مؤسسة عبد المحسن القطان في عامها العشرين.. التحديات والفرص
نشر بتاريخ: 2018-06-26 الساعة: 09:42رام الله- الايام- عمر القطان- هناك مفارقة في مؤسسة عبد المحسن القطَّان بين الرغبة في اتباع نهج تقدمي، وبين الحاجة إلى ملاءمة الظروف السياسية القمعية والاجتماعية المحافظة التي تحيط بها. فهي بطبيعتها مخالفة، لكنها براغماتية بحكم ظروف عملها. وربما يعكس هذا التناقض شخصية مؤسسها، والدي عبد المحسن القطَّان، وتجربته في المنفى والتهجير القسري. عايش أبي حقبة الصراع المناهض للاستعمار والمعادي للصهيونية، التي كانت مشبّعة بمثاليات الثورات الاجتماعية، التي غمرت العالم العربي بعد الاستقلال، كما أجبرته ظروف عائلته المحدودة، في أعقاب النكبة، على التخلي عن دراساته في العلوم السياسية لصالح إدارة الأعمال. ثم اضطر إلى البحث عن عمل في الكويت، البلد الذي احتضنته، ليصبح بعد ذلك رجل أعمال ناجحاً. لكن هذا لم يؤثر على التزامه الشديد بكفاح شعبه للحفاظ على ثقافته وهويته ونضاله من أجل تحرير وطنه. لقد تطلبت منه هذه الظروف التحلي بالشجاعة والتصميم، إضافةً إلى المرونة، واحتضانه، ثم تجاوزه التناقضات - الفكر التقدمي مقابل البراغماتية المحافظة، ومحاربة التخلف مقابل حب التراث، ونهج المشاركة السياسية والاجتماعية مقابل العمل التجاري، والأمل مقابل اليأس – هو ما سيميز مسار حياته كلها.
في أعقاب حرب الخليج الأولى، علّق على أحد هذه التناقضات المستعصية التي عصفت به طوال العقود الثلاثة الأخيرة من حياته: "أنا لا أفهم"، قال في أحد الأيام أوائل التسعينيات، كيف يمكن للعالم العربي الذي يملك التاريخ والثقافة والموارد الطبيعية، والنسبة الكبيرة من المتعلمين، ويقع في قلب العالم، أن يستسلم للفوضى والدمار؟! أعتقد أننا بحاجة إلى تغيير ثقافي عميق وثورة في القيم والأخلاق". هذه المقولة البسيطة التي تحمل في طيّاتها كل مشاعر الإحباط والغضب والنقد الذاتي، وضعت الحجر الأساس لمؤسسة عبد المحسن القطان، الإنجاز الذي افتخر به والدي أكثر من كل إنجازاته الأخرى.
ولطالما تحدث بإعجاب شديد عن فاعلي الخير الرياديين، خاصة جون هارفارد؛ القسّ الإنكليزي الذي منح الجامعة المعروفة عالمياً اسمه، دون أن تطأ قدماه أرض الولايات المتحدة. في بداية التسعينيات وجد أبي اللحظة مواتية ليقوم هو نفسه بإطلاق مؤسسة مماثلة في وطنه المحتلّ. كان في منتصف ستينياته، مدعوماً بنجاحاته الكبيرة في مجال المقاولات، وقد أصبح قادراً على تخصيص موارده الشخصية لتأسيس مشروع خيري، يحاول من خلاله معالجة المأزق الثقافي والأخلاقي الذي يؤرّقه. وجاء رفع بعض القيود المفروضة على السفر إلى فلسطين بعد توقيع اتفاقية أوسلو للسلام في العام 1994، ليمنحه فرصة العودة إلى وطنه بشكل فعلي، والبدء بتنفيذ أحلامه كما كان يطمح.
