الرئيسة/  مقالات وتحليلات

سقوط منطق النفي

نشر بتاريخ: 2019-01-08 الساعة: 08:08

عمر حلمي الغول مقولة نفي النفي في الفلسفة تقوم على ركيزة أساسية، عنوانها حلول ظاهرة مكان أخرى. لإن النفي هنا في الطبيعة، كما في المجتمع يقوم بذات الوظيفة والمهمة. وإذا توقفنا أمام المسألة الإجتماعية، نلحظ أن الثورات الإجتماعية، أو الإنقلابات، أو العمليات الإستعمارية الإستيطانية تعتمد على نفي الآخر الأصلاني، وإلغاء كل ما له صلة به من تاريخ وثقافة وقوانين، وقد يصل إلى عملية سحق كامل لوجود الأخر، كما حصل في أميركا الشمالية، حيث قام المستعمرون الأوروبيون، الذين لجأوا للقارة الجديدة بإبادة هادفة لمئة مليون هندي أحمر من سكان البلاد الأصليين، وأزالوا كل ما له علاقة بالتاريخ القديم لإصحاب الأرض الأصليين، وأنشأوا ثقافة ولغة وتاريخ وأمة جديدة على أنقاض ما كان قبل حملتهم الإستعمارية.

والأمر ذاته في الثورات الإجتماعية حيث يتم تصفية تشكيلة إجتماعية / إقتصادية قائمة بأخرى جديدة، تختلف جذريا عن النظام السابق.  ولا يقتصر الأمر عند حدود النظام السياسي، انما في الثورات الإجتماعية التاريخية كانت تتم عمليات هدم وبناء لركائز منظومة إجتماعية وإقتصادية وقانونية وسياسية جديدة ونوعية، وتقيم معها علاقات وقوى إنتاج جديدة على انقاض القديمة، وتنشىء بناءا فوقيا مختلفا. ومثالنا على ذلك: الإنتقال من مرحلة العبودية للإقطاعية، وكذلك من الإقطاعية للرأسمالية، ومن الرأسمالية للإشتراكية. وحتى على مستوى الإنقلابات المعاصرة في مرحلة التطور الرأسمالي، وتحديدا في مجموعة النظم العالم ثالثية، نلحظ ان الإنقلابات العسكرية، بغض النظر عن خلفياتها، تهدف لعميات نفي للنظم السياسية القائمة، وإنشاء أنظمة مختلفة من حيث البنى والرؤى والأفكار، والأسس الأقتصادية والمنظومة القانونية والثقافية، وقد تكون من ذات الطبيعة الطبقية والسياسية، وهذة الإنقلابات الحديثة مختلفة إختلافا كليا عن الثورات الإجتماعية العميقة، بتعبير آخر، الإنقلابات ليست لونا واحدا، ولكنها  لا تهدد الدولة، بل تعمل على تغيير النظام السياسي.

وهكذا يمكن لمقولة نفي النفي التتحقق في ظل تحولات إجتماعية وإقتصادية وفكرية نوعية. ولكن هذة المقولة ليس بالضرورة نجاحها دوما، لإن الحامل لعملية النفي، أو "الأنا" النافية ليست مؤهلة لتحقيق هدفها، كما أن"الأنا" المراد نفيها تمتلك من عوامل القوة والبقاء ما يحول دون بلوغ الآخر مراده. ولو أخذنا نموذجا على فشل وسقوط مقولة "نفي النفي" النموذج الفلسطيني الإسرائيلي، وأيضا الفلسطيني الفلسطيني. سنلاحظ في الأول، أن الإستعمار الغربي عموما والبريطاني خصوصا بالتعاون والتكامل مع الحركة الصهيونية، ولاحقا قاعدتها المادية، دولة إسرائيل الإستعمارية، حاولوا طيلة سنوات الإنتداب الثلاثين من 1917 حتى 1948 تغيير المنظومة الإجتماعية والديمغرافية والإقتصادية والقانونية على الأرض لشطب الهوية والتاريخ والوجود الفلسطيني، وإقامة الدولة المارقة لخدمة أهداف الغرب الرأسمالي على حساب اليهود المضللين، وبإسم الدين، والشعارات الناظمة لنفي الآخر بدءا من شعار "ارض بلا شعب، لشعب بلا أرض"، وأرض الميعاد"، و"أرضك يا إسرائيل من النيل إلى الفرات"، وتلازم مع ذلك الدفع بمئات الآلاف من المهاجرين اليهود الصهاينة وغيرهم، وبعضهم الهارب من ويل وجحيم الفاشية والنازية الأوروبية إلى أي مكان، حيث تلاقت احلامهم البسيطة مع مخطط المستعمرين البريطانيين والأميركيين وأداتهم الحركة الصهيونية للهجرة لفلسطين، وتمثل أهداف الحركة الرجعية والمأجورة، التي مولها اباطرة رأسمال المالي العالمي والصهيوني خصوصا وعلى رأسهم عائلة روتشيلد وروكفلر وأدلسون وغيرهم في إقامة قاعدة الأرتكاز المادية، ونفي وطرد أكبر عدد من الفلسطينيين العرب من ارض وطنهم الأم. وهو ما تحقق لهم في البداية من نفي حوالي مليون فلسطيني من ديارهم ووطنهم الأم إلى المنافي في اعقاب النكبة عام 1948، وأقاموا دولة إسرائيل الكولونيالية، ولم يسمحوا بإقامة دولة فلسطين العربية، رغم أن قرار التقسيم الدولي رقم 181 الصادر في نوفمبر 1947 ربط إقامة دولة إسرائيل مع إقامة الدولة الفلسطينية العربية.

