الرئيسة/  ثقافة

"سيدات القمر" لجوخة الحارثي .. رواية حالمة محبوكة بصنعة دون تكلف!

نشر بتاريخ: 2019-05-12 الساعة: 01:40

رام الله- الايام- كانت الروائية العُمانية جوخة الحارثي، وهي تنقلنا في رحلتها مع "سيدات القمر"، وكأنها تطلق معزوفة موسيقية لا يمكن معها وأمامها إلا أن تهزّ رأسك "سلطنة"، وتقول بصوت مرتفع "الله"، أو كمن يحيك سجادة تقليدية بتأنٍ وصبر لتخرج تحفة فنية في كامل تفاصيلها، هي التي تلاعبت بشخوصها، وجلهم من النساء، بحرفية واعية.

نعم، تمكنت الحارثي، في الرواية التي هي الأولى من الخليج العربي، التي تنافس على جائزة "المان بوكر" العالمية، بوصولها إلى القائمة القصيرة للجائزة بنسختها لهذا العام، أن تنقلنا ما بين عوالم هذه الشخصيات وحيواتهم، وما بين إسقاطاتها العلنية والماورائية لجهة تسليط الضوء على التحولات السياسية، والاقتصادية، والاجتماعية، والثقافية، والحضارية، وغيرها في سلطنة عُمان.

في قرية "العوافي"، التي تبعد مسافة بعيدة عن "مسكد" أو مسقط، والتي يبدو أنها متخيلة، تعيش عائلة مع ثلاث بنات بالغات، ولكل منهما شخصية مختلفة تماماً عن الأخرى .. تتطور الحكاية بدافع المصائر الزوجية للشقيقات: ميا الخيّاطة، وأسماء المثقفة، وخولة المولعة بجمالها.

تعتبر الأخوات الثلاث وأمهنّ نقاطاً ثابتة تدور حولها الحكاية، ما يتيح للروائية أن تخبرنا عما هو أكثر طموحاً، عن أجيال تمتد وتتحرك من المناطق النائية الصحراوية إلى الساحل والعاصمة، فمن خلال القيام بذلك، تستكشف الحارثي قصة أوسع وتكشف لقرائها حكاية عن بلد بأكمله في القرن الماضي وعبر ثلاثة أجيال .. ومع ذلك، فهي أيضاً كانت قادرة على متابعة مصائر شخصياتها المنفردة بامتياز.

بنية الرواية هي من أبرز ميزاتها، حيث تتكون "سيدات القمر" من عدة فصول مقسمة إلى جزأين، أولهما حول سلسلة من أشخاص عاشوا في الماضي، وتتحرك حيواتهم ببطء إلى الأمام، حيث يركز كل قسم على شخصيات مختلفة، فيما نقضي في الثاني، بعض الوقت مع الأخوات الثلاث، ووالديهم، وظريفة (امرأة من العبيد تشارك بشكل وثيق في حياتهم)، والعديد من الأشخاص الآخرين من القرية، وهذا يمكننا من بناء نظرة عامة على القصة من وجهات نظر متعددة.

ظريفة ومن قبلها أمها خدمن عند التاجر سليمان، أما ابنها سنجر وبعد توقيع اتفاقية إبطال الرق وتجريم تجارته العام ١٩٢٦، كان دائما ما يردد عبارة "أنا حر حر حر"، ثم ترك سلطنة عمان وهاجر إلى الكويت كما فعل والده من قبله، فترك "العرافي"، ولَم يعرف أحد أين ذهب .. وكان ممنوعا على العبيد تسمية أبنائهم بأسماء أسيادهم، لدرجة أن والدة ظريفة سماها أبوها "عنكبوتة" بسبب كثرة الأسماء التي كانت ممنوعة عليه.

وعبر حكايات متشابكة ومتفرقة في آن، نجحت جوخة الحارثي، من خلال شخوصها وما مرت بهم من تفاصيل حياتية حالية وقديمة، التطرق إلى كثير من التحولات في بلدها، راصدة تبدل الأجيال، منذ أم سالمة مروراً بسالمة ثم بناتها الثلاث ثم حفيدتها "لندن" ابنة ميا، في محاكاة للجغرافيا التي استقر بها معشوقها الذي لم تظفر به، رغم صلواتها التي انقطعت بعد أن أجبرت على الزواج من عبد الله.

"ميا تركت الصلاة سرّاً، قالت بصوت خافت: يا ربي حلفت بك، حلفت لك إني لا أريد شيئاً .. أريد فقط أن أراه .. حلفت لك إني لن أفعل خطأ ولن أبوح بما في قلبي. حلفت لك بكل شيء، فلماذا أرسلت ولد سليمان هذا لبيتنا؟ .. تعاقبني على حبّي؟ .. لكني لم أبح له، لم أبح حتى لأخواتي .. لماذا أرسلت ولد سليمان لبيتنا؟ .. لماذا؟".

