"سيدات القمر" لجوخة الحارثي المحلية جوهر العالمية وشرطها
نشر بتاريخ: 2019-06-07 الساعة: 09:39رام الله- الايام- كلُّ قطعة ثلج ستذوب يوماً في مياهها، كما أنّ كلّ نخلةٍ ستمدّ جريدتَها لتتوالد تحتها الفصائل، وسنرى بعد حين الأعذاقَ العسليّة، وهي تتدلّى شموساً صغيرة، لتؤكد النخلةُ قدرتها على الانتصار، في مملكة البرد والعتمات، على الجدب واليباب وهتافات الشيطان.
وها هي جوخة الحارثي؛ روائية حضرت من تلك البراري الرعويّة والصحراوية مع كوكبة من النساء "سيدات القمر"، لتقول لنا، ليس حكاية كلّ واحدة منهن فحسب، بل حكاية عُمان، من خلال قصصهن، وتتبّع خيوط كل حكاية متشابكة مع حكاية سيدة ثانية فثالثة.. وهكذا! حتى يكتمل غَزْل النسيج، الذي سيكون رواية، تستحق أن نقول إن التي اجترحتها قد أنقذت الصحراء من شيخوختها، وإن الطفولة، عامّة، هي بداية أغنية عظيمة لا تنطفئ موسيقاها في الروح، وإن كاتبة هذه الرواية هي صاحبة قلم سلس، متمكّنة، لم تفتعل، ولم تبالغ، ولم تصنع عوالم من العدم، بل دخلت إلى أحشاء مقطع تاريخي طويل، في فضاء جغرافي، ينبض بخفوت.. وراحت تسلّط الكاميرا بهدوء وروية لتستنطقَ ما يمور في تلك البقعة؛ من شخوص وحوارات وموجودات، إلى درجة أستطيع أن أقول معها إن روايتها "سيدات القمر" هي رواية عُمان خلال العقود الأخيرة.
ولعل ما يجعلها رواية عُمان "الثقافية" بامتياز، هي تلك الحمولة الباذخة والتفاصيل الزاخرة، التي تعرّفنا إليها، في سياقاتها، ضمن المتغيّرات التي هجست في بطن المجتمع، لتصل إلى ما وصلت إليه.
وكانت حمولة معرفية عبرت أقاصي الحكايات والعادات والتقاليد والحراك الاجتماعي، دون مبالغةٍ أو إغفالٍ أو قَطْعٍ أو افتعالٍ أو فجاجة .. بل استطاعت الروائية الحارثي أن تأخذنا معها مُستسلمين لمشيئةِ الجَمال ورهافة الحكاية، إلى حدّ أن الروائح والطعوم والأحداث والأصوات ودرجات الحرارة .. قد انسربت إلى أرواحنا، مثلما تحققت أمامنا المشاهد، وهي تكتمل بأناقة وفتنة لا تخلو من دهشة، لجدّة ما عرفناه، وكنّا نجهله، عن واحد من مجتمعاتنا العربية، التي، للأسف، لا نعرف شيئاً من مكوّناتها الروحيّة والاجتماعية والفكرية والتاريخية والسياسية .. ما صرنا فيه غرباء عن ثقافتنا الجمعية وعمقنا العروبي، عدا تراثنا وتاريخنا الذي بات مُنتَهَكاً لصياغات تغريبيّة أو استشراقية أو انتقائية، أو وقع في التصوّرات النمطية والملوّثة.
فَمَنْ من مثقفينا "العرب" كان يعرف ما علّمتنا إياه هذه الرواية من دروس، كشفت صفحات التاريخ العُماني بجرأة العارف، ودون أن تقع في تنقية التاريخ أو تجميله أو تبديده (تجارة العبيد والرّق، العادات، العلاقات، الأساطير والخرافات، والتحولات ...).
