"موصول" غالية بنعلي .. الصوفية تتلبّس أنماطاً موسيقية متعددة
نشر بتاريخ: 2019-04-23 الساعة: 01:41رام الله- الايام- "انقطع الوصل والحب موصول .. تستطيل المسافات وتنقطع السبل .. والشوق باقٍ والمحبة بالقلوب تجول" .. عود وموسيقى جاز، إيقاعات شرقية وغربية، طاقة كبيرة، ونفس غير متقطع، ولكنه متنوع كما هي الأنماط الموسيقية .. هذا لربما ملخص مشروع "موصول" الذي قدمته المطربة التونسية غالية بنعلي، على مسرح قصر رام الله الثقافي، مؤخراً، ضمن فعاليات مهرجان الكمنجاتي للموسيقى الروحية، والفعالية الأساسية في المدينة، احتفاء بالقدس عاصمة للثقافة الإسلامية للعام 2019.
و"موصول"، هو عنوان الألبوم السابع للفنانة التونسية ذات الشهرة الواسعة على مستوى الغناء، والحضور الطاغي على المسرح، دون استثناء تجربتها السينمائية المهمة، وقدمته في إطار جولتها في فلسطين، وشملت أريحا والقدس ورام الله، وسط تفاعل كبير من الجمهور الفلسطيني مع أغنيات الألبوم الذي وصفته صاحبته بأنه "قد يكون من أكثر الألبومات روحانية وصوفية، على مستوى الأشعار، ونوعية الطاقة التي تم تقديم الأغنيات فيها، والمزاوجة ما بين آلات النفخ وما بين الإيقاعات، والحضور المهم للعود الذي استخدم كإيقاع أكثر منه كآلة أساسية في الموسيقى العربية".
وما بين قصر هشام في أريحا، ومسرح دار الطفل العربي في القدس العاصمة، وقصر رام الله الثقافي، قدمت بنعلي رفقة فريق الجاز الأوروبي "ماك سبيريت"، الذي رافقها أعضاؤه هذه العروض الحيّة، عملاً مدهشاً لجهة الغناء، وهو ليس غريباً عنها، ولجهة التجديد في تقديم الأغنية الصوفية برؤية موسيقية مغايرة، شكلت جسراً للتواصل ما بين المقامات الشرقية والجاز العربي، ولجهة التنويع في النصوص، فهناك نصوص لشعراء عرب معاصرين كالعراقية لمياء عباس، والسوري هاني نديم، والمصريين عبد الله غنيم ومصطفى إبراهيم، فيما كان لـ"النَفَسْ"، كمساحة مواربة ما بين الصوت والصمت، أو مساحة ما بين الأبيض والأكثر بياضاً، أو الأبيض الناصع والأبيض المغبر، إن جاز التعبير، وهو ما عكسته روح العازفين على آلات النفخ النحاسية الغربية، التي امتزجت أيضاً بكلمات العلامة الصوفي شهاب الدين السهروردي أو "السهروردي المقتول".
وأبو الفتوح يحيى بن حبش بن أميرك السهروردي ويلقب بشهاب الدين، اشتُهر باسم "السهروردي المقتول" تمييزاً له عن صوفيين آخرين حول لقب "السهروردي" نسبة لمسقط رأسهم في "سهرورد" شمال غربي إيران، وهو مؤلف كتاب "عوارف المعارف في التصوف"، وصاحب "الطريقة السهروردية"، وهو فيلسوف إشراقي (نسبة إلى الإشراق في التصوف)، شافعي المذهب، قرأ كتب الدين والحكمة، ونشأ في مراغة، وسافر إلى حلب وبغداد، حيث كان مقتله بأمر من صلاح الدين الأيوبي، بعد أن نسب البعض إليه فساد المعتقد، ولتوهم الآمر بالقتل بأن السهروردي يفتن ابنه بالكفر والخروج عن الدين .. وكان مقتله في قلعة حلب العام 586 للهجرة، مع أنه كان من كبار المتصوفة في زمانه ومن أفقه علماء عصره بأمور الدين والفلسفة والمنطق والحكمة، ويسمى مذهبه الذي عرف به "حكمة الإشراق" وله كتاب بهذا الاسم، ومن كتبه أيضا "رسائل في اعتقادات الحكماء وهياكل النور"، في حين وصفه ابن تيمية بـ"المقتول على الزندقة".
