الرئيسة/  ثقافة

"مشاة لا يعبرون الطريق" لعاطف أبو سيف .. رحلة فلسطينيين ما بين عالمي الحاضرين والغائبين!

نشر بتاريخ: 2019-03-26 الساعة: 09:19

رام الله- الايام- تبدو المقادير مغايرة هذه المرة .. شيء من البوليسية بقالب كوميدي قد يكون أسودَ كحال الأوضاع في قطاع غزة، أو رمادياً كالدخان المنبعث من المنازل بعد كل عملية قصف، أو من الحرائق المرافقة لـ"مسيرات العودة"، مع شيء من الفنتازيا، وكثير من الإسقاطات والاستعادات التاريخية للجغرافيات والأحداث والشخوص، الذي غابت أسماء المحوريّين منهم، وحضرت أوصاف من يدورون في فلكهم، فيما حافظ "المخيم" على اسمه دون ملحقات، كما جرت العادة عند الروائي الفلسطيني عاطف أبو سيف، لتكون النتيجة بعد أن يضرب الكلمات في خلاطه، ويجعلها تنضج على نار هادئة، قبل أن يضمن استواءها في فرن السرد السلس، رواية تحمل اسم "مشاة لا يعبرون الطريق"، هي جديده الصادر عن دار الأهلية للنشر والتوزيع في عمّان.

حادث غامض يبدو كدهس شاحنة لثمانيني، لا يعرفه أحد، وليس له أقارب على ما يبدو، كما لم يحسم أي من الشهود حقيقة ما حدث معه بالفعل، لا "صاحب محل الفاكهة"، ولا "سائق التاكسي"، ولا "الفتاة العائدة من الجامعة" أو "طالبة الجامعة"، ولا "الشاب الذي كان يجلس على شرفته"، ولا حتى "الشرطي" غريب الأطوار، ولا "الصحافي"، ولا غيرهم في "عالم الحاضرين" .. وسط حالة من الشك المتبادل بين كل المتواجدين حول السرير، وحالة من التنافس للحصول على معلومة لتقديمها كسبق صحافي، أو تضمينها في تقرير أمني.

وهنا ينتقل الصحافي، وسط تشابك العلاقات في "عالم الحاضرين"، إلى حيث "عالم الغائبين"، فلا يجد بوصلة أمامه إلا الدراجة الهوائية التي كانت رفقة الثمانيني وقت الحادث، ومحفظته بنيّة اللون، والتي خلت إلا من صورة بالأبيض والأسود لفتاة لا يعرفها أي من أبطال "عالم الحاضرين" في الرواية، وليس هناك ما يشير إليها إلا سنة التصوير في العام 1946.

"عالم الغائبين، هو العالم الذي عليه أن يقوم بصياغته، أن يخلق حكاياته. من المؤكد أن عالم الحاضرين حول السرير مليء بالقصص، فلكل شخص في الغرفة قصّته الخاصة، عالمه الحافل بالتفاصيل، أما البطل الحقيقي للتقرير، الذي عليه أن يبرزه، أي الرجل العجوز، فهو الغائب الأكبر في الحكاية. الحكاية والبطل توأمان عادة، لكن في هذه الحالة فثمة حكاية بطلها غائب. وعليه، وهذا استنتاج آخر للصحافي، فمهمته الكبرى يجب أن تكون خلق عالم خاص بالرجل العجوز: تخيّل حكايته الخاصة، وافتراض وجود هذا العالم وتلك الحكاية، وتأسيسهما وفق منظومة علاقات من الأشياء التي تتوفر في متن الحكاية القصيرة، وتأثيثها بكل ما تم العثور عليه على قارعة طريق الحكاية الصغيرة التي تمثلت في دهس الرجل العجوز، والافتراض القائم على حدوث جريمة وراء ذلك".

وعبر تخيّل الصحافي لعوالم الرجل العجوز ملاحقاً الصورة والدراجة الهوائية والمحفظة البنية، يعود بنا الروائي إلى فترة النكبة، وقت حدوثها وما قبيلها وما بعيدها، وكيف كان يعيش هذا المسن رفقة عائلته، وحبيبته المفترضة صاحبة الصورة، أو "سلوى"، كما فضل تسميتها، بل وباتت مخطوبته، إلا أن النكبة فرقتهما، فتفرقوا بعيداً عن بلدتهم الأصلية، سواء داخل الوطن كما هو في غزة، أو خارجها كحال أخوته وباقي عائلته.

