الرئيسة/  مقالات وتحليلات

السلطان أردوغان والمؤسسة العسكرية

نشر بتاريخ: 2018-08-07 الساعة: 09:57

عبير بشير على مدار التاريخ، ترسخت مكانة الجيش في المجتمع التركي، عسكريا وثقافيا، بالنظر إلى خصوصية العنصر العسكري كعنصر متأصل في الشخصية التركية. ولعب الجيش دورا محوريا في اتساع رقعة الإمبراطورية العثمانية لتصل إلى ثلاث قارات، الأمر الذي سوغ للجيش الإنكشاري التدخل في شؤون السلطنة العثمانية، لدرجة تغيير الصدور العظام والسلاطين. 
استطاع السلطان محمود الثاني تقليم الأظافر السياسية للجيش الإنكشاري والاستعاضة عنه بمؤسسة عسكرية أخرى تنأى بنفسها عن التدخل في العملية السياسية، إلا أن الجيش عاود بعد سنوات تدخله في السياسة مجددا، وبدا ذلك واضحا في حركة الاتحاد والترقي، التي انطلقت من بين صفوف العسكر، للإطاحة بالسلطان عبد الحميد الثاني.
وحظيت المؤسسة العسكرية في تركيا بوضع استثنائي أكثر، وشكلت كلمة مفتاحية في إدارة المشهد التركي لعقود طويلة، منذ تأسيس الجمهورية التركية واسقاط الخلافة على يد الجنرال مصطفى أتاتورك عام ألف وتسعمائة وثلاثة وعشرين، الذي شن حرب المقاومة الوطنية عشية الحرب العالمية الأولى، ضد بقايا الحكم العثماني المتداعي، وقوات الاحتلال الفرنسية والبريطانية والإيطالية، التي احتلت الأناضول. ونجح في تحرير إسطنبول والأناضول.
وهكذا، تأسست الجمهورية التركية الأولى في كنف ثورة عسكرية قادها الضابط مصطفى أتاتورك ورفاقه. وترسخ مبدأ "الانقلابية" كوسيلة لبناء الجمهورية التركية الفتية وحمايتها، وعهد أتاتورك للجيش التركي بحماية الجمهورية التركية ومبادئها ، باعتباره مؤسس تركيا الحديثة وقائد ثورتها المجيدة، وسن أتاتورك المادة خمسة وثلاثين من قانون الخدمة العسكرية، والتي تنص على أن وظيفة القوات المسلحة هي حماية الوطن ومبادئ الجمهورية التركية.
بعد ذلك، شقت تركيا لنفسها طريقا خاصا، يسمح للجيش بالانقلاب العسكري على أي حكومة مدنية منتخبة، يراها قادة الجيش تخالف مبادئ الجمهورية التركية، وخصوصا مبدأ العلمانية.
وبمرور الوقت تطور تقليد الانقلاب العسكري في تركيا، ليصبح ثقافة أصيلة محصنة بالبنود الدستورية اللازمة. وقد نفذ الجيش أربعة انقلابات عسكريّة ناجحة، وتعامل مع نفسه دائما على أنّه الحارس الأوحد للديمقراطيّة العلمانية الذي لا يخضع للمحاسبة. وقد حرص الجيش بعد كل انقلاب عسكري، أن يقوم بسن دستور جديد أو تعديل بعد مواده، ليصب في النهاية لصالح تعزيز سطوة المؤسسة العسكرية داخل مؤسسات الحكم في تركيا.

