إثر"الصفقة"، لنُغلق الدائرة وننطلق نحو العمل.
نشر بتاريخ: 2020-02-02 الساعة: 09:39بكر أبوبكر كثيرا ما يُثار التساؤل الشهير: ما العمل؟ فلم يكن لينين[1] وحده من طرح السؤال وحاول جاهدا الإجابة عليه من واقعه، بل هو سؤال سرعان ما يتعملق كالجدار في قلب العتمة ليمنع الحركة عند الانتهازيين من طارحي السؤال الذين يبدأون بالصراخ والنحيب والتبرير للقعود!
ولكنه سؤال الخشية من المجهول، ومن المستقبل عندما تصطك ركب المعوقين عند ادلهمام الخطوب.
وهو السؤال الحقيقي للعاشق للفكرة، وللقضية، وللنجاح والعمل، ولصاحب الإرادة القادرة على جعل الكون يشتعل من ومضة نار، أو نداء صمود.
إن سؤال ما العمل؟ لدى أصحاب الإرادة والايمان العميق والجهد المبذول الذي يسبق الاستغراق بالتنظير الفلسفي، هو السؤال الحقيقي المتراكب مع أدوات التفكير والرغبة بتحقيق الإنجاز والتقدم.
ومع تكامل التفكير البنيوي والتفكير الموضعي (الشامل والجزئي) مع النقدي يتم النظر الى الوضع بكليته، ثم بخصوصيته في الدائرة الوطنية والاقليمية والعالمية وفي المجالات الفكرية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية والحضارية الروحية، ما يعيد رسمه في خطوط تستطيع أن تتجاوز القائم من محبطات ومن عوائق ومن عتمة هي أصلا في النفوس وليست فقط في ظلامية القائم المادي على الأرض وعدوانيته.
كثيرا ما تبنى أبناء الثورة الفلسطينية في تحليلاتهم خط الفهم المرتبط بما نسميه الواقعية السياسية[2]، وهو الخط الفكري أو السراطية (الاستراتيجية)[3] المكون من 5 نقاط رئيسة:
الأولى: هي معرفة العدو الرئيس (التناقض الرئيس) وعزله عن المحيط، ونحن في ثورتنا نعرف أن عدونا الأوحد، وتناقضنا الرئيس هو محتل ومستعمر أرضنا أي العدو الصهيوني لا غيره مطلقا، ومهما لبس البعض لبوس العداوة، فلن يكونوا عدوا رئيسا مطلقا فهم في حالة الانضمام لهذا العدو أعداء ثانويين، وقد يكونوا أتباعا أو أنذالاً نعم، لكن وجب التعامل معهم بسياق مختلف.
من هنا تظهر النقطة الثانية التي تحدد الرئيسي والثانوي من الأفكار والخيارات، والمواقف والخطط والأعمال، فلا ننشغل بالثانوي من الأمور مهما بدا فاقعا،وشرسا، تاركين الرئيسي الذي يجمعنا على اختلافاتنا .
النقطة الثالثة تفترض معرفة معسكر الأصدقاء بوضوح والعمل على تصليب هذا المعسكر ومضاعفة عوامل الاتفاق فيه، بل ومحاولة زيادته، أي كما كانت تنظّر فصائل الثورة نحو (بناء اوسع جبهة وطنية،وتأييد التضامن العربي في مواجهة العدو)[4].
والنقطة الرابعة هي تحديد وتوصيف معسكر الأعداء أو العدو الرئيس ومن يقف معه سرا أوعلنا، ومحاولة تقليص هذا المعسكر، أو تفتيته أوجذب بعض عناصره، أو تشكيكه بمواقفه من العدو الرئيس، أو مد الخيوط لبعض أطرافه ما هي مهمة صعبة، وقد تكون مقيتة للبعض الذي يتمنى أن يستل خنجرا ليطعن أمثال هؤلاء المتساوقين مع العدو الرئيس، ولكن منطلقنا قول الرسول صلى الله عليه وسلم (لعل الله يخرج من أصلابهم من يعبد الله).[5]
بمعنى آخر أن العدو أو التناقض الرئيس هو العدو الصهيوني، والباقي ممن قد يلتفون حوله لسبب أولآخر يجب التعامل معهم وفق الضرورة التي قد تقتضي إطلاق الفئران في وجوههم، او إرسال حمامات السلام اليهم.[6]
أما النقطة الخامسة فهي التعرف على مصادر قوتنا ومصادر ضعفنا،[7] وعلى العموم لطالما كانت مصادرقوتنا ومنابعها ترتبط بعدالة قضيتنا وحقنا الطبيعي والقانوي والاخلاقي والتاريخي الذي لا يزول في فلسطين، كل فلسطين.