ورغم عدم إقامة الدولة الفلسطينية المستقلة على أي جزء من أرض الوطن، إلآ ان المخطط الإستعماري الصهيوني لم ينجح في نفي النفي للفلسطيني وهويته وشخصيته وثقافته ووجودة، فمنهم من تجذر داخل الحدود التي قامت عليها دولة الإستعمار الإسرائيلية، وهم الآن يشكلون حوالي 22% من مجموع سكانها، ويمثلون تحديا كبيرا للكل الصهيوني. مع ان النخب السياسية الفلسطينية، تطالب بالعيش داخل حدود الدولة كمواطنين متساوين بالحقوق والواجبات وفق معايير الهوية الوطنية. هذا فضلا عن التجمعات الأساسية الأخرى للفلسطينيين في أراضي دولة فلسطين المحتلة في الخامس من حزيران/ يونيو 1967 بما فيها القدس الشرقية العاصمة الفلسطينية، الذين يصل عددهم إلى ما يفوق عدد اليهود الصهاينة الآن ما بين البحر والنهر، وهو ما يهدد المنطق والمخطط الإستعماري برمته، ويضعه في مأزق خطير، ويدفع قيادات دولة التطهير العرقي نحو التغول والتوحش العنصري، والتخندق في خنادق اليمين المتطرف والفاشي في الحرب على الوجود الوطني الفلسطيني العربي. ولا تقف التعقيدات عند حدود ما ورد آنفا، بل تزداد عملية التعقيد، والسقوط المريع لمقولة النفي للفلسطيني أكثر فأكثر مع تمسك ابناء الشعب الفلسطيني في الشتات بالعودة لوطنهم الأم. وهولاء يصل تعدادهم إلى ستة ملايين ونصف فلسطيني، بحيث يصل المجموع الكلي للفلسطينيين العرب لحوالي ثلاثة عشر مليون فلسطيني. الأمر الذي حطم عملية نفيهم، ونفي تاريخهم وهويتهم ولغتهم وأهدافهم. وبالتالي مقولة نفي النفي ليست عملية ميكانيكية، ولا تتحقق وفقا للرغبات والمخططات، انما تحتاج لشروط ذاتية وموضوعية. والنتيجة ان الشعب العربي الفلسطيني تمكن من الخروج من مقصلة النفي الرأسمالية والصهيونية. وسيتجاوز الحرب الأميركية الإسرائيلية المكشوفة والشاملة، التي تقوم على ركيزة ومؤامرة صفقة القرن، وقانون "القومية ألأساس" الصهيوني، وسينتصر لذاته وخياره وأهدافه وثوابته الوطنية ولو بعد حين.

وبإختصار شديد فيما يتعلق بإنقلاب حركة حماس، فرع جماعة الإخوان المسلمين في فلسطين، التي جاءت بإسم الدين، والتجارة به، لنفي الهوية والشخصية الوطنية الفلسطينية، والتاريخ والمشروع الوطني، وبإسم "المقاومة" و"الإسلام هو الحل" و"إقتله وأدخل به الجنة"  والشعارات الديماغوجية التكفيرية الأخرى. فإنها لم تنجح، وفشلت فشلا ذريعا، لإن محاولاتها باءت بالهزيمة، رغم كل الواقع المؤلم في الساحة الفلسطينية، ومع ان حركة الإنقلاب نجحت حتى الآن في تفكيك النسيج الوطني والأجتماعي، وهددت وحدة الأرض والقضية والأهداف الوطنية، والنظام السياسي الفلسطيني، غير انها لم تنجح في تحقيق مآربها، وهدف جماعة الأخوان واسيادها في الغرب الرأسمالي بتصفية الهوية الوطنية الفلسطينية.  ورغم  انها مثلت راس حربة لمشروع ومخطط الشرق الأوسط الجديد أو الكبير الأميركي الإسرائيلي الغربي في الوطن العربي، وتعمل  الآن كجزء من مخطط صفقة القرن الأميركية بالتعاون مع التنظيم الدولي للإخوان ودولة قطر وتركيا لإستكمال المخطط الجهنمي لتمزيق وحدة وأهداف الشعب العربي الفلسطيني، فإنها سقطت سقوطا مريعا، ولم تفلح نهائيا، ولن تفلح، ولن تتمكن من بلوغ ما تصبو إليه في عملية النفي للآخر الوطني، ليس هذا فحسب بل لن يكون لها وجود في المشهد الفلسطيني مستقبلا، رغم كل وجودها في المشهد الفلسطيني منذ عام 1987 عندماإنخرطت في المشهد السياسي، وإحتلالها موقعا مركزيا فيه، لإن مبررات وجودها سيتنفي شاءت حماس ام أبت مع إنتصار المشروع الوطني في المستقبل غير البعيد.

amm

التعليقات

Developed by MONGID | Software House الحقوق محفوظة مفوضية الإعلام والثقافة © 2024