إلا أن السؤال الذي طرحه على نفسه منذ البداية كان: ما هو المشروع الذي بإمكانه إحداث تغيير نوعي ومختلف كالذي يطمح إليه؟ مشروع قابل للتحقق في تلك الظروف! لا بدّ من التذكير هنا، بأنه، وعلى مدى السنوات التي سبقت تلك اللحظة، وبعد أن تحسّنت أحواله المادية في سبعينيات القرن الماضي، كان أبي ووالدتي ليلى مقدادي، يقدّمان الدعم بحماسة كبيرة لعشرات الطّلاب والكتّاب والفنانين والمؤسّسات، بما في ذلك مؤسّسة الدراسات الفلسطينية، ومؤسّسة التعاون، اللتان شارك في تأسيسهما.
الإجابة كانت عبر تأسيس عائلتنا مؤسسةً مستقلة، مدعّمةً بوقفية توفر لها الاستمرارية المالية، تتخطى نهج التمويل العشوائي، وتعمل في فلسطين نفسها (ولاحقاً في لبنان وبريطانيا)، دون التدخّل السياسي أو المالي من أي طرف، وتصنع نموذجاً للاكتفاء الذاتي، خاصة في أجواء ما بعد أوسلو، حيث فُتح الباب بسخاء لمساعدات دولية هائلة تم ضخّها في الأراضي الفلسطينية، ما خلق في كثير من الأحيان ثقافة تقوم على الاتكال والتبعية.
في السنوات الأولى من تأسيس مؤسسة عبد المحسن القطان، كنا مجموعة صغيرة من أفراد شغوفين، يملكون رؤى وأفكاراً غنية ومتنوعة. وقد أدركنا حينها أن أفضل السبل لإحداث الإصلاح في الأخلاق والقيم، الذي تمناه والدي، من الممكن أن يأتي عبر قطاعي التعليم والثقافة.
ولكن مهما بلغ بنا الطموح، كان لا بدّ من إدارة التوقعات، فلم يكن هدف المؤسسة على الإطلاق أن تحلّ محلّ الهيئات الرسمية، أو أن تعمل كدائرة حكوميّة، وحاولنا التقليل من سقف التوقعات حتى لا نخيب آمال المستفيدين المستقبليين من برامجنا. إلا أن هذا لم يقلّل من حماستنا على الإطلاق، فمقاومة الأفكار النيّرة يبدو مستحيلاً! وهذا ينطبق على المؤسسات المجتمعية التي تعمل من أجل الصالح العام تحديداً، وبالطبع تلك التي تسعى من أجل الثقافة والتعليم.
أصبح متداولاً في السرد الجمعي الفلسطيني اليوم، أن الجيل الأول من اللاجئين، كان مهووساً بموضوع التعليم، ولهذا تفسير منطقي بالطبع! فبعد النكبة، التي هُجِّر إثرها أكثر من 750000 فلسطيني من بلادهم، كان للرجل أو المرأة المتعلمين، فرصة لتحقيق الذات في المنافي التي انتهوا إليها، وكان التعليم تذكرتهم للخروج من المخيمات.
انتمى والداي إلى الجيل الأول من اللاجئين، الذين بدؤوا حياتهم المهنية كمعلّمين. في أوائل خمسينيات القرن العشرين، كان درويش مقدادي، جدّي لأمي (وهو أيضاً لاجئ من بلدة طولكرم)، يستقطب المعلّمين والمعلّمات للعمل في الكويت، التي كانت تشهد حينها ازدهاراً ملحوظاً في نظامها التعليمي. يبدو أن جدّي أُعجب بوالدي كثيراً، فعرّفه إلى ابنته ليلى، التي أصبحت هي، أيضاً، معلمة فيما بعد. إذاً، كان التعليم هو السبب الأساس في لقاء والديَّ، وهو ما أثّر بمصيرهما لاحقاً. فلم يكن بالنسبة لكليهما مجرّد انشغال مهني أو عملي، بل كان أيضاً مبرراً لمشروع حياتهما الوجودية والزوجية.