تمتد هذه النظرة المجتمعية إلى العصر الحديث، حيث أصبح السلوك الذي لم يكن من الممكن تصوره الآن هو المعيار.. في عصر الهاتف الذكي، لم يعد تعليم النساء من المحرمات، وأصبحت العلاقات القوية التي تفتخر بها العائلات أكثر مرونة.

على الرغم من كل التطورات الحديثة، لا تزال صاحبة "سيدات القمر" منحازة إلى وصف الثقافة التقليدية، وهي كثيرة الحضور في الرواية، كما الأمثال الشعبية، ومنها ذلك الطقس الذي يتعلق بلف الحصاة الدافئة بفوطة على بطن الوالدة حديثاً لأربعين يوماً، لمنع الترهل!

إنها حكاية النساء في سلطنة عُمان، وتغيرات المجتمع من حولهن، وانعكاسات هذه التغيرات عليهن، سواء نساء البلد الأصيلات أو الأصليات أو الجواري اللواتي اختطفن من قبل العصابات في أفريقيا، وتم بيعهن في أسواق النخاسة .. إنها حكاية القهر الذي عاشته وعايشته هذه النسوة، فمنهن من تماشين وتأقلمن، ومنهن من بقين رافضات، وتمردن رغم قلة الحيلة.

إنها رواية حالمة، صيغت بعيون متبصرة، ولغة رائقة وسلسة وعميقة في آن، تتناسب والحقبة التي تناولتها، دون أن تغرق في المحلية إلا من بعض الأمثال والألفاظ التي فسرتها في الحواشي، ما جعلها رواية عربية وعالمية رغم محليتها الصرفة.

هي ليست مجرد رواية مكتوبة بقدر ما هي أيضاً لوحة فسيفسائية تم تركيبها على هذا النحو دون تكلف، والأروع هو ما فعلته الحارثي باقتدار فيما يتعلق بسد الثغرات تدريجياً بين الأفكار الرئيسة التي طرحتها في الفصول الأولى، وكذلك تظليل المساحات الفارغة، فهي رواية ممتعة، ورغم تشابكاتها واشتباكاتها إلا أنها تقدم صورة بانورامية مبهرة عن السلطنة، بعيداً عن الخطابية والحشو، وما يثير الإعجاب أيضاً، هو أنه، ورغم تجميع القصة أو القصص تحت سقف واحد، إلا أنها تتقصد على ما يبدو أن تترك بعض الفجوات في الصورة الكاملة، كاشفة عن بعض الأسرار، وتاركة أخرى دون كشف.

وكانت الحارثي قالت في تصريحات صحافية: لا أعرف إن كنت كتبت تاريخاً أدبياً فعلاً. أردت فقط التعبير عما أود رسمه من عوالم .. أحب روايات الأجيال لأنها تتيح لي التفكير في التحولات الهائلة للبشر وهم يواجهون السؤال الأزلي عن ماهية الزمن.

وأضافت: واتتني الحظوظ في النشأة وسط حشد من النساء الأسطوريات، كل امرأة منهن كنز من الحكايا، وكل حكاية فتنة.

لا واحدة تشبه الأخرى، كما تأتلف الجواهر في اختلافها، ويتكامل النسيج في تعدد ألوانه. 
لقد شكلت هؤلاء النسوة وعيي، من العجوز التي لم تمسك كتاباً بيديها قط، إلى الشابة التي هاجرت للدراسة في أرقى الجامعات، من الخادمة التي قضت حياتها تعتني بالآخرين دون أن يعتني بها أحد، إلى الأميرة التي لم تخرج من قصرها حتى بلغت الخمسين واكتشفت أن هناك حياة خارج أسواره.

من الطفلة التي صنعت الدمى وخبأتها عن زوجها الكهل، إلى الصبية التي أحرقتها الغيرة فرمت بنفسها في البحر، من المتمردة التي سافرت العالم لتصنع فرادتها، إلى الصامتة التي لم يُسمع صوتها قط، لقد رأيت المرأة وهي تصنع كل شيء: الحياة، والحب، والكره، والثياب، والمنسوجات، والطعام، والأشعار، والفرح، والغناء. عرفتها صابرة وجازعة، محبوبة ومهجورة، راغبة ومرغوبة، قوية وخانعة، تخلق المعجزات ولا تؤمن بها .. إذن لا تسيطر النساء على رواياتي انحيازاً، أو تتبعاً لأجندة نسوية، وإنما لأنني ببساطة، أكتب عمّا أعرفه. 

amm
Developed by: MONGID | Software House الحقوق محفوظة مفوضية الإعلام والثقافة © 2024