إن سجادة الضوء الساطعة التي أنارت لنا تلك البلاد العزيزة وهي تنمو تتبدل .. هي الأرض الراسخة الواجب إدراكها ووعيها وهضمها، قبل أن نخطو نحو سبر غور مفردات المستقبل، الذي بات رجراجاً مُربكاً، مثلما يحاول أن يقفز أو يحرق المراحل في الوقت نفسه.
وإن أسئلة الرواية المضمرة والصادقة قد تخلّت، سلفاً، عن الإجابات الكاذبة، وهنا مكمن عبقرية النص.
ولعل امتلاك الروائية لأدوات الكتابة هو ما ضمن لنا تحقّق هذا العمل المختلف، الناعم والقاسي، والمضمّخ بكل ما هبّ في تلك الديار، من نأمات ومشاعر ورياح وأرواح.
وأن لغتها المتقنة المُعافاة، وجُملتها الواضحة المباشرة، وقدرتها على الإحاطة بالمشاهد، وتمكنّها من تفكيك الخيوط المتشابكة الجوّانية في بطن الحياة العُمانية .. هو ما جعلها رواية ماتعة تتصاعد بحصافة ورقيّ أمام عينيك.
كما أن التوشيحات الشعرية والقصص الفنتازية والنصوص الصوفية، على قلّتها في الرواية، قد أثرت صفحاتها، وعمّقت الإحساس الجَمالي بها، وأخرجتها عن المتوَقّع، مثلما طبعتها بشخصية خالصة وخاصّة بها.
وأعتقد، مثل كثيرين، أن كل عمل إبداعي يحتوي على "سيرة" ما، أي تصلح أن تكون هذه الرواية سيرة الراوية، رغم أن عدداً كبيراً من الشخصيات النسائية احتلّ صدارة الرواية، وتصلح كلٌ منهنّ أن تكون البطلة.
غير أن شخصية "لندن"، وهي واحدة من البطلات، قد عمّقت لديّ الشعور بأن الخاتمة "الحداثية" للرواية قد خفّفت من دسامتها، وجعلتها تقفز إلى لحظة تاريخية أحسب أنها "شخصية"، بمعنى أن ثمة تصفية حساب مع خطيب "لندن"، وهو الشاعر اللعوب، ما جعل نهاية الرواية تأتي على غير ما افترضته البدايات من زخم وعمق.
وربما أرادات الكاتبة أن تقيم مقارنة ما بين الشاعر الحديث "اللعوب" ، وشاعر عُمان القديم "المذهل" البهلاني، لتقول: إن ثمة خفّة ما في المعاصرة! بلغة أخرى، تريد أن تقول إن أولئك الشعراء كانوا أكثر امتلاء وانتماءً وإبداعاً وجديّة .. تماماً كما كان الصوفيّ يوسف بن عبد الرحمن، الذي وددتُ لو أكثرت الكاتبة من تطعيم روايتها بعروقه العِرفانية المعجزة الخالصة.
وإن أكثر ما لفتني وأحببته في هذه الرواية الذهبية، أن صاحبتها استجمعت كل ثقافتها ولآلئ معرفتها والوعي لديها، وقامت بتذويبها، وصبّتها بشفافية وإدراك، في قالب استطاع أن يتجاوز المحليّة، التي هي جوهر العالمية وشرطها الأساس.
أما السِحر في هذه الرواية، فيتمثل في القماشة التي تماهت فوقها، ورنَّقَتها، الغرائبُ وما لا يُستوعب والمفاجئُ والصادمُ، حتى أن القارئ يلحظ قدرة الكاتبة على عجن ما هو قائم، ودفعه ليتضافر مع قائم آخر، دون أن يفقد أي مكوّن.. شيئاً من شخصيته وبلاغته ودلالته.
إن هذا النسيج أشبه بحزمة نور بزغت، وراحت تدلّنا على أرضٍ بِكْر، فوّاحة وساحرة، اسمها عُمان.
amm