كما ترتبط بالايمان الذي لا يتزعزع بالتضحية والنصر عنصرَا أو قيمَتَا الانتماء الأصيل لأي تنظيم فلسطيني وعلى رأسها حركة فتح.
إن الايمان بالله تعالى ووعده غير المخلوف بفلسطين، والتحرير هو من عوامل قوتنا الروحية الجبارة.
ومن عوامل قوتنا التي لن تنضب كبئر أو نبع لا تنضب ماؤه، هو نحن أي الشعب العربي الفلسطيني.
والشعب العربي من الفلسطيني جزء بمنطق أن فلسطين راية حرية وراية نضال وراية وحدة، كما الفلسطيني من العربي جزء، وهنا العروبة لسان الاسلام، ولسان الجمع في شرق وغرب الامة عبر تاريخها وحضارتها مشتملا على الامازيغ والكورد وكل القوميات، والاديان في حضارتنا المشتركة، ولا يعني القومية الضيقة.
العدو الرئيس لنا كأمة واحد لا ثاني له سياسيا وحضاريا ووجوديا، والثانوي لا يتقدم على الرئيس، وعوامل قوتنا واضحة، ونتفوق على ضعفنا، والمعسكرات محددة قُربا وبُعدا عداوة وصداقة (أو يجب أن تكون كذلك)، والخيارات تأتي هنا لتزرع ما يمكن حصده.
إن معرفة المعسكرات أي معسكرالأعداء، ومعسكر الأصدقاء[8] يعني تراكب الجهد بالاتجاهين، ويعني أننا استطعنا بوضوح أن نقيم دائرة مغلقة[9] حول العدو الرئيس فلا نجعل دائرته قابلة للفتح والاختراق بمعنى أن يتسع القطر ليدخل الى دائرة العدو الرئيس مكونات جديدة، ما هو حاصل للأسف!
ما العمل سؤال يرتبط عند الفدائيين والمجاهدين والمناضلين بالذات والمحيط بالرغبة العارمة بالعمل، وليس التنظيرالغريق، وإدعاء التخطيط لقتل الفعل، وليس بمحاولة تعزية النفس أن لا عمل، أو بمحاولة التبرير للسقوط والهزيمة النفسية قبل المادية ما هي مسيرة أولئك المعوقين الذين قال الله تعالى فيهم: "قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنكُمْ وَالْقَائِلِينَ لِإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا ۖ وَلَا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلَّا قَلِيلًا" (18) (الاحزاب).
إن السؤال حقيق، سؤال ما العمل؟ ويجب الإجابة عليه، ومقتضى الحال أن هناك عناصر كثيرة من الممكن أن نختصرها بثلاثة لجعل ما يجيش بالقلب أو يعتمل بالعقل حقيقة تمشي على الأرض.
أولها بلورة الفكرة والرؤية والاستراتيجية والاقتناع بها، ثم نشر الفكرة، ولاحقا التحريض والتعبئة على قبولها بإزاحة ما سواها من أفكار، فلا مكان حين تدلهم الخطوب للتعدد، ولا مكان أمام العدو الرئيس للفرقة وترف العناد والمكابرة و"الجكر".
بعد استقرار الرأي والتوجه، وعندما يعظم الأمر وتتجلى المأساة لا مجال للتخبط والتذرع بالضعف، ولا مجال اللجوء للرحابة، ونحن في أتون المعركة، أو ونحن في ضيق الخيار كما حال المدافعين عن القسطنطينية ومحمد الفاتح يطرق أبواب المدينة، وهم يتحاورون ب:كم ملاك يقف على رأس الدبوس؟ او أشباه ذلك.
وجب أن نتوحد نحو الفكرة الجامعة المانعة وهي المعروفة منذ زمن! ولم يتم تبنيها لعوامل شتى، منا وفينا، إذن الخطوة الاولى أن الفكرة/الرؤية الجامعة بدات تتمدد وتحتل مساحات لم تكن قد طرقتها من قبل.