عند وصول حزب العدالة والتنمية إلى السلطة في تركيا، ظلت المؤسسة العسكرية تمثل شوكة قوية في خاصرة توجهاته. غير أن رجب طيب أردوغان تجند لتقليص النفوذ السياسي للجنرالات وتحييد القوات المسلحة التركية عن الحياة السياسية تدريجيا،وبصبر إستراتيجي.
وتحت عنوان تحقيق شروط اللحاق بالأسرة الأوروبية، رفع رجب أردوغان شعار الديمقراطية، وأخذ يتقرب من الغرب، وعبر هذا الشعار تمكن أردوغان من محاصرة الجيش، وشرع بإجراءات لجعل المؤسسة العسكرية خاضعة بشكل أكبر للسلطة السياسية، حيث أصدرت حكومة أردوغان في عام ألفين وثلاثة، حزم قانونية متوافقة مع معايير كوبنهاجن، بهدف إعادة هيكلة المؤسسات التركية، كمقدمة لتأهيل تركيا سياسيا لعضوية الإتحاد الأوروبي، ومثلت تلك الحزم، نقطة مفصلية في العلاقة بين العسكريين والمدنيين داخل مجلس الأمن القومي وأمانته العامة، وأفضت التعديلات الخاصة على المجلس، إلى إلغاء هيمنة المؤسسة العسكرية عليه، وتقليص سلطات المجلس التنفيذية.
كما جاء قرار الحكومة التركية، بفصل القيادة العامة لقوات "الجندرمة"-الدرك-، عن هيئة الأركان العامة، وضمها إلى وزارة الداخلية، كخطوة هامة لملئ صفوف الدرك بأنصار حزب العدالة والتنمية وخلق توازنٍ في مواجهة قوّة الجيش. 
ولم تكن تلك الإجراءات الوحيدة في محاصرة الجيش التركي، ففي عام ألفين وثلاثة عشر، وافق البرلمان التركي على تغيير المادة خمسة وثلاثون من قانون الخدمة الداخلية للقوات المسلحة، والتي كانت تضفي شرعية على كل انقلابات التي قام بها الجيش ضد الحكومات المنتخبة، وباتت الصيغة الجديدة تنص على أن مهمة القوات المسلحة تتمثل في الدفاع عن الوطن والجمهورية التركية تجاه التهديدات والأخطار الخارجية.
وعلى الرغم من الجهود الجبارة التي بذلها حزب العدالة والتنمية، يمن أجل تقليص الدور السياسي للجيش التركي، إلا أن الضربة القاضية التي وجهها أردوغان للمؤسسة العسكرية، ودق بها المسمار الأخير في نعش تدخل العسكر في السياسة، تمثلت في براعة أردوغان في تحريك فضيحة "أرجينيكون" في ألفين وسبعة، وهي قضية تورط بها قيادات من الجيش في مؤامرات وأنشطة تخريبية، للإطاحة بحكومة العدالة والتنمية، واغتيال رموزها.والتي تم بها إحالة مئات من القيادات العسكرية إلى القضاء. 
واستغل أردوغان القضية، لتصفية ما كان يطلق عليه الحكومة الخفية، أو الدولة العميقة، قانونيا وأمنيا، والتي كان من أبرز أذرعها منظمة"أرغنكون"، وتنظيم الذئاب الرمادية. وشنت حكومة العدالة والتنمية،حملات اعتقال، بحق شخصيات وازنة من التيار العلماني، بينهم أساتذة جامعات.
وجاءت الخطورة الأكثر إيلاما للمؤسسة العسكرية،عشية الانقلاب الفاشل في عام ألفين وستة عشر، حيث شهد الجيش التركي، عملية واسعة لإعادة هيكلته، وهي الأولى من نوعها منذ تأسيس الجمهورية، والإطاحة بمراكز القوى في الجيش، عبر إقالة وطرد المئات من جنرالات الجيش بتهمة الانقلاب على حكومة أردوغان، والانتماء لمنظمة غولن، وترقيات هامة في الجيش حسب مستوى الولاء لأردوغان. ورفعت وزارة الدفاع التركية الحظر المفروض على ارتداء الحجاب في صفوف المجندات وطالبات الكليات العسكرية، وسمحت بدخول المحجبات من عائلات الجنود إلى دور القوات المسلحة التركية ونواديها، في علامة على التغيير الكبير الذي تشهده تركيا، والتي كان فيها الحجاب من المحرمات في المؤسسات العامة والمعاهد والجامعات.
وعشية فوز أردوغان في الانتخابات الرئاسية الأخيرة، تم إخضاع المؤسسة العسكرية لأوسع عملية إعادة هيكلة في بنيتها الإدارية في تاريخها،حيث تم إلحاق هيئة الأركان العامة، وجهاز الاستخبارات بمؤسسة الرئاسة التركية، وإسناد الترقيات داخل الجيش إلى الرئيس أردوغان، بدلا من مجلس الشورى العسكري، الذي أعيدت هيكلته لتصبح غالبية أعضائه من المدنيين.
ورغم أن أردوغان انتقل بعيد الانقلاب الفاشل من مرحلة تقليم مخالب القوات المسلحة، إلى مرحلة قطع أصابعها.إلا أن أردوغان بكل هفواته وأخطائه وانقلاباته، لم يسعى في أي لحظة من اللحظات إلى قطع يد الجيش التركي، أو نحر وريده، وبقى للتراب الوطني التركي والحدود الوطنية،قدسية عنده، وهذا يسجل للرجل، الذي تمايز بالعمق مع توجهات الإخوان المسلمين في هذا الإطار، حيث يضع الإخوان المؤسسات العسكرية في بلدانهم، على رأس قائمة الأعداء، ويهدفون إلى تفكيكيها وتهميشها كلما سمحت الفرصة بذلك، بينما لا اعتراف بالتراب الوطني والحدود الوطنية في عرف جماعة الإخوان.
وللحقيقة أن الرجل-أردوغان- عثماني حتى النخاع، وهو مفتون بالإمبراطورية العثمانية، والتي لعب فيها الجيش التركي على مدار تاريخه دورا كاسحا. وهذا ما يفسر حرص أردوغان على بقاء الجيش التركي كقوة ضاربة، ولكن مع تحييده بشكل كامل عن الحياة السياسية.  
  

far

التعليقات

Developed by MONGID | Software House الحقوق محفوظة مفوضية الإعلام والثقافة © 2024