فضلاً عن التعليم، كانت فلسطين هي مركز حياة والدَيَّ، لكن في التسعينيات، وهما في الطريق لمنفاهما القسري الثالث على التوالي (الأول من فلسطين، ثم من لبنان، ثم أخيراً من الكويت الذي كان والحمد لله قصيراً)، شعر والدايَّ، كما شعر الكثير من أبناء جيلهما، بالهزيمة والإحباط حيال المصير المرعب الذي آل إليه العالم العربي (الأسوأ لم يكن قد أتى بعدُ للأسف)! ومن الجدير بالذكر هنا أن والدِي كان قد ترأس المجلس الوطني الفلسطيني لمدة سنتين في أواخر الستينيات قبل أن يستقيل من المنصب؛ احتجاجاً على رفض فصائل منظمة التحرير الفلسطينية إنشاء قيادة عسكرية ومالية موحّدة. كما استقال بشكل نهائي في العام 1991 من عضوية المجلس الوطني؛ احتجاجاً على دعم منظمة التحرير الفلسطينية لغزو صدام حسين الكارثي للكويت. إذاً، يمكن القول: إن السياسة، حتى تلك الفترة، كانت مصدر إحباط وخيبة أمل، على أقل تقدير. كيف يمكن إذاً المساهمة بالكفاح في سبيل الحقوق الفلسطينية، خارج نطاق السياسة؟ بدا لنا حينها أن الالتزام طويل المدى بالتعليم والثقافة، يمكن أن يوفر الوسيلة الأكثر نجاعة لتحقيق ذلك.
ومع هذا، كان الوضع السياسي والثقافي والاجتماعي في فلسطين، عام 1998، هشاً للغاية. نظام تعليمي ضعيف، وجيل شبه متعلم؛ مع انقسام عقائدي عنيف بين رؤيتين منفصلتين؛
وجيل متعب من سنوات انعدام الأمان والمواجهة الدامية مع جيش الاحتلال الذي لا يرحم، ولعل الأمر الأكثر تحدياً هو المشهد السياسي الذي احتوى على "سلطة" متهالكة، ومعارضة سياسية منظمة تنظيماً جيداً مع نظرة رجعية ومحافظة. وبالنسبة لعائلة واحدة، تملك موارد محدودة، وليس لها قاعدة أو سلطة سياسية، فإن السياق كان يمثل تحدياً كبيراً بالنسبة لنا. فكيف يمكننا أن نبدأ حتى بمعالجة كل هذه التعقيدات، بطريقة مجدية؟
النضال من أجل فلسطين، لم يكن محصوراً على الكفاح السياسي فقط، وما زال كذلك. فانطلاقاً من سؤال أبي الجوهري حول السبب الذي جعل الوطن العربي غير قادر على خلق مجتمع مزدهر ومتحرّر، رغم امتلاكه الكثيرَ من المقومات التي تمكّنه من ذلك، قرّرنا البدء من الصفر، كما لو أن كل ما هو موجود بحاجة إلى إعادة نظر، استعداداً لانطلاقة جديدة.
لذلك، انشغلنا، منذ البداية، بمحاولة التأثير على الجيل الجديد، بالتركيز على الأطفال والشباب.
وعلى الرغم من ذلك، فإن وراء هذا المجال الذي يبدو وكأنه خالٍ من التعقيدات، ظهر واقع بعيد جداً عن البساطة، حيث إرث من القمع الوحشي من الانتفاضة الأولى (1987-1993)، وحيث الكثير من الأطفال تعرضوا للقتل والإصابة والاعتقال، من جيش الاحتلال، في الوقت الذي تم وسمهم بشعارات بطولية من قبل أبناء شعبهم، تحت شعار "أطفال الحجارة"، دون الانتباه للصدمة التي يمكن أن يسببها هذا الخليط من العنف وأوهام النصر. كذلك عانى جيل كامل من الطلاب والطالبات من انقطاعات التعليم المتواترة في لبنان؛ بسبب الحرب الأهلية في الفترة ما بين (1975-1991)، وكذلك في الأراضي المحتلة بسبب الإغلاق المتكرّر للمدارس الذي فرضه جيش الاحتلال خلال الانتفاضة الأولى (1987-1993). وهنا يمكن الإشارة إلى أنه بعد منتصف التسعينيات، فقدت أسطورة الفلسطيني المتعلّم، التي كانت منتشرة في الستينيات والسبعينيات والثمانينيات، مصداقيتها.