ولنا في الخطوة الثانية جهدا إضافيا يفترض التهيئة للمناخ والإعداد للتطبيق والتوجيه نحو أفضلية الفكرة، والتعبئة الميدانية الجماهيرية العملية، والتحفيز الميداني بتطبيق الفكرة عبر حالات تتراكب أو عبر أنوية تتكامل أو عبر مبادرات تتجمع فيصبح المناخ مؤهلا للمرحلة الثالثة.
المرحلة الثالثة في الرد على سؤال ما العمل؟ هي مرحلة الانطلاق والفعل المتكامل والعطاء والمجابهة، ولطمم مؤخرة العدو (ثم أنفه) بغض النظر عن طبيعة الوسيلة أو الأسلوب الذي يجب أن يتوافق مع منطق الفهم بتضييق الخناق حول العدو الرئيس وتقليص مؤيديه، وزيادة الأنصار والأصدقاء لنا ضمن المفهوم أن ذلك قادر على مدّنا بالحياة والزمن والدعم والاستمرار.
لنفهم ونبلور ثم نضع الفكرة الجامعة موضع التنفيذ، ولنهيىء المناخ العملي لها، ثم نصبّ لهيب الثورة والمجابهة والثبات والمقاومة في وجه العدو الرئيس، لننتصر بإذن الله.
[1] تبلورت أفكار لينين على مدار سنوات عديدة حول المهام التنظيمية التي تواجه الاشتراكية الديمقراطية الروسية في كتابه فائق الأهمية “ما العمل؟” في 1902، وقد ركز الكتاب بشكل أساسي على “مسائل ثلاث: طابع التحريض السياسي ومضمونه الرئيسي، والمهام التنظيمية، ومشروع إنشاء منظمة كفاحية لعامة روسيا، إنشاء يجري في وقت واحد ومن شتى الجوانب”-توني كليف، لينين وبناء الحزب.
[2] الواقعية هي مدرسة نظرية في العلاقات الدولية، والواقعية كما وصفها "جوناثان هاسلام"، أستاذ تاريخ العلاقات الدولية في جامعة كامبردج، "هي مجموعة من الأفكار التي تدور حول المقترحات المركزية الأربعة: السياسة الجماعية، الأنانية، الفوضي والقوة السياسية"، حسب الموسوعة الحرة. وطالما تحدث المفكر خالد الحسن حول مناهج التفكير الأربعة برأيه تلك المتضمنة: المنهج القضائي والمنهج الفلسفي والمنهج الماضوي والمنهج الواقعي السياسي.
[3] القائد الالماني مولتكه (Helmuth von Moltke) يعرف الإستراتيجية بأنها: (الملائمة العملية للوسائل الموضوعة تحت تصرف القائد للوصول إلى الهدف المطلوب). ويقول الكاتب د.ابراهيم أبراش القيادي في حركة فتح أن: (أية ممارسة سياسية بدون إستراتيجية تصبح نوعا من العبث والتهريج أو مجرد إدارة يومية لشؤون الناس وللازمات السياسية دون إمكانية للانتقال من إدارة الأزمة إلى حلها.)
[4] من مصطلحات معين الطاهر القيادي السابق في حركة فتح الواردة في كتابه: حكايات وصور من زمن مقاوم، عن تيار السرية الطلابية لحركة فتح تحت بند: في إطار فتح وفي سياق حديثه عن نشاة السرية التي اختلفت مع قيادة فتح في برنامج النقاط العشر، ولكنها لم تخونها مطلقا وعدتها وطنية في سياق معرفة التناقض الرئيس من الثانوي، والانخراط في العمل المقاوم.
