أفول السلطنة الأردوغانية
نشر بتاريخ: 2018-08-30 الساعة: 08:10عبير بشير عندما أعلن كمال أتاتورك قيام الجمهورية التركية الحديثة، كان العثمانيون خسروا الجائزة الكبرى: بلاد الحرمين، القدس، بلاد النهرين... وكانت النهاية قد بدأت فعلياً منذ أواخر القرن التاسع عشر، وهو تاريخ أفول الإمبراطورية العثمانية بالمعنى التاريخي. وفي استماتة الدفاع عن الملك، أخذ الفيل الهرم – تركيا - يحطم جرار الفخار يميناً وشمالاً، وحوّل كل من حوله إلى مجازر: أكراد، وأرمن، وأشوريين.
أقام الأتراك جمهورية تركيا الحديثة، بالنار والدم، وقاتلوا على كل الأراضي التي صارت دولتهم في معاهدة لوزان، أما الدول الوطنية المحيطة بهم، في سورية ولبنان والعراق، فقد جرى ترسيمها من قبل قوى خارجية. واختار أتاتورك الاستسلام الحضاري للغرب، وليس الاستسلام الوطني، وتبني معايير ومقاييس التفوق لدى أوروبا، وبهذا المعنى، لم تحصل نهاية التاريخ، بعد سقوط الاتحاد السوفياتي، ولكن تكرس الجزء السياسي فيها. كمال أتاتورك، رأى أيضاً، أن نهاية الإمبراطورية العثمانية، هي نقطة فصل ووصل، تستدعي انتفاضة ذاتية ثقافية تصحيحية، لحماية مجتمع مسلم خارج للتو من تجربة وجودية.
في تركيا، مثل شعبي يمكن أن يلخص الكثير من الدراسات والأبحاث، يقول هذا المثل: «اشرب الخمر متوضئاً»، في دلالة على امتزاج معيارين نقيضين في الشخصية التركية. الأول قائم على العلمانية «الأتاتوركية» التي ترفض الهوية الإسلامية ومقاييسها، وتنظر إلى الغرب بانبهار؛ كونه يمثل الحداثة والرقي، وتأخذ منه أساليب العيش وأنماط التفكير. أما الثاني، فهو الإسلام السياسي والاجتماعي الذي يرى ضرورة إدخال الدين في مسائل الحياة والقيم الخاصة والتصرفات العامة.
تجنب أردوغان وحزبه (العدالة والتنمية) رفع شعار الهوية الإسلامية، والحديث عن الأمجاد العثمانية، في بداية حكمه لتركيا، لأن القوى المتعاطفة معها ضعيفة، وحتى لا يثير مخاوف الكماليين والعلمانيين الذين يتصدرون المشهد الثقافي والاجتماعي والسياسي في تركيا، وترك أردوغان عن تخطيط مسبق، كل العناوين الخلافية والتي ليس عليها إجماع، وعمل على العناوين والمشاريع، المتفق عليها بين غالبية الشعب التركي، بداية من تنشيط الاقتصاد، وحل مشاكله وتقوية الجبهة الداخلية، ومحاربة التنظيمات الإرهابية، وتحقيق استقرار سياسي واجتماعي، لم تعرفه تركيا لعقود، والارتقاء بالتعليم والصحة، وبناء بنية تحتية واسعة ومتينة، والسعي للتخلص من الوصاية الغربية.
بعد القفزات التي حققتها حكومة أردوغان في الحقل الاقتصادي، بدأ تكتيكه يتغير، وأصبح أكثر جرأة في الإفصاح عن ميوله الإسلامية بالتجمعات الشعبية الحاشدة، ثم تضاعفت هذه الجرأة، ونزع القفازات الناعمة، بعد المحاولة الانقلابية الفاشلة، وأصبحت أغلب خطابات أردوغان تتضمن عبارات واضحة تشير إلى تمسك تركيا الأردوغانية بهويتها الإسلامية والأمجاد العثمانية؛ فقد قال في إحدى خطبه: «سنعيد فتح مدارس الأئمة والخطباء التي أغلقوها، حتى يعود الناس ليتعلموا القرآن والسيرة النبوية. لقد تمت محاربة قيم هذا الشعب ومقدساته، حيث أغلقت أبواب المساجد وحوّلت إلى متاحف وحظائر للحيوانات، ومنع تعليم القرآن من قبل حزب الشعب الجمهوري الحالي».
كما كانت الزيارات، التي قام رجب أردوغان صبيحة الفوز في الاستفتاء على التحول للنظام الرئاسي، لأضرحة فاتح القسطنطينية السلطان محمد الفاتح، والسلطان ياوز سليم الأول، والصحابي أبي أيوب الأنصاري، وشهيد الأذان عدنان مندريس، والأب الروحي للحركة الإسلامية التركية نجم الدين أربكان، واستثناء ضريح مصطفى كمال أتاتورك، إشارة بالغة الدلالة إلى تمسك السلطان أردوغان، برموزه الإسلامية والإمبراطورية، والاعتزاز بتاريخهم المجيد، وانتهاء الحقبة الأتاتوركية.
