المحجبة" لجهاد بَزّي.. رواية خلع الأقنعة والبقاء على قيد الالتباس والانتظار!
نشر بتاريخ: 2019-01-02 الساعة: 08:50رام الله- الايام- يبدو أن حجاب "سلمى"، بات مع مرور الزمن، جزءاً من تركيبة جسدها، وربما سيكولوجيتها، ولو لسنين. هذا ما يمكن الخروج به من رواية "المحجبة" للروائي اللبناني جهاد بَزّي، والصادرة حديثاً عن "هاشيت أنطون" (نوفل) في بيروت.
و"سلمى"، التي تعيش برفقة حجابها منذ كانت في سن الثانية عشرة، لم تتورع عن مخالفة المتطلبات الدينية والمجتمعية لارتدائه، فهي تمارس الجنس، وتحتسي الكحول، وتتعاطى الحشيش، ولا تصلي ولا تصوم، لترحل بنا ابنة السادسة والعشرين في الرواية مع مذكراتها التي تحتسبها بالأيام، وانعكست في عناوين تحمل أرقاماً هي تعبير عن الزمن البطيء ما بين "الإثنين 9699 والثلاثاء 9862"، ما يعني حسابياً أنها كتبت حكاياتها على مدار 163 يوماً.
واللافت أن يومياتها لم تكن كلها مليئة بالكلمات، فهناك صفحات تعمّد بَزّي أن يجعلها شبه فارغة بما يحمله ذلك من دلالات، فتحمل كلمتين تارة من قبيل "في البيت"، أو أكثر كما "في المعتقل سأسهر في ميشاز اليوم مع ريما وأحمد"، هي التي تعمل مدققة لغوية في موقع إلكتروني، ما يعكس حالة الصراع حتى مع رغبتها في الكتابة.
تعيش "سلمى" صراعات على أكثر من مستوى، كلها انعكاسات للصراع الأساس ما بينها وبينها، فهي في الرواية (المذكرات) تخاطب نفسها، دون أن ندري من منهما أصيلة ومن منهما المشتهاة أو الممحوة، أو أن كل منهما أصيلة ومشتهاة وممحوة في آن.
ومن هذه الصراعات ما يبرز في عملها، وفي علاقاتها العاطفية المتعددة والعائلية، خاصة مع شقيقها جبران ووالدتها إلهام، وبالأساس مع الحجاب، الذي رغم شعورها بأنه جزء منها لمرحلة ما، إلا أنها تتمرد عليه وتخلعه، وإن كانت انقلبت عليه من قبل دون أن تخلعه في سن السابعة عشرة، بممارساتها التي، كما أشرت، تتنافى دينياً واجتماعياً مع ارتدائها إياه، وكان عنوة أو نتيجة حالة من الترغيب و"غسيل الدماغ"، لكن يبدو أنها الجينات التي انتقلت إليها من والدها اللاديني، رغم سلبيته الكبيرة التي كانت ترفضها.
واستطاع بَزّي باقتدار تقمص نفسية "المحجبة"، وكأن الروائي هنا أنثى، أو لامس روح هذه الأنثى التي أشعلت روايته حد التماهي، في جرأة لافتة، وضرورية في سياق موضوع الرواية الذي يسلط الضوء على نموذج ينسحب على عديد المحجبات في لبنان والوطن العربي، مع أن الكاتب صرّح في لقاء تلفزيوني معه بأنه لم يرصد حالة بعينها، بل عبر عن حالات تعيش في مجتمعاتنا العربية.
ويمكن القول: إن تناقضات "سلمى" تعكس "تناقضات" المجتمع الذي نعيشه، فالحجاب هنا قد يكون رمزاً للأقنعة الزائفة التي نرتديها في يومياتنا، ومن بينها قناع الفضيلة، فـ"سلمى" في الجنوب هي "سلمى" في بيروت جسداً، رغم التحولات، التي ليست بالضرورة كانت نتيجة لتغير في الجغرافيا المحيطة، فحياة ما وراء الحجاب بالنسبة لها هي حيوات ما وراء الأقنعة لكل منّا أو لغالبيتنا العظمى على أقل تقدير.