فضلاً عن ذلك، كان ولا يزال أحد أهدافنا الأساسية، أن نكون مؤسسة وطنية تخدم جميع الفلسطينيين في أي مكان وجدوا فيه، معترفين بأهمية الشتات والتراث المشترك بين فلسطين والعالم العربي، والتأثير الهائل للتبادل الثقافي بين الفلسطينيين والثقافات والشعوب الأخرى. لكننا أردنا في الوقت نفسه أن نحافظ على كوننا مؤسسة مبتكرة ونقدية، "محايدة" سياسياً، ولكنها تقدّمية فكرياً، وهذه ليست مهمة سهلة، حتى في الظروف العادية.
كبرت طموحاتنا، أحياناً بوتيرة سريعة. كنا مدركين أن قطاعي الثقافة والتعليم منحا فلسطين أحد أهم سفرائها في العالم، وأصبح كثيرون منهم روّاداً في ميادين عملهم عربياً ودولياً. كذلك كنا بحاجة إلى خلق أدوات تُمكّن أجيال الفلسطينيين المهاجرين، المشتتين في أنحاء العالم، من التواصل فيما بينهم، من أجل تعزيز شعورهم بالتماسك والانتماء الوطني، وجمع الفلسطينيين في الداخل والخارج، للتفكير والتعلم والاحتفاء بما يشتركون به. والأهم من كل ذلك، أننا كنا مؤمنين بقدرة الثقافة والتعليم على خلق أدوات لتحرر الفرد، وتمكين النساء والأطفال والمجتمع ككلّ. وطبعاً لا يمكن لهذا أن يتحقّق إلا باتّباع نهجٍ تقدمي في التعليم والتربية.
لكن الثمانينيات وبداية التسعينيات جاءت لتعمق التحديات التي علينا مواجهتها. فلم يكن من السهل تجاهل تضاعف نفوذ الإسلام السياسي في العالم العربي. في فلسطين، أيضاً، بدأت جماعة الإخوان المسلمين كحركة غير مسلّحة وهامشية، مع توجهات متواضعة للمواجهة مع قوات الاحتلال الإسرائيلي. لكن، خلال الانتفاضة الأولى، ظهر جيلٌ ثانٍ من الإسلاميين أكثر تمرّداً وثباتاً، سرعان ما فرض نفسه على الحياة الثقافية والسياسية الفلسطينية، وعلى قطاعات واسعة من المجتمع، وملأ الفجوات التي خلّفتها الحركات العلمانية القومية، التي فقدت مكانتها مع الزمن.
إذاً، كان علينا أن نطرح على أنفسنا السؤال التالي: ما هي المؤسسة الوطنية العلمانية غير الطائفية، القادرة على مواجهة مجتمع يتحرك باتجاه أيديولوجي معاكس لها؟ في البداية، وفّرت أوسلو راحة مؤقتة للصراع الأيديولوجي الذي كان يلوح في الأفق، والذي سرعان ما أفجع فلسطين. ولكن هذا الصراع لم يُحسم بأوسلو، على العكس، لقد استمرّ الانقسام بين حركتي "حماس" و"فتح"، وظهرت الحروب الأهلية الدموية في المنطقة لاحقاً. ولا شك أن استمرار التباين العميق بين هاتين الرؤيتين، المتناقضتين في الوطن العربي كما في فلسطين، دون إيجاد إطار مناسب للتعايش أو تأسيس لعقد سياسي واجتماعي يلائم جميع المواطنين ويحفظ حقوقهم، سيُبقيه بعيداً جداً عن ابتكار مشروعه المدني التقدمي الشامل.
