الأسرى في المدارس.. ثقافة الحرية في مواجهة ثقافة القوة
نشر بتاريخ: 2019-12-16 الساعة: 12:39عيسى قراقع هي اجيال ولدت بعد اتفاقيات اوسلو، طلبة المدارس الذين استيقظوا على الحياه ليجدوا أبائهم وأمهاتهم وأصدقائهم وأبناء جيرانهم وأقاربهم وانفسهم يقبعون في سجون الاحتلال، اللغه من حولهم هي لغة سجون، الكلمات ،اللفتات، النبرات، الصورعلى الحيطان والجدران هي صور أسرى، الحياة من حولهم سجن، تداهم عقولهم البريئة، أحداث صادمه ومثيرة، في عيونهم حيرة ودهشة، في صوتهم انكسارات بعيدة، يتواصلون مع الدنيا بطائرات الورق ، يبتسمون لأطفال العالم ابتسامات عابرة للجدار.
الطلبة يسألون عن معنى حكم المؤبد، عن شكل السجان والزنزانة، يسألون عن الاضراب عن الطعام وعن سر الملح والماء في الأجساد الذابلة، يسألون عن المداهمات والاقتحامات الليلية لجنود الاحتلال، الاعتقالات اليومية، صراخ الاطفال والنساء في منتصف الليل، صوت الرصاص والكلاب البوليسية، تفجير الأبواب واطلاق القنابل، قنص الأولاد والأحلام على الجدار الفاصل في غزة، الطلبة ينتظرون الاجابات الكاملة حتى لا يفقدوا أعمارهم القادمة، ما هذه الحرب؟ لقد ولدنا في عهد السلام، تسألني طالبة في عصبية بالغة .
تحت اشراف الشبيبة الطلابية في اقليم حركة فتح في بيت لحم وبالتنسيق مع وزارة التربية والتعليم ومدراء المدارس، خضت تجربة تقديم دروس عن قضية الأسرى للطلبة في 42 مدرسة في المحافظة، من الصف العاشر الى الصف الثاني عشر، وكانت تجربة هامة، أثمن وأقدر لجنة الشبية على هذه ألانشطة التي أعتبرها ضرورية وخطوة استراتيجية نحو ترسيخ الوعي بمعاني التضحية والكرامة الانسانية لدى أبنائنا الطلبة.
قضية الأسرى الفلسطينيين القابعين في السجون دخلت المناهج التعليمية، وهنا يجب أن نشكر وزارة التربيه والتعليم ولجنة المناهج على أعطاء مساحة تربوية وتعليمية لتجربة الأسرى في المنهاج التعليمي، إنها خطوة نحو تحرير طلبتنا من التعليم النمطي والمؤدلج، وخطوة اكثر أهمية في تسليط الضوء على ضحايا الأحتلال ، رموز الحرية، الآسرى الذين ضحوا من أجل حرية الانسان الفلسيطيني وكرامته وعدالة قضيته، فالتعليم يصنع وطنا، وثقافة الحرية دائما تنتصر على ثقافة القوة .
كل حصة هي نشاط تضامني، هي وفاء ومحبة وعهد من طلبة فلسطين الى الأسرى والأسيرات خلف قضبان سجون الاحتلال، في غرف الدرس صدحت الأناشيد والقصائد والأغاني المعبرة عن التضامن مع الأسرى ومع حريتهم، في غرف الدرس علقت صور الأسرى الى جانب صور أشجار الزيتون والطيور المحلقة في السماء الزرقاء، لقد تحرر الطلبة من القيود وصاروا قادرين على تحرير الواقع من أغلاله، تحرير العقول من الأطواق التي صنعها المحتل الصهيوني، الطلبة كانوا ينظرون الى بقية العالم بحيوية ونشاط، كأنداد رؤوسهم مرفوعة في السماء.
هذا اليوم المعلم لم يأت، المعلم في السجن، وهذا اليوم هناك مقعد فارغ، الطالب في السجن، المعلمة غائبة، لقد ذهبت لزيارة زوجها في سجن نفحة، هذا اليوم لا يوجد درس، المدرسة مغلقة ، لقد استشهد طالب برصاص جنود الاحتلال، أعدموه من مسافة قريبة دون أي مبرر، المدرسة أعلنت الحداد، الموت والسجن يلاحقان طلبة فلسطين، متى تكتمل الاغنية حتى يهدأ البحر؟ كتب مدير المدرسة هذه الاسئلة على اللوح الاأسود بطبشورة بيضاء .
في المدارس حضر أكثر من خمسة آلاف أسير وأسيرة، حضر المرضى والنساء والأطفال والأسرى القدامى، جاءوا من كل المدن والقرى والمخيمات، من كل فئات الشعب الفلسطيني، فاذا كان الجلادون الصهاينه يحشرون الأسرى في السجون البغيضة وتخفي وزارة التربية الاسرائيلية وجوه الأسرى وانسانيتهم في مناهجها التعليمية ، وتجردهم من آدميتهم وكأنهم ليسوا بشرا أسوياء، فأن المدارس ومناهج التعليم الفلسطينية فتحت الأبواب واسعة على القيم الانسانية والحضارية وتجاوزت الاسلاك الشائكة وسياسة التشويه والطمس بحق الأسرى، كشفت جرائم المحتلين بحق الأسرى، فتحول الطلبة خلال الدروس الى محكمة ضمير انسانية، تحدوا الأيديولوجية القمعية الاستيطانية، تحدوا الأساطير والخرافات الصهيونية وسياسة اقصاء الأسرى من الشرائع والاتفاقيات الدولية، قد تفوق الطلبة على قانون القومية العنصري، على حقول الكراهية والتعصب والفاشية، صار التعليم في مدارسنا فعل حرية .
