الرئيسة/  ثقافة

"دعوة عشاء" وقصص أخرى لصالح أبو أصبع .. فلسطين الشامخة تطل لا على خجل

نشر بتاريخ: 2019-05-15 الساعة: 01:53

رام الله- اعلام فتح- في مجموعته القصصية "دعوة عشاء" وقصص أخرى، الصادرة عن دار الصدى للصحافة والنشر في دبي، يراوح الكاتب والقاص الفلسطيني صالح خليل أبو أصبع، ما بين الخاص والعام، بضمير الأنا تارة، والغائب تارات، وما بين واقع وحلم، وماض وواقع معاش، وما بين آمال والآم شكلت على امتداد قرابة المائة والخمسين صفحة من القطع الصغير، مساحة لمشاكسة لغوية ذات طابع قصصي لم يكن خالصاً، بل ظهر مطعّماً بتقنيات ذات بعد بصري، وأخرى تلامس الصحافة على شكل سرديات توثيقية، وبلغة غير متكلفة، وينطبق عليها قول "لكل مقام مقال"، فجاءت متسقة وطبيعة كل قصة من قصص المجموعة.

وكان لافتاً ذلك الحضور الفلسطيني الذي لا يطل برأسه على خجل في المجموعة، بل يحضر بصوت مرتفع ملؤه الفخار، ومنذ القصة الأولى "يا له من نهار"، والمهداة إلى الشهيد عاطف بسيسو، واستشهد في الثامن من حزيران للعام 1992.

أبو أصبع، وفي هذه القصة، يرصد جوانب من يوميات السارد، الذي يبدو أنه هو ذاته، والشهيد بسيسو، لاسيما عن رحلته الأخيرة، وأطفاله، والعيد، في رسم درامي بالكلمات، يوجع القلب، ويؤنسن من يحاول الاحتلال وأعوانه شيطنتهم.

ومما جاء فيها تحت عنوان "سفر بلا وداع" .. "حينما أخبرني عاطف عن سفره قلت له: أنت تدرك وتعرف مخاطر السفر، أرجوك أن تتخلص من هذه الفكرة .. داعبني عاطف قائلاً: أنت بحساباتك تخضع لدائرة اسمها الخوف، ثم أردف: العمر واحد والرب واحد .. وأنت تعرفني سأعيش مثل عمر نوح، أما أنت فلتمتلك صبر أيوب (...) بعد أن سافر عاطف، وجدتُ على مكتبي رسالة منه يقول فيها إنه كان يتمنى، على غير عادته في السفر، أن يودّعني ويقبّل وجنتي، لكن حظه لم يوفقه في ذلك. وألح في أنه كان يرغب حقيقة في وداعي، مع أنه لا يحب توديع أحد .. وطلب مني أن أحتفظ برسالته هذه إلى أن يعود.

وتحت عنوان فرعي آخر في ذات القصة بعنوان "اطفال العيد"، كتب أبو أصبع "قال عاطف في رسالته: إنه سيعود، لأنه وعد طفليه أن يعود إليهما بملابس العيد وبالهدايا التي يرغبان بها، وكتب: تأكد أنني سأكون قبل العيد عندكم".

وعقب الحديث عن الهاتف الصادم من "ياسر" ويخبره فيه عن استشهاد عاطف، سطّر أبو أصبع في مقطع من القصة نفسها بعنوان "عمو يبكي مثل الأطفال" مشهداً مدهشاً يعكس عمق تأثره الباقي فيه .. "كان مطلوباً مني أن أختار صورة للشهيد .. يا له من قدر! كان دوماً يسخر من الموت، ويقول: ... أنا سأعيش ألف سنة، وسأختار لكم أجمل الصور لنعيكم .. حينما ذهبت إلى منزله، كنت متماسكاً، فأنا لا أذرف دمعة من أجل الموت .. وها أنا أفقد شخصاً عزيزاً عليّ، رفقة عمر وزميل عمل ونضال .. وها هو القدر يشاء أن يكون مطلوباً مني أن أنعاه .. ولمّا أحضروا لي ألبوم صوره جاءني طفلاه، وأمسك أصغرهما بصورة لوالده، وقال: بابا سيأتي من السفر، وسيحضر لي طيارة، وقال الكبير: بابا سيأتي وسيحضر له بدلة العيد .. وقلت في نفسي: هل معقول أن عاطف لن يحضر؟ .. هل معقول أنه لن يأتي ليحتضن طفليه ويداعبهما ويقبلهما؟ .. هل معقول أن الطفلين سيعيشان هكذا، بدون حضن عاطف، وضحكته، وحنانه، ومداعباته .. وانفجرت في البكاء في نشيج متصل، ودسستُ صورة عاطف في جيبي .. وكان الطفلان يتساءلان: لماذا "عمو" يبكي مثل الأطفال؟".

