الرئيسة/  مقالات وتحليلات

"سبوت لايت" وجدلية الصحافة الاستقصائية في العالم الحر

نشر بتاريخ: 2018-07-12 الساعة: 09:39

عمار جمهور يأتي فيلم "سبوت لايت" الذي أنتج في أواخر عام 2015 ليروي قصة صحفية حقيقية اعتبرت أهم سبق صحفي في الألفية الثانية، استطاع من خلالها أن يشكل إضافة نوعية لجملة الأفلام السينمائية الاميركية، التي تناولت جدلية الصحافة الاستقصائية العالمية في الوصول إلى الحقيقة المنشودة، موظفا بذلك الأساليب والآليات والادوات اللازمة في الاستقصاء الصحفي على الصعيدين النظري والعملي.  

ويتناول "سبوت لايت" في ثناياه جزئية محددة العلاقة ما بين المعرفة والحقيقة وارتباطاتها مع السياقات الاجتماعية والأخلاقية، ليفتح جملة من التساؤلات الإعلامية والصحفية وعلاقتها بتشكيل منظومة معرفية موجهة، قد تكون مغيرة للحقائق المقرونة بالأدلة والبراهين، فالنظام الذي بنته الكنيسة كمؤسسة معرفية تنتج فكرا ومعرفة يصقل ممارسات الفرد ويهذبه "افتراضيا"، إلا أن ذلك قد لا يوصل الانسان العادي إلى لب الحقيقة وجوهرها، التي تمحور حولها سيناريو الفيلم وموضوعه والمتمثلة بالاعتداءات الجنسية، التي يمارسها رجال الدين في إحدى الكنائس دون الاساءة الى رمزية الدين كفكرة، بل يتعاطى مع الممارسات باعتبارها تجاوزات فردية وليست حالة عامة، مستشهدا بذلك بمقطع تصويري جزئي يظهر متابعة مجموعة من الصحفيين لأحداث 11 سبتمر، والذي حاول الفيلم أن يعطي انطباعا عنها بأنها لا تمثل الإسلام كدين او عقيدة. 

 شكلت المعالجة السينمائية بموضوعها تحديا جوهريا لمفهوم الصحافة الاستقصائية في مجتمع ديموقراطي الفكر والممارسة، مستعرضة أبرز التحديات والاشكاليات المتمثلة بالمسؤولية المجتمعية والأخلاقية للمحقق الصحفي وللمؤسسة الاعلامية كمنتج معرفي موجه للرأي العام وقائد له، ليعيد طرح التساؤل الجوهري بشأن وجود الحقيقية الكاملة.  

كما أظهر الفيلم بوضوح دور الصحافة في المجتمع وأهميتها كسلطة رابعة تراقب على السلطات التنفيذية والقضائية والتشريعية، بل قد تتجاوز بدورها الفعال والكفؤ إحدى السلطات الثلاث وتحل محلها، في حال تقصير إحداها في بأدائها وواجبتها تجاه المجتمع، التزاما منها بالمسؤولية المجتمعية والوطنية الملقاة على عاتقها، والقوة الذي قد تمنحها الصحافة الرصينة للشعب في تغيير القرارات والحكومات وسياساتها العامة، فالحقيقة هي الهدف الأسمى للصحافة بالرغم من انعكاساتها المجتمعية. 

بحث الفيلم كمادة إعلامية من خلال سيناريو متقن عددًا من القضايا الجدلية وآليات تشخيصها بطريقة صحيحة، محاولا وضع القضايا الأساسية في سياقها الطبيعي وإعادتها إلى مرجعها الأصلي، فرغم اختراق القانون والتحايل عليه، وطغيان سلطات الكنيسة بعلاقتها مع المنظومة القضائية كسلطة مركزية في المجتمع الأميركي، فدور الصحافي شكل باعثا مهما في موازنة العلاقات المؤسساتية ما بين المجتمع ومؤسساته. 