وفي إطار الحكاية المتخيلة للرجل العجوز، وتتواصل منذ ما قبل النكبة إلى وقت الحادث المفترض، يرفض هذا المسن الزواج، ويقرر مواصلة البحث عن حبيبه أو خطيبته سلوى في غزة، فيعمل ساعياً للبريد، مع أنه كان بإمكانه أن يعمل في وظيفة أفضل بعد أن أنهى "المترك" (شهادة كان يحصل عليها الطالب الفلسطيني بعد تجاوزه للصف التاسع)، وأكمل دراسته في القدس .. وفي خلال عملية البحث هذه، وفي خضم المبنى المتخيل للحكاية، يتلقى هذا المسن مجهول الهوية، في أحد مقاهي "المخيم" بالشاعر معين بسيسو ورفيقيه محمد حسيب القاضي وسعيد فلفل وآخرين، فكانت جلسة مشتركة بينهم، حيث "الغضب والشعر والحلم" كانت "تتقافز من الأفواه، فتحمل معها المزيد من الحنين، والمزيد من لهب الشوق، كما الحسرة"، حتى أن معين سأل المسن عن سلوى وما إذا وصلته رسائلها أو أي أخبار عنها أو منها.

وفي الرحلة المتخيلة للصحافي حول المسن الذي يرقد في السرير، ويحيط به أبطال "عالم الحاضرين"، تظهر الدراجة الهوائية كرفيقة درب له منذ أن كان ساعياً للبريد ويلتقي بأبطال "عالم الغائبين"، وهم كثر، وفي جغرافيات وأزمنة متعددة، فيما كان للمحفظة بنيّة اللون حكاية لها علاقة بذلك اللقاء الافتراضي ما بين المسن الذي لم يكن مسناً تماماً، ووالده، بعد أن فرقتهما النكبة، فكانت تلك المحفظة هديّة الأب إلى ابنه.

وما بين "عالم الغائبين" و"عالم الحاضرين" تنقلت الرواية بنا مع صفحاتها إلى ماض تمحور حول النكبة وتداعياتها، وحاضر في غزة حيث تجار الأنفاق، والمتلونين من أصحاب اللحى الجديدة، وما طرأ على الغزيين الجدد والقادمين إليها منذ عقود، من تحولات، حتى على مستوى الأحلام، فحلم العودة، وإن لم يسقط، نراه يستبدل بحلم السفر والهجرة من واقع بائس، أو بالحصول على تحويلة طبية إلى الضفة الغربية، أو اللحاق بعريس في تونس، فيما لم يغب الانقسام وتداعياته في الرواية أو عنها، هي التي تحدثت عن صراعات الفريقين الأبرز على الساحة الفلسطينية، وإن لم يسمهما صراحة، وبذلك يكون عاطف أبو سيف، وإن خرج على المألوف في جهة التقنية وأسلوب السرد والتناول، إلا أنه واصل سرد حكايات الماضي في بلاد ما قبل النكبة، والحاضر الصعب في غزة المنكوبة على أكثر من صعيد، كما في روايتيه السابقتين "حياة معلقة"، و"الحاجة كريستينا".

ويبدو أن الروائي هنا تعمد استخدام لغة سلسة في السرد تتماهى وطبيعة شخوص روايته "مشاة لا يعبرون الطريق"، كـ"سائق التاكسي"، و"صاحب محل الفاكهة"، وغيرهما، وهي لغة تكاد تقترب من الدارجة المحكية، وإن حافظت على رصانة فصحاها، وهي تتناول حكايات لفلسطينيين في عالمي "الغائبين" و"الحاضرين"، باتوا ليس فقط خارج جغرافياتهم الأصلية، بل خارج الزمن والحكاية ربما، ولذا فهم "مشاة لا يعبرون الطريق"، ما بين "نهاية محتملة" ومقدمة حول "الموت" الذي يبدو الصديق اللصيق بالكثير ممن كانوا أصحاب الأرض والحكاية.

"للموت طرق عدة كلها مفجعة. ليس من جدوى أن نفاضل بين واحدة وأخرى. تثير ضربات حوافره على الإسفلت دويّاً صارخاً يقلق مضاجعنا، وفي مرّات كثيرة يمر مرور البرق لا نكاد نتيقن من وقوعه إلا بعد أن يرحل من نحب، أو يدركوا أننا رحلنا.. غلالة الأرواح التي ذهبت قبلنا تحوم مثل ترانيم باهتة خلف النافذة. الجالسون حول السرير يقول بعضهم لبعض إنها سكرات الموت. الخروج من عالم والدخول في آخر، العبور غير المتيقن في الممرات الفاصلة بين عالمين مثل المشي على جسر رفيع من الحبال يربط جبلين شاهقين. من قاع الوادي تخرج الذكريات، تصعد الأرواح، تتدافع أسماء أولئك الذين سقطوا في دروب الحياة الموغلة في القدم. يطفو الحزن وتسمو لحظات الفرح، تمتزج المشاعر الرجراجة، وتسير الروح على الجسر الرفيع، تسقط تارة، ثم ترتفع وتواصل المسير (...)".

 

amm
Developed by: MONGID | Software House الحقوق محفوظة مفوضية الإعلام والثقافة © 2024