في المدارس حضر الأسير الأول محمود بكر حجازي، وحضرت الأسيرة الأولى فاطمه برناوي، جاءوا من القدس، من المسجد والكنيسة والبلدة القديمة، قرعوا أجراس المدارس، انطلقت صيحات وانتفاضات في الدفاع عن القدس عاصمتنا الروحية والسياسية، الاولاد والبنات يواجهون قطعان المستوطنين والجنود بصدورهم العارية، ما هذا الجيل المختلف المتمرد الذي لا يخاف؟ يتسائل قادة الاحتلال الذين اعتقدوا أنهم انتصروا على التاريخ والذاكرة .
في المدارس حضر كريم يونس ونائل البرغوثي وأحمد سعدات وا سراء الجعابيص ومروان البرغوثي وفؤاد الشوبكي ومحمد الطوس وعباس السيد وسمير أبو نعمة، جاءوا من خلف المؤبدات، شاهدوا اكتمال مشروع الحرية في المدارس، اكتمال انسانية الانسان والعدالة الكونية، هنا لغه جديدة، لغة البحر الأبيض المتوسط، لغة القمح والفراشات الجميلة، الأغاني مقاومة، الرسومات مقاومة، الدبكة مقاومة، القصيدة مقاومة، التعليم جزء أساسي من مكونات الصمود والتحرر وترسيخ الهوية، فان كان السجن هو الموت فقوة العقل هي روح الحياة .
في المدارس حضر الشهداء الأسرى ، حضرت أرواحهم وأكفانهم وانكسر الصمت البارد، حضر من قتلوه بالتعذيب الوحشي ومن قتلوه بالجرائم الطبية المتعمدة، حضر من ضربوه حتى الموت في غرف وساحات السجون، ومن أعدموه ميدانياً مكبلا على يد فرق الموت، حضر الشهداء المحتجزون في مقابر الأرقام، خرجوا من تحت التراب والنسيان، حضرت الجنازات الغائبة، طلبة المدارس زرعوا زهوراً تحاكي زهور الجليل وتوحي بليمون غزة، الطلبة اعادوا ترتيب الدروس ورفعوا الاشلاء على سلم الأرواح وهتفوا: تحيا الحياة.
في المدارس حضر ابراهيم طوقان وخليل بيدس والشيخ عبد القادر المظفر وابو سلمى ومحمود درويش ونوح ابراهيم ومعين بسيسو وراجح السلفيتي ووليد دقة وفاضل يونس، حضر توفيق زياد وغنى مع طلبة الصف العاشر :
يا شعبي
يا عود الندِ
يا اغلى من روحي عندي
إنا باقون على العهدِ
لن نرض عذاب الزنزانة وقيود الظلم وقضبانه
طلبة المدارس ردوا على الرواية الصهيونية واعادوا صوغ رواية الفلسطيني وتوحيد الزمن التحرري الفلسطيني ليصبح زمناً معرفيا تراكمياً يربط الغياب بالحضور، فالذات تحركت، عناصر الهوية الوطنية الثقافية تحركت من السكون، انه انفتاح على المستقبل بعقول طلبة المدارس الذين قسموا وقتهم بين القلم والحجر وزراعة الورد في ارض المواطنة.
الطلبة يصطفون واقفين على صوت النشيد الوطني، طلبة فلسطين ليسوا في معسكر حربي او مدرسة دينية حاقدة تلغي في دروسها وجود الآخرين، ليسوا في غيتو تحكمه الأسطورة والانغلاق والبندقية، طلبة فلسطين يبدعون ويتميزون انسانياً واخلاقياً، يحصدون الجوائز العالمية في المجال الانساني والثقافي، بينما الطلبة الاسرائيليون الذين صاروا جنوداً يحصدون ارواح البشر ويحظون على جرائمهم بالنياشين والأوسمة القومية، الطلبة يعرفون ان العالم يحتفل باليوم العالمي لحقوق الانسان، الاحتفال الذي لم يصل صداه الى فلسطين، يوجد قوة طاغية تضطهد الانسان هنا بالقتل والسجن والانتهاكات المستمرة الممنهجة.
هذا اليوم حضر الطلاب، اكتمل الدرس، تجاوزوا الحواجز العسكرية والمكعبات الاسمنتية، تجاوزوا اعتداءات المتسوطنين والموت المستباح كل لحظة، وصلوا المدرسة، حملوا حقائبهم واقلامهم وساروا على ايقاع قلوبهم واتجاهات الرياح، تعلموا مناخ الحياة الفلسطينية تحت الاحتلال، تعلموا انهم ذاهبون الى الغد، وان التضحية لها معنى ودلالات تشبه عملية الولادة، توليد وعي ثقافي جديد من اجل انسانية حرة وحس جماعي، هذا اليوم احلام الطلبة استيقظت مبكرا، لم تعد مصادرة او طي الغياب، التعليم يصنع وطنا.
anw