ربما كان التفكير بقدرتنا على معالجة قضايا كهذه ساذجاً وواهماً، فكيف لنا أن نحاول حلحلة هذه المصاعب والتحديات سوى بشكل سطحي؟ لكن حماس الأصدقاء والزملاء، والجمهور عامّةً، وتشجيعهم، ملأنا بالثقة للمضي قُدماً بغض النظر عن المعيقات. وقد ساعدتنا عوامل عدة في إقناع الآخرين بل وفي إلهامهم، منها تسخير مواردنا المالية الخاصة من أجل الحفاظ على استقلالية المؤسسة (موّلت المؤسسة بالكامل من قبل العائلة في السنوات العشر الأولى على تأسيسها)؛ وقبول التبرعات الأجنبية فقط إذا كانت غير مشروطة لتوسيع نطاق العمل، في الوقت الذي تنازلت فيه العديد من المؤسسات المحلية وقبلت بالمساومة؛ وتركيزنا على الأطفال والمعلمين والفنانين الشباب؛ ورعايتنا للمواهب التي طالما تم إهمالها - كل هذه العوامل كانت سبباً في كسب ثقة الجمهور المحيط بنا.
لكن، ما أن بدأنا بالعمل، حتى ظهرت تحديات جديدة أفرزها انطلاق الانتفاضة الثانية في أواخر صيف العام 2000، تلتها سنوات من العنف والتقسيمات الجغرافيّة والحواجز وإعاقة الحركة والتردّي الاقتصادي والإذلال الجماعي الذي فرضه الاحتلال الإسرائيلي، وتفاقم معه فشلنا السياسي والاجتماعي.
خلال الثماني عشرة سنةً الماضية، نما عند العديد من الشباب الفلسطينيين يأس وخيبة أمل هائلة من كل ما يحدث. الانقسامات والفجوات الجغرافيّة والثقافيّة تضاعفت بين المدن والقرى والمخيّمات؛ نملك اليوم نظامين للتعليم الرسمي بدل نظام واحد، وسلطتين منفصلتين تماماً.
العديد من الفلسطينيين لم ولن يروا البحر أو حتى القدس عاصمة وطنهم، الكثيرون لا يستطيعون السفر إلى الخارج، والملايين لا يتمكنون من زيارة وطنهم الأم. في قطاع غزة يعيش مليونا مواطن تحت حصار إسرائيليٍ خانق، يتركهم في ظروف معيشية من العصور الوسطى، مع ندرة المياه النظيفة، وخدمة متقطعة للكهرباء. ناهيك عن الأحداث المأساوية التي وقعت منذ العام 2011 ودمّرت حياة الملايين في سورية وليبيا واليمن والعراق وأجبرتهم على ترك ديارهم – وتداعيات ذلك على القضية الفلسطينية التي أصبحت مهمّشة وتحوّلت من قضية مركزية في وجدان الوطن العربي إلى موضوع ثانوي. وهكذا، فإن النسيج الحساس الذي كنا نعايشه أواخر التسعينيات، تهتّك الآن تماماً.
يبقى السؤال الذي يجب طرحه الآن هو: هل نجحنا؟ وكيف يمكن قياس النجاح عندما يتعلق الأمر بعمل المؤسسات غير الحكومية، كما هو الحال في مؤسساتنا العاملة في بلد محتل؟
في السنوات الأولى من الانتفاضة الثانية، لا سيما في العامين 2002 و2003، دمّرت إسرائيل مؤسسات السلطة الفلسطينية، أو أسكتتها، فأصبح وجود مؤسسة وطنية مستقلة يوفّر شرياناً حيوياً للحياة ورمزاً للتحدي والصمود الوطني؛ سواء أكان ذلك للفلسطينيين أم لمناصريهم. وعلى الرغم من التحول الكارثي للأحداث في فلسطين والمنطقة منذ ذلك الحين، فإن الإنجازات التي حققها زملائي في المؤسسة كانت هائلة. برنامج البحث والتطوير التربوي، مثلاً، ينظم تبادلات مدرسية دولية ومحلية منتظمة، ويفتح مدرسة صيفية سنويّة متخصّصة باستخدام الدراما في التعليم. كما يُصدر واحدة من المجلات التربويّة التعليميّة العربيّة الأكثر تميّزاً، وينظّم برامج تدريبيّة للمعلمين والمعلمات على مدار العام في جميع أنحاء الوطن، بمجالات متنوعة وحديثة، مثل: الرسوم المتحركة ثنائية الأبعاد، والتعلم القائم على المشروع، والتعلم القائم على البحث، والتاريخ الشفهي، والوعي البيئي، وتدريس التاريخ، وإدارة الفصول الصفيّة، والتعليم في مرحلة الطفولة المبكرة، على سبيل المثال لا الحصر. ومنذ العام 2011، طوّر البرنامج مشروعاً طموحاً لتدريس العلوم تُوّج، مؤخراً، في افتتاح أستوديو متخصص بفنون العلوم، بهدف تصميم وتصنيع معروضات علمية تفاعلية.