وكشفت غالية بنعلي أن ثمة أشعاراً مما غنتها في "موصول" كانت عبارة عن منشورات في موقع التواصل الاجتماعي "فيسبوك"، لكنها "ابنة الواقع، ابنة الشارع"، فكان الوصل ما بين أزمنة مختلفة أيضاً، وما بين ثقافات موسيقية متباينة، وطرق نظم مختلفة لربما تنضوي جميعها في إطار الشعر الصوفي، أو حين يعزف ويغني يحمل لقب "الغناء الصوفي".
الفكرة جاءت من كون أن الشباب الذين أتواصل معهم من تونس، وفلسطين، ومصر، والأردن، ومن كل العالم، كانوا يحدثونني في هذا الجانب، وكان هذا "النفس" الصوفي في
"موصول"، قالت غالية بنعلي، متأثرة بما كتبوه، وبما طرحوه من أفكار، وحاملة معها إرثها الديني والتاريخي والثقافي، عبر قراءات القرآن بصوت عبد الباسط عبد الصمت، وإبداعات أم كلثوم منذ الطفولة، خاصة أنها من مدرسة "المشايخ"، علاوة على الموسيقى التقليدية الهندية، وحملت معها أذنيها اللتين اعتادتا صوت أديب الدايخ، وصباح فخري، والقدود الحلبية، علاوة على اكتشافاتها المتواصلة عالمياً لثقافات جديدة عبر بوابة الموسيقى.
ثمة ما هو جديد ومؤثر في آن فيما قدمته غالية بنعلي بـ"موصولها"، ولربما هذا يتواءم مع الذائقة السمعية الجديدة بعد مرور قرابة العشرين عاماً في الألفية الثالثة، واختلاف آذان "السمّيعة"، ولهذا فإن شعبيتها شاسعة بين جمهور الشباب، كما الكبار، فهي تنهل من المنابع فحسب، بل تقدمها بطريقتها التي أثارت ولا تزال تثير الإعجاب الذي يصل حد الانبهار.
وحازت غالية بنعلي على إشادة عالمية، حيث اختير كواحد من أفضل عشرة ألبومات في العالم صدرت في العام 2018، من قبل مجلة "سونجلاينز" الإنكليزية، وهي من أبرز المجلات العالمية، وتكاد تكون الأبرز على مستوى بريطانيا، كما اختارته الخطوط الجوية البريطانية ليتاح أمام ركابها خلال رحلاتها المختلفة من لندن إلى عواصم العالم المختلفة، علاوة على كونه متواجداً منذ أسابيع ما بعد إطلاقه في القوائم العالمية لأفضل ألبومات في العالم، وبشكل شهري، وتم الاحتفاء به في عديد المهرجانات العالمية، والعربية، وأخيراً في فلسطين، فكانت الوصل في صوت بنعلي والموسيقى المرافقة والأصوات الشعرية العابرة للزمان، تعبيراً رمزياً عن القدس بما تحمله من عمق تاريخي، وحضاري، وثقافي، يستعصي على السلب والنهب والتغييب ومحاولات الطمس، فـ"موصول" هو ليس فقط مشروعاً موسيقياً روحانياً، بل هو تعبير عن حالتنا الذهنية والماوراء ذهنية، والشعورية، والماوراء شعورية، تجاه القدس، وكل من وما فيها.
حازت الغالية مع ألبومها على الإشادة كما اختارته الخطوط الجوية "الترفيهي" في رحلات طائرات الخطوط الجوية البريطانية، بالإضافة لتواجده في القوائم العالمية لأفضل ألبومات في العالم بشكل شهري منذ ظهوره للنور، كما احتفلت به مع جمهورها المغربي لأول مرة في مهرجان فيزا فور ميوزيك بالعاصمة المغربية الرباط منذ سنتين.
amm