[5] كان خروج النبي- صلى الله عليه وسلم- إلى الطائف في شوال سنة عشر من البعثة بعد وفاة عمه أبي طالب وزوجته أم المؤمنين خديجة- رضي الله عنها- فأقام بها عشرة أيام فلم يجيبوه وآذوه وأخرجوه، وقاموا له سماطين فرجموه بالحجارة حتى أدموا كعبيه، فانصرف عنهم رسول الله صلى الله عليه وسلم راجعا إلى مكة. وفي طريقه لقي عداسا المسيحي فآمن به وصدقه. وفي طريقه أيضا بنخلة صرف الله إليه نفرا من الجن سبعة من أهل نصيبين، فاستمعوا القرآن وأسلموا. وفي طريقه تلك أرسل الله إليه ملك الجبال يأمره بطاعته، وأن يطبق على قومه أخشبي مكة وهما جبلاها إن أراد فقال : لا بل أستأني بهم، لعل الله يخرج من أصلابهم من يعبده لا يشرك به شيئا. وفي طريقه دعا بذلك الدعاء المشهور :اللهم إليك أشكو ضعف قوتي، وقلة حيلتي ..... الحديث، لمراجعة كتاب: زاد المعاد في هدي خير العباد لابن قيم الجوزية وغيره.
[6] كان من مؤسسي التبار/الخط (الخط الماوي في حركة فتح مجازا، الذي أسموه خط الشعب خط الجماهير، والذي ضم شبابا لبنانيين وفلسطينيين) الناشط الطلابي إدي زنانيري ومنير شفيق (كان منظّر الخط) وشقيقه الشهيد جورج، وفي فترة لاحقة محمد محمد بحيص (واسمه الحركي أبو حسن قاسم) ومحمد باسم التميمي (اسمه الحركي حمدي) ومروان الكيالي وسعد جرادات ومعين طاهر ومحمود العالول وكوكبة طويلة من المناضلين-يراجع فتحي البس في كتابه: انثيال الذاكرة.
[7] الانتفاضة الفلسطينية الأولى أو انتفاضة الحجارة نموذج لاستثمار نقاط القوة المتمثلة بالشعب وإرادته العظيمة (وكذلك الثانية والثالثة)، والانتفاضة الاولى كنموذج للقوة الشعبية سمّيت بهذا الاسم لأن الحجارة كانت أداة الهجوم والدفاع التي استخدمها المقاومون ضد عناصر جيش الاحتلال الإسرائيلي، كما عُرف الصغار من رماة الحجارة بأطفال الحجارة. والانتفاضة شكل من أشكال الاحتجاج الشعبي الفلسطيني على الوضع العام والقمع اليومي الذي تمارسه سلطات الاحتلال الإسرائيلي ضد الفلسطينيين وفي سلب الأرض.
استمر تنظيم الانتفاضة من قبل القيادة الوطنية الموحدة الفلسطينية ومنظمة التحرير الفلسطينية، مع قيادة الداخل، حيث بدأت الانتفاضة يوم 8 ديسمبر/كانون الأول 1987، هدأت الانتفاضة في العام 1991، وتوقفت نهائياً مع توقيع "اتفاقية أوسلو"عام 1993. يُقدّر أن 1,300 فلسطيني استشهدوا أثناء الانتفاضة الأولى على يد جيش الاحتلال الصهيوني-حسب الموسوعة الحرة-كما قتل 160 إسرائيليّا على يد المقاومة الفلسطينية.
[8] في الإطار الواسع قد نجد معسكر الأصدقاء الواضح، ومعسكر الأعداء الواضح، وقد نجد المعسكرأوالتيار الثالث أيضا، وهو معسكر التائهين بين هذا وذاك، أو المترددين، أو الخائفين، او غير المبالين. او من يسميهم البعض "حزب الكنبة" وقد يكون هذا المصطلح منسوبا للمهندس المصري نجيب سويرس في ثورة 25 يناير2011 في مصربمعنى الأغلبية الصامتة ، وفي إطار الانتخابات يسمون الكتلة المائعة ويشكلون في الدول غالبية لا يستهان بها وجب العمل معها، وعليها.
[9] يقال في العربية أن الحوار يسير في دائرة مغلقة، أي أنه لا يتقدم. ونحن في التوصيف السياسي هنا نريد أن يكون الحال هذا مع العدو الرئيس أي أن تغلق عليه الدائرة فلا يتقدم، أو يتوسع ويفتح الدائرة أو نفتح عليه الدائرة ليربط خيوطا او يضم أفراد أو مؤسسات او دول داخل دائرته هو، فيسيطر عليهم ويحطم مصادر قوتهم، ويُتبعهم لخططه وهدفه باستعمار واحتلال الأمة بالهيمنة والعنصرية والاقتصاد والاستغلال للثروات، والاحتقار الحضاري.
anw