إيقاف منبر "الإيجاز الصحفي اليومي" في وزارة الخارجية الأميركية
نشر بتاريخ: 2019-11-08 الساعة: 09:40الولايات المتحدة-أ.ف.ب-انتهى في شهر أيلول الماضي تقليد لعله الأهم في التراث السياسي الأميركي، وربما العالمي، في صدق وجدية المساءلة والجدل الذي يتاح للصحافة المعتمدة في وزارة الخارجية الأميركية، الذي يتناول يومياً، ومنذ 56 عاماً، قضايا السياسة الخارجية الأميركية وكل تفرعاتها (أي كل ما يجري في العالم، بما في ذلك ما يجري في فلسطين وللفلسطينيين)، بعد أن أخذت الوزارة قراراً على ما يبدو (دون إعلان) أن يوم 11 أيلول 2019 سيشهد آخر إيجاز صحفي في قاعة المؤتمرات الصحفية في مبنى الوزارة وإلى إشعار آخر.
شَكّل "الإيجاز الصحفي اليومي" في السابق، للعديد من الصحفيين، بمن فيهم صحفيو القدس، النقطة المحورية لتنظيم يومهم الصحفي، فمنه تُحدَّد أولوياتهم الإعلامية، بعد مواجهات جدلية ساخنة مع الناطق الرسمي باسم وزارة الخارجية تسغرق ما بين ساعة وساعة ونصف كل يوم. يشار إلى أن وزير الخارجية الأميركي يحضر شخصياً هذا الإيجاز من حينٍ إلى آخر للإجابة عن تساؤلات الصحافة بشأن سياسات الإدارة الأميركية وإجراءاتها عبر العالم، من قصف وغزو أو دعم مالي أو غير ذلك.
وكثيراً ما واجه الصحفيون الوزير الأميركي خارج مبنى الوزارة (أحياناً يومياً) لدى اصطحابه زائراً ما إلى باب المبنى لوداعه، ومواجهته فيما عُرف صحفياً بـ"الترصد الخارجي"، ما مكّن العديد من الصحفيين المغمورين من فرصة مساءلة الوزير، بغض النظر عن الهيئة الصحفية التي يعملون فيها ومدى أثرها.
لا شك أن منبر المتحدث الرسمي باسم وزارة الخارجية الأميركية والمساءلات المحتدمة تحت عدسات الكاميرات التي تنقل نقلاً حياً كل ما يحدث في قاعة الإيجاز الصحفي أكسبا هذا التبادل حالة فردية نادرة، حتى وإن لم تؤثر كثيراً على سياق السياسة الخارجية الأميركية. كل ذلك انتهى يوم 11 أيلول 2019، ربما مرحلياً، ولكن، والحق يقال، إنه ومنذ يوم 21 كانون الثاني 2017، يوم استلام الرئيس الأميركي الجديد دونالد ترامب، تغيّرت الأُمور، حيث ارتبكت منابر "المتحدث الصحفي" من البيت الأبيض ومروراً بوزارة الدفاع (البنتاغون)، وطبعاً وزارة الخارجية (التي نركز عليها في هذا المقال).
للأمانة، تفتح القاعة للصحفيين بين حين وآخر لإعطاء مجال للمبعوثين الخاصين للوزارة، مثل: السفير جيم جيفريز، المبعوث الأميركي الخاص لسوريا (أو المبعوث الخاص لمساعدة القوى المناوئة للدولة السورية)، أو السفير براين هوك، المبعوث الخاص لإيران، أو السفير إليوت آبرامز، المبعوث الخاص لفنزويلا (في ضوء اعتراف الإدارة الأميركي برجلها المعارض خوان غوايدو، واتهامها الرئيس نيكولاس ماديرو بالفساد وعدم الشرعية)، أو السفير ناثان سيلز، المبعوث لمكافحة الإرهاب، وغيرهم.
كما أن الناطقة الرسمية تحضر إلى موقع المكاتب الصحفية المكتظة والضيقة، التي هي عبارة عن طاولات للصحفيين وحواجز تفصلهم عن بعضهم البعض، بمن فيهم صحفيّ القدس،(باستثناءات قليلة حيث تحتفظ بعض المؤسسات الصحفية الكبيرة، خاصة شبكات التلفزيون بمكاتب صغيرة جداً) في الطابق الأول من بناية الوزارة لدعوة الصحفيين للمشاركة بـ"مداولة صحفية" على طاولة المؤتمرات لتوجيه الأسئلة ونسبها إلى "مسؤول طلب عدم ذكر اسمه".
في الأشهر الأربعة الأولى من إدارة ترامب ، وحتى آخر شهر نيسان 2017، وقعت مسؤولية المتحدث ومقارعة الصحافة على كاهل مارك تونر، نائب المتحدث الرسمي لوزارة الخارجية أبان ولاية جون كيري كوزير للخارجية (نيسان 2013-كانون الثاني 2017) ، والمتحدث المخضرم الذي كان قد أمضى كل حياته المهنية في السلك الدبلوماسي الأميركي. وبسبب عدم معرفة (أو قناعة) الإدارة الجديدة بدرجة ولاء تونر لها، اتسمت قدرته التعبيرية عن السياسة الخارجية الأميركية، ومعدل تمثيله لها، بالتقيد. لكنه تابع بثلاثة إيجازات صحفية في الأسبوع بجلد ومثابرة. أجاب بجدارة المتمرس من وراء الميكرفون، ورد على الرسائل الإلكترونية بانتظام.