في مدينة غزة، يُعتبر مركز الطفل ملاذاً حقيقياً، وسط الدمار الاجتماعي والبيئي والتعليمي هناك. يضم المركز مكتبة ومسرحاً ومختبراً لتكنولوجيا المعلومات، ومختبراً للعلوم، ومجموعة متنوعة من النوادي والأنشطة التي يستخدمها آلاف الأطفال كل عام. كما أن للمركز برامجَ تمتدّ على نطاق أوسع، ليصل بها إلى جميع أنحاء القطاع، بما في ذلك المكتبة المتنقلة، التي تدعم عشرات المكتبات المدرسية والعاملين فيها.
وأخيراً وليس آخراً، لم يكن الفنانون والكتاب والمؤدون الفلسطينيون ليحظوا بتلك النجاحات المحلية والدولية والتدريب والترويج الذي حصلوا عليه في العقد الأخير لولا برنامج الثقافة والفنون، كذلك البرامج التي تقدمها قاعات الموزاييك التي تأسست عام 2008 في لندن، وأصبحت واحدة من أهم مراكز الثقافة العربية المعاصرة الرائدة في الغرب. ولا يمكن أن ننسى برنامجنا الصغير نسبياً، ولكن الفعال في لبنان، الذي يدعم المشاريع الثقافية هناك، ويربط، منذ العام 2011، الفنانين الفلسطينيين واللبنانيين (وحديثاً السوريين) الشباب، للعمل معاً.
واليوم نحن فخورون بالاحتفال بافتتاح المبنى الجديد في رام الله، الذي سيكون مقراً للمؤسسة وسيخدم المجتمع المحلي.
كان التزامنا الرئيس، منذ البداية كمؤسسة وطنية، أن نعمل وفقاً للأسس الاستشارية والديمقراطية. مؤسسة عبد المحسن القطان هي من المؤسسات القليلة في المنطقة، على حد علمي، التي لا هيمنة فيها على صنع القرار، فهي تعمل في أربع مناطق جغرافيّة منفصلة (الضفة الغربية، غزة، لبنان، المملكة المتحدة). واليوم، بعد ما يقرب من 19 عاماً من العمل، نحن في طريقنا إلى أن نكون مؤسسة أهلية بشكل فعلي، تملك مجلس أمناء مستقلاً، يضمن الاستقرار والديمومة. ليصبح دور عائلة القطان في المستقبل القريب، دوراً ائتمانياً بحتاً.