الحوارات الداخلية ما بين سلمى وسلمى كانت تتصاعد وتهبط، وهو ما انعكس في لغة السرد بشكل مقنع، حتى وصلت إلى الذروة بقرار خلع الحجاب بعد قرابة عشر سنوات على خلع علاقتها به. عشر سنوات من الأسئلة المحتشدة ما بين شعرها وما يحجبه عن الهواء، وإن كان لم يحجبه على التصاق الأجساد، وملامسة الشفاه لكؤوس الخمر، أو لفافات الحشيش.
"إنه معي مذ كنت طفلة. سوا ربينا. أقرب إليّ من أبي ومن أمي ومن جبران وغاية المنى وقمر. صديقان نحن. نخرج في الصباح معاً، ويظلّ معي طوال النهار. منذ 14 سنة ونحن نتصوّر معاً. يلتصق بي. يصنع هويّة وجهي. ينعكس لونه على بشرتي. يحدّدني. يخلقني. نزعه أصعب عليّ من عملية تجميل للأنف. سأصير، فجأة، مخلوقة أخرى. ليس بهذه السهولة يا سلمى. لا يمكنني أن أمدّ يدي إليه وأشيله. ليس هكذا. ليس دون احتفال أو عزاء. تظنين الأمر بسيطاً. أن أمدّ يدي اليسري إليه وأنزعه هكذا وأرميه؟ أي وفاء للعشرة؟ للصداقة العتيقة؟ أي وفاء؟ أشطب 14 سنة من عمري هكذا؟ ألغيها كأنها لم تكن؟ حتى يدي ترفض أن تتخذ مثل هذا القرار. دعيكِ من جبران. دعيكِ من إلهام وغاية وقمر. دعيكِ من صهريكِ ومن زوج خالتك، ومن ابن بنت عمتكِ في البرازيل، ومن رأس النبع وفرن الشبّاك ومن حسن وجاكلين والكوتش جو وريما وشيرين. إرمي خلفكِ جيوش البشر. هل أنتِ مستعدة لقتل توأمكِ السيامي هذا، الآن؟".
ولعل الفقرة السابقة من الرواية، والتي صيغت بحسّ عالٍ رفيع المستوى، تعكس هذه العلاقة الملتبسة بين سلمى وحجابها، وبين مؤيدي خلعه، والمصرّين على بقائها على قيده، أو تحت قيده، ففيها مساحة من البوح، الذي يضعها أمام مجهرها في حالة عريّ ليست مطلقة، بل في حالة التباس دائم، هو التباسها، والتباسنا، وربما التباس الروائي أيضاً، في مساحة لا نهائية من الانتظار الفردي والجمعي.
"أنا أنتظر. حياتي مرتّبة تماماً، كبيت لا يعيش فيه أحد. أنتظر الليل كي أنام وأنتظر الصباح كي أذهب إلى المعتقل. أنتظر الساعة الخامسة حتى أقوم عن مكتبي، ثم أعود فأنتظر الليل، فالصباح. أنتظر فرصة عمل أخرى. أنتظر نهاية الأسبوع كي أذهب إلى الضيعة وأنتظر مساء الأحد كي أعود منها. أنتظر حسن كي يقرر ما يشاء من علاقتنا وأنتظره كي ينفصل عني ويختفي. أنتظر رجلاً جديداً لأبدأ علاقة جديدة. أنتظر في السيارة. أنتظر في الحياة... أنتظر مرور الأيام كي أستأصل عمري. إنني أنتظر. إنني أنتظر... إنني، في الأفلام المتداخلة إلى ما لا نهاية، أدرك كم هو ملل هذا الفيلم. مع ذلك نبقى كلنا حيث نحن. نتكرر في الانتظار. لا نريد أن نخاف أو نقلق. سنبقى هنا، جالسات في مقاعدنا، نتفرج على تكرارنا في المرآة، ليس في الخارج ما يستحق قلقنا. قد يكون هذا أفضل ما سيحصل لنا في الحياة، لماذا نغامر؟ لماذا أغامر؟ سأبقى هنا...".
amm