ومكنت بنية النظام مجموعة من الصحفيين المحترفين في "جلوبل"، من الوصول إلى الحقيقة ووضعها أمام الجمهور، ليعبر عن المستوى العالي للصحافة المهنية والاستقصائية في المجتمع الأميركي كنموذج عالمي يحتذى به، ففكرة البحث عن الحقيقية بحد ذاتها هي الفكرة الأسمى والأعلى شأنًا، التي لا يمكن الوصول إليها عبر قصة أو رواية واحدة أو في قالب صحفي واحد، وهذا ما أظهره الفيلم في مشهديته الاخيرة المتمثلة بالكم الهائل من الاتصالات التي باتت ترد للجريدة بشأن موضوع التحقيق الاصلي، وما احتواه من معلومات وقصص مختلفة تمكن الصحافة من تغيير الانطباعات وآليات التعاطي معها من قبل الجمهور كشريحة مستهدفة ومستفيدة. 

يثير الفيلم فضول المشاهد للتفكير في موضوع الصحافة الورقية وكيفية صمودها واستمرارها وقدرتها الحفاظ على القراء التقليدين، وإمكانية جذب متابعين وقراء جدد، فاستطاع الفيلم ان يركز الصورة على الإدارة الإعلامية وسياساتها التنفيذية لتحقيق الارباح المادية والحفاظ على العناصر الأساسية للصحافة الاستقصائية الرصينة، مظهرًا المعادلة الطردية في ذلك، والمتمثلة في أنه كلما زادت المهنية المستندة على الحيادية والموضوعية زادت المصداقية، ما سيرفع من الجماهيرية، وبالتالي ارتفاع مبيعاتها، ما سيقود المعلنيين للاستثمار فيها. وهذا ما أظهرته المادة السينمائية من خلال انطلاق الشاحنات المحملة بالإعداد الوراقية وانهماك القراء التقليدين وغيرهم في قراءة التحقيق والتفاعل مع معلوماته. 

في عالم اليوم، ينظر إلى العمل الأعلامي كصناعة تدر ربحًا، فجهورها يتمثل في كيفية خلق رأسمال اعلامي، وهي المعضلة الحقيقية التي تفرض ذاتها اليوم أمام الإعلام بأنواعه ومضامينه في أنحاء العالم، التي تحتم على صانع السياسة الإعلامية النظر إلى المادة الاعلامية كمنتج استهلاكي يعود بريع ماديا وفق معايير وانظمة السوق، انطلاقا من مبدأ الربح والخسارة والقدرة على المنافسة والصمود والاستمرار، وما يرافقها من معرفة مستندة للحقيقة، مستندين الى اهمية المؤسسة الورقية الاعلامية في التغطية الاعلامية المتخصصة والعميقة، فليس من السهل ان ان تجد تحقيقيا صحفيا معمقا في الإعلام الاجتماعي، فالإعلام الاجتماعي بمزاته الايجابية والمتمثلة بالسرعة والسهولة والآنية والمجانية، إلا أنه ليس المكان المناسب لنشر التحقيق الصحفي، فجمهور الإعلام الحديث لا يبحث عن الحقيقية والمعرفة بقدر ما يبحث عن المعلومة والتسلية. 

وأظهر الفيلم التناقضات ما بين السياسات المنتهجة والممارسات الفعلية، عبر مشاهدية بحث الدور النظري للكنيسة وممارستها الفعلية. ومحاولة المواءمة ما بين الدور النظري للصحافة في المجتمع وما يوازي ذلك من سياسات وممارسات في المؤسسات الإعلامية، وآليات اتخاذ القرار داخل المؤسسة الاعلامية استنادا لخبرات ومعلومات هيئة التحرير كصانع قرار جماعي، فالخلافات في وجة النظر الداخلية لا تظهر في السياسة التحريرية والإعلامية العامة، التي تهدف بمحصلتها الى خدمة المؤسسة والصالح العام معًا. 

amm
Developed by: MONGID | Software House الحقوق محفوظة مفوضية الإعلام والثقافة © 2025