العراق أولاً .. أم رابعاً
نشر بتاريخ: 2018-09-19 الساعة: 09:43عبير بشير هل يعقل أن يكون العراق بهذه الحالة المزرية بعد مرور خمسة عشر عاماً على لحظة انهيار أكبر تمثال لصدام، في ساحة الفردوس وسط بغداد ؟ وأن يكون سدنة النظام العراقي الجديد، من سياسيي واقتصاديي الصدفة!.
وهل يعقل أن ينتهي نحو نصف عائدات النفط العراقي المقدرة بألف مليار دولار أميركي، منذ سقوط نظام صدام حسين، إلى جيوب الأغلبية من متبوئي الوظائف العليا في الدولة الجديدة، وشركائهم الذين سهلوا لهم عمليات شفط تلك الأموال وتبييضها ونقلها إلى خارج الحدود، في أكبر وليمة فساد في التاريخ الحديث! فيما يطالب المواطن العراقي بأبسط حقوقه من الكهرباء ومياه الشرب ...
وهل يعقل بأن يصبح الانتداب الإيراني والأميركي للعراق، بمثابة قدر على العراقيين، وأن يصبح مصيرهم معلقا بجولات قائد فيلق القدس قاسم سليماني في العراق، ولقاءات بريت ماكغورك مبعوث ترامب!.
أما الذي لا يمكن بلعه البتة، هو أن تعاني البصرة العائمة على الماء والنفط، العطش والتسمم والظلمة والفقر والبطالة!.
لم يعد العنف والحرب الطائفية والفوضى، العناوين الرئيسة لمرحلة ما بعد صدام، الفساد المالي والإداري والذي وصل إلى مستويات قياسية، سنة بعد سنة، أصبح أيضا من المانشيت الأحمر اليومي لهذه المرحلة.
وفي المحصلة، لم يعد باستطاعة أحد أن يعلق تحول العراق إلى دولة فاشلة، على شماعة قرار الحاكم العسكري للعراق بول بريمر بحل الجيش العراقي، غداة الغزو الأميركي لبغداد.
حتى بصيص الأمل في أن يتمكن رئيس الوزراء العراقي المنتهية ولايته حيدر العبادي مع حلفائه في إرساء اللبنات الأولى لعراق ما بعد صدام حسين، بدأ يتلاشى، مع مطالبة القائمتين الرئيستين اللتين فازتا في الانتخابات التشريعية التي جرت في أيار الماضي باستقالة حكومته، في أعقاب جلسة استثنائية عقدها البرلمان لمناقشة أزمة البصرة.
ولا شك في أن الشروط السياسية التي فرضها الأميركيون لمواجهة داعش في العراق، هي التي انعكست على خطاب حيدر العبادي وسلوكه، متبعا لغة رجل الدولة ومنفتحاً على الجميع وساعياً قدر الإمكان إلى رسم مسافة بين الدولة والميليشيات.
كما أنه وبتشجيع من الأميركيين دشن صفحة جديدة في الانفتاح على السعودية والكويت ضمن علاقة متوازنة ومتبادلة، في حين كانت طهران تنظر باستياء عارم إلى تقاربه مع السعودية، وخطواته لرسم خارطة جديدة للعلاقة معها، عنوانها "العراق أولاً".
غير أن تداعيات أحداث البصرة، نسجت مرحلة جديدة في الصراع السياسي على تشكيل الكتلة الأكبر وتسمية رئيس الوزراء، والتي وظفتها طهران من أجل الإطاحة بحظوظ العبادي في رئاسة جديدة للحكومة العراقية.
وحملت القوى الشيعية، العبادي المسؤولية عن أزمة البصرة، وانضم شريكه المفترض مقتدى الصدر لخصمه هادي العامري زعيم كتلة الفتح التي تنضوي في صفوفها فصائل الحشد الشعبي في مطالبة العبادي بتقديم استقالته والرحيل.
ولم تتأخر رموز المرجعية في النجف أيضاً في تحميل المسؤولية لأهل الحكم والنظام، حيث أعلن المرجع الشيعي الأعلى في العراق، علي السيستاني، عن عدم تأييده لشخصيات تسلمت السلطة في السنوات السابقة لمنصب رئاسة الوزراء، وهو ما سارع كثر إلى اعتباره المسمار الأخير في نعش حيدر العبادي.