ثم استلمت مكانه الإعلامية القادمة من شبكة "فوكس نيوز" هيذر ناورت ، التي رغم ضحالة خبرتها في المواقع المشابهة، تأقلمت مع جو الصحافة الجريء (والعدواني أحياناً) في قاعة الصحافة بسرعة ودماثة، مرتين في الأسبوع (عندما تكون في واشنطن)، وإن كانت أجوبتها تعكس موقف الإدارة دون المغامرة خارج البرواز الرسمي ولو للحظة، لا سيما أنه أصبح واضحاً أن السياسة الخارجية تُدار من البيت الأبيض (خاصة بشأن الصراع الفلسطيني الإسرائيلي أو ملف السلام). كان ذلك في عهد وزير خارجية ترامب الأول ريكس تيلرسون، الذي اتسم بالانكفاء على الذات، وخفف من جولات وزير الخارجية للخارج، واكتفى باصطحاب حفنة من المسؤولين استثنت ناورت.
وعندما طرده ترامب بتغريدة على شبكة "تويتر" يوم 13 آذار 2018، واستبدله بمدير "وكالة الاستخبارات المركزية CIA" مايك بومبيو، وجدت ناورت نفسها ليس فقط الناطقة الرسمية لوزارة الخارجية الأميركية التي رافقت بومبيو في كل جولاته، بل أيضاً متولية لمنصب "مساعد الوزير للعلاقات العامة"، المنصب البالغ الأهمية في سلم المسؤولية في الوزارة. واستمرت ناورت في عقد مؤتمراتها الصحفية مرتين في الأسبوع، حتى نهاية العام، عندما قرر ترامب بارتجاليته المعهودة تعيينها مندوبة للولايات المتحدة في الأمم المتحدة خلفاً لنيكي هيلي التي كانت قد استقالت، دون استشارة أحد، وهو منصب وزاري بامتياز، يؤهل حامله موقعاً مؤثراً على مجلس الأمن القومي، جنباً إلى جنب مع وزير الخارجية، ووزير الدفاع، ووزير الطاقة، ومستشار الرئيس لشؤون الأمن القومي. لكن تعيينها تعثر، وتعثر معه مصير الإيجازات الصحفية، إلى أن تمكن نائبها روبرت بلادينو من استلام المنبر للحديث باسم الخارجية الأميركية، وبوق سياستها بعد مرور أشهر على الصمت.
بدوره، انتقل بلادينو إلى السفارة الأميركية بالصين، واستلمت الناطقة الرسمية الحالية مورغان أورتيغز، وهي نجمة إعلامية قادمة أيضاً من شبكة "فوكس نيوز"، موقعها في شهر أيار الماضي واعدة بالعودة إلى "المؤتمر الصحفي اليومي" بانتظام، ولكن حقيقيةً كانت مؤتمراتها ومنذ تعيينها نادرة، بسبب مرافقتها الوزير بومبيو في كل جولاته –وهي كثيرة جداً– وعدم وجود نائب (حتى حديثاً) يستطيع الإمساك بزمام الحديث عن السياسة الخارجية الأميركية.
كان ذلك قبل يوم 24 أيلول 2019، اليوم الذي أعلن فيه الديمقراطيون نيتهم ملاحقة "الوثائق" لعزل ترامب في مجلس النواب الذي يسيطرون عليه بسبب ربط ترامب في حديث تلفوني مع الرئيس الأوكراني فلودمير زيلينسكي، في شهر تموز الماضي، المساعدات الأميركية لأوكرانيا بقدرة زيلينسكي على "كشف أمور قذرة عن نائب الرئيس السابق جو بايدن، وابنه هانتر" كون أن بايدن يخوض معركة الانتخابات الرئاسية ضد ترامب ومن المعتقد أنه (بايدن) الأكثر احتمالاً بالفوز على ترامب. وتبين بعد ذلك أن وزير الخارجية بومبيو -الذي ادعى عدم العلم بالمكالمة– تبين أنه ليس فقط يعلم بالمكالمة ومضمونها، بل إنه استمع بطلبٍ من ترامب للمكالمة بكاملها.
وهذا بيت القصيد. وزارة الخارجية نأت بنفسها عن عقد مؤتمرات صحفية (إلا المختصة بشأنٍ ما كالإرهاب أو إيران من قبل المبعوثين) طالما أنّ التحقيق جارٍ، والصراع على مسألة عزل ترامب آخذٌ في مداه، أي ربما لن نرى المؤتمر الصحفي التقليدي في قاعة الصحافة بالخارجية الأميركية قبل معرفة مصير التحقيقات بشأن العزل، أو حتى نتائج الانتخابات المقبلة، يوم 4 تشرين الثاني 2020، أو حتى استلام الرئيس الجديد -أياً كان– يوم 20 كانون الثاني 2021.
khl