ثم جاءت مرحلة اتهام أردوغان للاتحاد الأوروبي بموضوع محاربة الإسلام وسعيهم لنشر الإسلاموفوبيا بطرق مختلفة. وقال الرئيس التركي حول اجتماع قادة دول الاتحاد الأوروبي في الفاتيكان بمناسبة الذكرى السنوية الستين لتأسيس الاتحاد: «أظهرتم تحالفكم الصليبي. لماذا اجتمعتم في الفاتيكان؟! ومنذ متى كان البابا عضواً في الاتحاد الأوروبي؟! الاتحاد الأوروبي يرفض عضوية تركيا لكونها دولة مسلمة. إن غضب الأوروبيين ليس لأننا انحرفنا عن الطريق الصحيح، وإنما لأننا لم نعد نأتمر بأمرهم ولم نعد ننصاع لمطالبهم».
الآن، كيفما نظرت ترى تركيا، قاعة مرايا متكسرة لا مخارج لها، وترى الباب العالي، وترى مؤذن إسطنبول وقد صار سلطاناً. وأصبح بالإمكان القول: إنه لم يعد لأردوغان «مشروع عثماني». صار مشروعه الوحيد تركيا، وكيفية الحفاظ عليها، بعد الانهيارات السياسية والعسكرية التي ضربت الإقليم، وبعد الانهيارات المتتالية في الاقتصاد التركي.
ويذهب المحللون إلى أن أزمة الليرة التركية الأخيرة ليست إلا بمثابة رأس جبل الجليد، بينما جذورها تمتد إلى سنوات طويلة مضت، موضحين أن الخلاف الأميركي التركي حول القس برانسون المتهم بالتحالف مع جماعة غولن، ليس هو السبب الرئيس في التدهور الاقتصادي الحاصل في تركيا، بل السبب الأبرز هو سياسات الرئيس التركي نفسه، والذي يحاول التنصل من ذلك عبر إلقاء اللوم على الآخرين. وقالت مجلة «فورين بوليسي» الأميركية: إن تركيا تخوض معركة اقتصادية خاطئة حين تعتبر أزمة الليرة المتفاقمة منذ أشهر نتاجاً صرفاً للنزاع الدبلوماسي الأخير مع واشنطن، بينما ساهمت عوامل كثيرة في التدهور غير المسبوق لعملة البلاد، وأن عدداً من الاقتصاديين حذروا قبل أشهر من الكارثة، لكن الرئيس التركي لم يستجب وفضّل عدم الإنصات.
وترى المجلة أن جذور أزمة الليرة التركية تعود بالأساس إلى السياسات التي انتهجها أردوغان لأجل استمالة الناخبين وكسب الانتخابات على مدى أعوام طويلة، منها على سبيل المثال وليس الحصر، تحول تركيا إلى سوق بناء، قامت بها شركات قريبة من الحكومة. ويقول المستثمر هارون ميسيت: «كان من الواضح أن انهياراً سيحصل، لقد طلبت مراراً من أصدقائي طيلة سنوات أن يتوقفوا عن منافسة بعضهم البعض في مجال البناء، لكنهم لم يفعلوا والنتيجة أن هناك ما يقارب ثمانمائة ألف بيت في تركيا، لم يتم بيعها بعدما تعرضت سوق العقار لإغراق كبير.
ومن الواضح أن أردوغان، يحاول أن يضع كل شئ سلبي في الاقتصاد التركي، على شماعة العقوبات الأميركية، وعلى الرئيس الشعبوي ترامب، رغم أن ترامب أعطى أردوغان في البداية علامات مرتفعة جداً، فهو معجب بالرجال الأقوياء. وحسب الرواية الأميركية، فقد التقى ترامب بأردوغان خلال اجتماع لحلف شمال الأطلسي في بروكسل، منتصف تموز الفائت، وناقشا قضية القس برانسون والسبيل إلى إطلاقه. وطلب أردوغان أن يستغل ترامب نفوذه لدى بنيامين نتنياهو كي يطلق سراح سيدة تركية سجنتها إسرائيل لعملها مع حركة «حماس». وفي المقابل كان على تركيا الإفراج عن برانسون وسواه من الأميركيين المحتجزين لديها. وأكد ترامب أنه نفذ الشق الخاص به من الاتفاق. وأضاف: «أخرجت ذلك الشخص من أجله. أتوقع من أردوغان أن يُخرج هذا الرجل البريء تماماً والرائع والأب العظيم والمسيحي العظيم من تركيا». غير أن أنقرة أودعت برانسون في الإقامة الجبرية، ونفت أن تكون وافقت بأي صورة على إطلاق برانسون في مقابل إطلاق المواطنة التركية. وهذا ما دفع ترامب إلى التصويب على أردوغان، ووضع ملف القس برانسون والعلاقة الأميركية - التركية بين يديه.