ ونسمع، فلم نترك مفكرا اوكاتبا او كتابا اعتقدنا أن به من العلم ما يفيدنا الا طرقنا بابه او صفحاته.
لم نتعلم بسهولة والى ذلك تعلمنا وما زلنا نتعلم، ومن ظن انه قد علم فلقد جهل. تعلمنا أن لا نحكم على المكتوب من عنوانه نعم، وبالبصيرة ورغم الاستدلال عن المكنون من المظنون، ومن الجوهر عبر الشكل الا أن الغوص في مضامين الكلمات والعبارات وسياق الفقرات هو في حقيقته ما تعلمناه فلم نطلق الأحكام جزافا ولم نتسرع فندين أو نلفظ او نقبل أونرفض، تعلمنا.
التعلم والعلاقات المعوجة
تعلمنا أن ندرك جيدا وان نفهم جيدا، وأن نتعاون على الفهم جيدا، وكثير من آداب التعلم التي كانت شذرات التقطناها من معلمينا الكبار أكانوا أشخاصا أم كتبا ام خبرات وتجارب لنا او لغيرنا، والحصيف من يتعلم من تجارب غيره.
تعلمنا ألا نتسرع، وأن نتريث رغم أن الكثير من الأمور قد لا تحتاج لكثير تفكر أو تريث لاتخاذ موقف، إثر كثير بحث وتجارب طويلة وخبرات، وإثر استقرار مرجعيتها وإثر إدراك واعي من مثل أن يكون لك رأي أو مبدأ ثابت بالكيان الصهيوني أنه كيان هيمنة استعمارية على المنطقة، فكيف بك أن تفهم في ظل القناعة المبنية على تحليل عميق ومتواصل كيف لك أن تفهم أنه يمد يده الى السودان أو دول الخليج او المغرب لخير هذه البلدان وخير "أسرائيل" ؟إن هذا المنطق لا يتفق إطلاقا مع التحليل السليم والمتريث، فما بني على باطل فهو باطل.
وكيف لك أن تفهم طبيعة العلاقة الأمنية المعوجه مع كيانات عربية أنها لمصلحة الامة العربية؟ أو حتى لمصلحة هذه الدول التي سرعان ما سيتم ابتزازها وتفتيتها والهيمنة فيها وعليها! كيف ذلك ووجود الكيان بذاته هو أساسا لتفتيت وشرذمة ولتدمير هذه الأمة وسلبها إرادتها، والهيمنة على اقتصادياتها وتحطيمها؟فكيف لي أن أتعامل مع من يسعي لتحطيمي يوميا، وافترض أن أمامنا عدوآخر مشترك؟
اتفاقيات الضرورة الكونية والتعلم
اتفاقيات الضرورة الكونية تأتي حين تتكالب عليك الأمم لتنتج سياقا خارجا عن النص التاريخي اسمه "اتفاقيات اوسلو"،. وحين يَعرُج الفلسطيني على رجل واحدة ليمر من خلال النفق مجبرا وصولا لقيام الدولة وفق النقاط الخمسة الممثلة للمرحلة النهائية عام 1999 ينكشف الوجه الصهيوني المعادي، رغم الاتفاقيات المرعية دوليا، ويتكشف بالتجرية العملية أمام الفلسطيني ومن ورائه العربي بالتجربة أن هذا العدو لا يقبل من الآخر "الغوييم" الا الدونية والدنية والعبودية، والتسلط عليه فلا يقبل الندية والمساواة أبدا، وكيف لذلك ألا يكون وتعملق فكرة اليهودية الإقصائية العنصرية في فكر اليمين الإسرائيلي؟
تعلمنا من "أوسلو" وما قبلها وكثيرا بعدها إن فكر التطرف والإقصاء والتهجير والاحتلال والإحلال والقوة القاهرة المهيمنة في المجتمع الاسرائيلي اليوم والتي تشكل مضمون العقيدة (اليهودية اليمينية العنصرية) ومضمون الصهيونية لا يمكن أن تتحلل من ذاتها، الا بانقلاب فكري ثقافي ومجتمعي وعسكري يؤدي لقبولهم بنا نحن المواطنين السكان الأصليين لهذه البلاد نحن الفلسطينيين، دون خرافات اليمين والصهيونية التاريخية التوراتية التي لا قيمة لها بالقانون الدولي ولا عند المؤرخين والعلماء ولا عند ذوي اللب واليقين، وهذا ما لا نراه قريبا مطلقا.
نتعلم ولكننا نُشده
تعلمنا الكثير ونتعلم ولكننا في سياق التعلم كثيرا ما نقف مشدوهين أمام من يظنون بأنفسهم قادة رأي او قادة الاتجاهات (trend) بالمجتمع! فيفصّلون الأفكار على مقاييس أمزجتهم أو أمزجة حكامهم، وليس على مقاييس ومناهج التفكير السليمة، فيتوهون هم، ويتوّهون معهم جزء من الامة أو الشارع العريض.
لقد هالني أن العديد من هؤلاء الكُتّاب أو المفكرين أو المثقفين أو الساسة العرب لم يتعلموا الا القليل! فهم والمزاج يحركهم،والنظرة المتعجلة غير المتريثة، والهوى والمصالح ينظّرون للقضايا المصيرية ليس بعمق وجودها وثقل تبعاتها، وخلود عناصرها الاولية، وانما بخفة الناظر الى سوق السمك ليميز بين السمك النيء وذاك البائت!