ويبدو أن العبادي، يدفع ثمنا باهظا لأنه تجرأ على الإعلان عن التزامه بالعقوبات الأميركية على طهران، والمواقف التي أطلقها: "بأن الأمانة الوطنية التي نحملها تستدعي منا عدم المجازفة بمصير شعبنا لصالح إرضاء إيران" وانتقاده الإجراءات التي اتخذتها الحكومة الإيرانية فيما يخص إمدادات المياه إلى العراق، وقال إنه ليس من حق أي دولة جارة أن تقطع مياه نهر الكارون عن شط العرب ومحافظة البصرة.
وتعاني البصرة العائمة على الماء والنفط، والمتاخمة للأراضي الإيرانية، العطش والظلمة بسبب تغيير إيران لمجرى نهر الكارون، وقطعها الكهرباء لاستعجال دفع الفواتير من الحكومة العراقية، وتسمم أكثر من ثلاثين ألفا من أهالي البصرة من المياه الملوثة، بسبب إلقاء إيران لنفاياتها في شط العرب، وقد سبب ذلك، وبالإضافة إلى الفقر والبطالة، انطلاق شرارة انتفاضة شعبية، مطلع تموز الماضي.
وهاجم المتظاهرون مبنى المحافظة ومقار حكومية، وقواعد لفصائل الحشد الشعبي، وأشعلوا النار في القنصلية الإيرانية في البصرة.
وتشي آلية انتخاب محافظ الأنبار السابق الشاب محمد الحلبوسي، رئيساً للبرلمان العراقي بدعم من كتلة النماء، المكونة في غالبيتها من فصائل الحشد الشعبي والمصنفة على أنها الأقرب للتوجهات الإيرانية، بما ستكون عليه ملامح صفقة تسمية المرشح لرئاسة الوزراء ورئاسة الجمهورية.
فالكتلة تفوقت بقدرتها على جمع العدد الأكبر من أصوات البرلمان - سنة وشيعة -، وذلك لأنها تدير مفاوضاتها على أساس تكريس تقاسم المناصب والوزارات وتوزيعها.
وللمرة الأولى، يتحول أهل كردستان، إلى بيضة القبان في اللعبة السياسية العراقية، وهم يميلون للبقاء في محطة الانتظار، ويتريثون في انضمامهم إلى الكتلة الإيرانية في مجلس النواب العراقي الجديد من أجل ترجيح شخصية موالية لطهران لرئاسة الحكومة، رغم أنهم يريدون تصفية حسابهم مع حيدر العبادي، ودوره في مرحلة ما بعد الاستفتاء على استقلال كردستان العام الماضي، الذي أعاد الأكراد بكل خشونة إلى شعار "ليس للأكراد صديق سوى الجبال".
ولم يتمكن بريت ماكغورك من دفعهم إلى عربة العبادي، رغم معرفتهم جيدا، بتوجهات الإدارة الأميركية، بقطع الطريق على المشروع التوسعي الإيراني، والذي يشكل العراق أهم مرتكزاته.
ويترقب الأكراد إبرام صفقة مع أحد الأطراف، تعيد لهم بعض الذي خسروه بعد فشل الرهان على نتائج الاستفتاء.
وفي المحصلة، ما يمر به العراق في الوقت الراهن، هو فشل للمشروع الأميركي في العراق، الذي أراد أن يتخلص من نظام صدام حسين، دون أن يخطط بدقة وحذر لليوم التالي، ودون أن يأخذ في الحسبان الحقد الإيراني على العراق، وأطماعها التاريخية فيه، وكيفية ملء الفراغ الهائل الذي سيخلفه سقوط نظام صدام، والحيلولة دون وضع طهران يدها على العراق لملء هذا الفراغ.
وهذا لا يقلل من تحمل العراقيين - شيعة وسنة - لمسؤولية ما حل في بلدهم طوال خمسة عشر عاما؛ لأنه لا الفريق الذي اعتبر نفسه منتصراً بسقوط نظام صدام، نجح في عقلنة انتصاره، ولا الفريق الذي اعتبر نفسه مهزوماً بسقوط هذا النظام، نجح في عقلنة خسارته.