ولكن ما زال هناك العديد من الأسئلة والتحديات الملحة، هل تم "التساهل" معنا لأننا لم نشكل تهديداً لأحد، ولا حتى بالمعنى الأخلاقي أو السياسي؟ وإذا كان الأمر كذلك، فهل يعني هذا أننا دون أهمية فعلية، ولسنا أكثر من نخبة مهمّشة سمح لها الإسرائيليون بالعيش في جزر معزولة، من أجل الإبقاء على الصورة الوردية لمظاهر الحياة الطبيعية في فلسطين؟ هل كنا حُجّة الإسرائيليين التضليليّة في الظهور بشكل مثالي أمام العالم، مجرد مؤسسة عامة ليبرالية تعكس واقع قطاع الأعمال الفلسطيني "النيوليبرالي" الذي تتسامح إسرائيل مع وجوده؟ هل نحن متواطئون في الحفاظ على الوضع القائم في فلسطين من خلال ضخ الأموال والموارد من الخارج إلى داخل البلاد؛ ذلك الوضع الذي يُفجع حياة الغالبية العظمى من الفلسطينيين؟
لا أستطيع الإجابة عن هذه الأسئلة بشكل قطعي، لكنني أعلم أنّنا معرضون للخطر - كشعب، وبطبيعة الحال، كمؤسسة. إنّ عمل المظلومين والمضطهدين دائماً ما يكون ضعيفاً وهشّاً، حتى لو كان يتمتع بغطاء من الثروة والاستقرار كما هو الحال مع مؤسسة عبد المحسن القطَّان، ففي النهاية نشترك جميعاً في حالة معظم الفلسطينيين الحالية من انعدام الأمن والأمان. ولكنني أعلم أنه من أجل المضي قُدماً نحو مرحلة جديدة، تعكس على نحو أفضل الحاضر والمستقبل وتستجيب لمتطلباته، علينا أن نحافظ على المرونة والحيوية والتفكير الإستراتيجي، وهذا يتطلّب الاستفادة القصوى مما نملكه، مع الحفاظ على التواضع، والتعامل بحكمة بما نملكه من موارد.
نحن نعلم أن قطاعاً واسعاً من المنتمين إلى الحركة الصهيونية يحلم باختفاء الفلسطينيين عن وجه الأرض، وأن هذا الحلم موجود ويتوسع، وهذا سيشملنا نحن كمؤسسة أيضاً. والحق يقال: إنه بالنسبة لبعض الفلسطينيين، أيضاً، قد يبدو وجودنا أحياناً ترفاً لا مبرر له، وهناك من يذهب إلى أبعد من ذلك ربما، إلى اتهامنا بنشر ما هو بعيد عن الروح الفلسطينية والعربية المحافظة.
لكن المستقبل يحمل لنا، أيضاً، إمكانياتٍ كبيرة. ونحن، شأننا شأن شعوب المنطقة الأخرى، مجتمع فتي، وممتلئ بالأمل والطموح والريادة. الانقسام الناجم عن الحرب والتشرّد والنفي فشل في محونا، واستطعنا دائماً التماسك من جديد كمجتمع، حتى لو اختبرنا ذلك بفظاعة وعنف. وأنا أؤمن أن كل ما حدث حتى الآن، أحدث فينا تغييراً عميقاً، ما سيسمح ببروز نهج أكثر ديناميكية لمواجهة تحديات التحرير والتحرر. وبغضّ النظر عمّا إذا كان ما أؤمن به صحيحاً أم لا، فإن القمع والحرب قد فشلا بالتأكيد في إضعاف رغبتنا في التعلم والإبداع والابتكار.
لكننا نعي أيضاً، أنّنا اليوم في أزمة عميقة على الصعيد الوطني والإقليمي والدولي. إذاً، هل يجب على المؤسسة تغيير مسارها والتركيز على الأمور الأكثر إلحاحاً؟ وهل ينبغي أن تقتصر مواردها على منطقة معينة، بدلاً من العمل على نطاق جغرافي واسع؟ وهل ينبغي أن يصبح عمل المؤسسة أكثر تركيزاً ومباشرة في محاولة التأثير على السياسات الوطنية، في نطاقات شائكة، مثل: العدالة الاجتماعية والاقتصادية والمساواة، وفصل الدين عن الدولة، والمساواة بين الجنسين والديمقراطية وحرية التعبير؟
هذه بعض الأسئلة التي تشغل زملائي وتؤرقهم باستمرار، فضلاً عن أصدقائنا والمستفيدين من برامجنا. من المهم أن نواصل طرح هذه الأسئلة، ومناقشتها علناً، من أجل الخروج بأفكار وحلولٍ جديدة. فبعد عقدين تقريباً من بداية عملنا، يجب أن تظلّ قدرتنا على مواكبة وتوقع المستقبل هدفاً أساسياً. وهذا يتطلب مؤسسة قادرة على النقد الذاتي والتجديد، وقوية بما فيه الكفاية للترحيب بالتغيير واستيعابه دون خوفٍ أو تردد.
amm