وما كانت القضايا السياسية خاصة الثقيلة حضاريا كقضية فلسطين بهذه الخفة التي استدعت من مجموعة كُتّاب عرب أن يطلبوا من الفلسطينيين التريث! رغم أن التجربة خير برهان! طلبوا التريث وعدم رفض خطة نتنياهو-ترامب التصفوية حتى بعد صدورها مغلّفة بحبال الكفر والمؤامرة الجلية من أول كلمة الى الخريطة الفاقعة، الى مضامينها التوراتية المشبعة برفض السياق التاريخي العربي لهذه الأرض مع ما تتضمنه من إهانة لا نظير لها للاسلام عبر تقسيم الأقصى وغيرها من النقاط المثيرة للقرف والاشمئزاز لأي انسان حر.
يقولون
يقول أحد هؤلاء الكتاب بعد10 أيام عن اعلان ترامب لرؤيته العنصرية التدميرية (أعلنت في 28/1/2020): "ما نراه صحيحاً تجاه هذه المبادرة هو التريث قبل الحكم النهائي عليها بالرفض التام أوالقبول المؤدي إلى التفاوض المفيد والحاسم"؟!
في المقابل يقول الكاتب العراقي د.سعد ناجي جواد: "ان كل ما يجري الان هو ليس فقط محاولة لتهميش او محو القضية الفلسطينية من الساحة والاهتمام الدوليين بالكامل، وإنما ايضا لمحوها من الذاكرة العربية تماما. الا ان هذا الحلم على الرغم من التشرذم العربي واصطفاف أنظمة عربية معه، سرا او عَلناً، خوفا او رغبة بالانصياع للأوامر الامريكية، سوف لن يكتب له النجاح لسبب بسيط هو وجود الشعب الفلسطيني وثباته على استرداد حقوقه"-من ورقته تحت عنوان:خطة "اسرائيل" في شرذمة الوطن العربي تبعث من جديد.. والصفقة البائسة هي البداية.. والعراق الدولة المرشحة الاولى.
كثيرٌ من كتاب الخِفّة أشاروا لتراجع القضية الفلسطينية في أذهان العرب، كما أشاروا لوجود أعداء جدد وعلى راسهم إيران "المحتلة"، حيث تظهر "اسرائيل" برأيهم واقفة "بصلابة" الى جوار الدول أوالمحور المناويءلايران؟! (حيث المساواة غير العادلة بتاتا بالاحتلال، بين الاحتلال الصهيوني الوجودي، وبين "الاحتلال" الايراني المرفوض في دول العرب) وكأنهما حلفاء؟ وفي حقيقة الأمر أن قتال أو عداء الجارين التاريخيين أي العرب وإيران هو الطامة الكبرى -التي نتحمل معًا جريرتها- والتي جعلت من الإسرائيلي يتعملق بكل وضوح.
كيف نتعلم تاريخيا؟
نعم أن تحارب الجارين التاريخيين وهما إيران والعرب ليس فيه الا مجلبة للشر، وليس لإيران أن تعيث فسادا في عواصم العرب، ولا للعرب أن يعيثوا فسادا في طهران أو مشهد أو اصفهان، وليس بمثل ذلك الا خِفة استراتيجية وتاريخية وحضارية لدى السياسيين والمثقفين.
فحين يكون جارك الجغرافي والديني والثقافي والحضاري مستقر منذ الأزل والى الأبد، فليس لك الا أن تتعامل معه، وكما كان شأن حلقات مختلفة عبر التاريخ سلبا وإيجابا اقترابا وابتعادا، وليس كما حال المحتل لأرضنا الذي يقدم نفسه بديلًا عن جيرة التاريخ، وعلى أشلائنا، ليرسم في سماء الأمة إجازة لسلب أرض العرب بموافقتهم.
علينا أن نتعلم في القضايا الاستراتيجية والحضارية المصيرية أن لا تريث، وإنما مرجعية ثابتة، وقرار واضح او منهجية فكرية صلبة، وفي شؤون الساعة من القرارات ما يمكن أن تعطى صبغة الواقعية التي لا تضر أبدا بالمصير، وحين يقولون لنا: أنتم، لهم أن يسيروا خلف القرار الوطني المستقل المتحالف مع أركان الأمة ومصالحها، فلا يتم النظر للقضية الفلسطينية من زاوية أنتم فقط وإنما نحن أنتم.
إن فلسطين أرض العرب ، وفيها للمسيحيين كما للمسلمين تمامًا، هكذا يجب أن يفهم الايرانيون والعرب، فحين يتكلمون عن فلسطين عليهم الحديث عنها بمنطق نحن، وليس أنتم بمعنى التخلص من عبء لا يريدونه، أويتحللون منه تحت ضغط السيد.
علينا نحن الفلسطينيين، نحن العرب الفلسطينيين من الذنب الكثير خاصة بتشرذمنا، ولا ننكر، وآن لنا تجاوزه، ولكن المحور العربي المصطف ضد إيران، والمحور الايراني الذي يُفسد قلب الأمة كلاهما مَن يتيح للفكروالنموذج الصهيوني أن يتمدد ويتوسع ويرتاح في بطن الأمة، بل وأن يتم الترحيب به الى الدرجة التي يصبح فيها القبول بمعلاق فلسطين او جبنتها السويسرية وفق الجزار (اللحام) الامريكي مطلبًا عربيا يتحرر فيه الأبعاض من أعباء كثيرة لطالما جعلت منهم وكانهم أسرى المباديء والقيم الثقيلة، والأيديولوجيات التي لم يعد لها مكان في هذا الزمان الاستتباعي والاستهلاكي.
anw