أما في قصة "ما هذا الجحيم كله؟"، فيتلبس الكاتب أجساد ونفسيات ثلاث طفلات من غزة، وهي القصة التي أهداها إلى "الشهداء من أطفال غزة فداء أمة في حالة سبات عميق"، ناقلاً حكاياتهن إلى العالم العربي، والتي هي حكايات وطن.

ومما ورد على لسان "الطفلة الثانية" .. "طلبت منّا مديرة المدرسة أن نعود فوراً إلى بيوتنا، وقالت أن نسير متفرقات عن بعضنا بعضاً، لأن الإسرائيليين يستهدفون الأطفال قبل الكبار. وسيفرحون أن يجدوا صيداً ثميناً من الأطفال مجتمعين. كانت سيارات الإسعاف تنطلق مسرعة وهذا يعني ان الضحايا كثيرون. لم أكد أقترب من منزلنا إذ رأيت منازل مهدمة. أكوام من جدران الإسمنت سقطت على رؤوس ساكنيها ... يا الله ماذا فعل هؤلاء الناس ليعيشوا هذا الجحيم كله؟!".

أما الطفلة الثالثة فيسرد الكاتب على لسانها المفترض "ذهبت صديقتاي كل منهما في اتجاه إلى منزليهما، كانت بيوتنا متباعدة في اتجاهات مختلفة من حي الشجاعية ... كان الرعب يدبّ في مفاصلي، وأنا أسمع دوي الانفجارات في كل مكان. هذه سحب الدخان تغطي حي الشجاعية، وأناس كثيرون يهرولون دون هدف. إلى أين سيهربون من هذا الجحيم؟ .. وأين يمكن أن يلتجئوا من حمم النار؟ .. هذه القذائف تحاصرنا من البحر، وطائرات إسرائيل تدوي فوق الرؤوس، ودبّاباتهم تقف على مشارف الشجاعية وهي تطلق حممها، لا تمييز بين صغير وكبير، بين مدني ومقاتل، ونحن ندعو الله أن يسلم أهلنا من حمم الجحيم التي تنهال علينا من البر والبحر والسماء. ما هذا الجحيم كله؟!".

في المجموعة التي تتناول قرابة العشرين قصة، ثمة حضور لفلسطين، ولقضايا عربية، فيما لم تخل من حكايات اجتماعية بعضها تسللت إليه الفكاهة الهادفة، وأخرى ذات طابع رومانسي غلب عليها طابع المحافظة، في حين كانت قصة "دعوة عشاء" مغايرة على صعيد الشكل والمضمون، حيث يخوض أبطالها الذين غابت عنهم الأسماء كما في حال غالبية قصص المجموعة، تجربة "العميان"، في مطعم يغلفه ظلام دامس، ليختم أبو أصبع مجموعته بعبارة شائقة وتختزل الكثير "لا حاجة للكلام .. لا حاجة للكلام .. لا حاجة للكلام".

والدكتور صالح أبو أصبع هو رئيس جامعة الاستقلال في أريحا، ويحمل درجة الدكتوراه في الإعلام، ومثلها في النقد الأدبي والأدب المقارن، وله إصدارات عدة منذ سبعينيات القرن الماضي، تراوحت ما بين الدراسات النقدية والأكاديمية والبحثية، وما بين المجموعات القصصية، والكتب المتخصصة في مجال الإعلام، وغيرها.

amm
Developed by: MONGID | Software House الحقوق محفوظة مفوضية الإعلام والثقافة © 2024