الرئيسة/  ثقافة

"أرواح صخرات العسل" لممدوح عزام .. الموت وحده من يعيش في سورية الآن !

نشر بتاريخ: 2018-06-26 الساعة: 09:41

رام الله- الايام- "لم يعد الموت حقاً بل واجباً"، لعل هذا ما أراد الروائي السوري ممدوح عزام قوله في روايته حديثة الإصدار "أرواح صخرات العسل"، الصادرة عن "سرد" (دار ممدوح عدوان للنشر والتوزيع)، عبر حكايات الأصدقاء عابد وحامد وخالد، أبناء قرية "المنارة" بالقرب من السويداء التي هي مسقط رأس الكاتب أصلاً، ليروي عبر مسيرة الثلاثة حكاية شعب بأكمله دفعه لكتابتها راوٍ مجهول الهوية بات عليماً عبر مصدرين لمعلوماته هما: نائل الجوف ابن ذات القرية، الذي حرّض الراوي على رصد حيوات الأصدقاء الثلاثة، وأحمد الشايب الملقب بـ"أحمد لديّ مصادري"، لكونه كان ينسب معلوماته لمصادر يرفض الكشف عنها، وهو صاحب "الصداقة المتصدعة" مع الثلاثي على عكس الجوف.

نقطة التحول التي دفعت شخصية نائل الجوف لتحريض الراوي مجهول الهوية على الكتابة، والذي برأيي قد يكون هو ممدوح عزام ذاته، هي نبوءة أو حلم عابد، حين كان في الرابعة عشرة من عمره، بأنه سيموت بعد ثماني سنوات وشهرين، إلا أنه يموت بفارق شهر عن "الكابوس"، أي بعد ثماني سنوات وثلاثة أشهر، وفي ذات المكان المنظور عند "صخرات العسل"، في وقت يسير فيه الموت في الطرقات والأزقة في كل ركن بسورية فارداً جناحيه، وفاغراً فاه بأسنانه الحادة لالتقاط فرائسه التي تنتظر.

ببراعة على مستوى السرد واللغة والتصوير، يدخلنا عزام في أتون "الحروب الصغيرة الكبيرة"، الحروب اليومية للصغار الثلاثة، مع آباء قساة، ومدير مدرسة يتلذذ بضربهم، وطلاب عنيفين كردة فعل، هؤلاء الثلاثة الذين تجمعوا لحماية أنفسهم من بطش أترابهم ومن هم أكبر سناً.

والد خالد، وفي اليوم الأول للمدرسة خاطب المدير بأن "إلك اللحم وإلنا العظم"، وهي الصورة التي تشكلت في خيالات الطفل، وأحالت المدير وأي معلم إلى جزار يمارس مهنته في جرم "لحم فخذه للشواء أو طبخ الفاصولياء"، وكأنه خروف أو عجل، هذا الأب الذي كان يغيب للعمل في ليبيا، تاركاً مهمة رعايته للأم وشقيقته التي تكبره بكثير.

أما عابد فعانى ليس فقط من المدير بل من بطش والده، الذي كثيراً ما كسر له أضلعاً، وكانت علامات عنف الأب تظهر بوضوح على جسد الولد الصغير، الذي كان قصف أميركا للعراق نقطة تحول أخرى في علاقته بأبيه، وتوجهه إلى حيث "صخرات العسل"، فالمدرسة، ومع بدء قصف القوات الأميركية لبغداد العام 2003، طالبت الطلاب بالمغادرة، فدهم الطفل المنزل مبكراً على غير العادة ليفجع بمشهد والده وهو في وضع حميمي جداً مع خالته .. هناك هرع إلى "الصخرات"، وبدأت موجة أكثر عنفاً من الأب بعد الحادثة، ما دفع عابد إلى الارتماء في أحضان والدة صديقه حامد (حليمة)، التي حمته وابنها وخالد، وواصلت هذه الرعاية حتى "النهاية".

هؤلاء الأطفال المرّوعون بالعنف، يعكسون عبر حيواتهم حكايات جيل كامل في سورية، على ما يبدو، جيل، كما صورته الرواية، لم يمنع البطش من إقامته لعلاقات حب طفولية، أو حب مراهقة، لم تكتمل، لتبقى "صخرات العسل"، التي هي على طرف القرية، ملاذاً بالنسبة لهم: لطقوسهم، لأسرارهم، ليومياتهم التي لا يعرفها غيرهم، ولأغنياتهم، وغيرها.

لا ينسى عابد "الأزعر" زيتون أبو طرة، الذي تعرض له برفقة "عصابته" ممن يكبرونه سناً، يطلبون منه تحت طائلة التهديد والوعيد ترديد عبارة "عاش زيتون"، فيرفض، وعليه يشبعونه ضرباً، ليأتي والده ويشبعه، من بعدهم، تأنيباً بأن كان عليه الرضوخ لزيتون وجماعته كي لا يتعرض للضرب.

ما بعد أحداث العام 2011، يتحول رمزا العنف في حياة الثلاثي إلى قادة سياسيين وميدانيين، لكل قوته وجماعته بل وميليشياته العسكرية المسلحة .. قد يختلفون، وقد يتحالفون، ولكنهم لا يتصارعون، والشعب هو من يدفع الثمن، وأقصد هنا مدير المدرسة "برهان العلمي" و"زيتون أبو طرة"، حيث كانا من أوائل المسلحين قبل حتى أن تصل "الثورة" إلى قريتهم.

في تلك الفترة يطلب خالد للتجنيد الإجباري في الجيش السوري، عقب رفضه طلب المدير العلمي الانضمام رسمياً للحزب، في حين يتوجه عابد وحامد للعمل في السويداء كحراس لمنشآت متعددة، أملا في حمايتها من الفوضى.

في البداية ابتعد الشبان الثلاثة عن أي عمل سياسي وحزبي بسبب صدامهم الدائم مع زيتون أبو طرة .. مات خالد في الحرب، ورحلت هيفاء (معشوقة خالد) إلى الكويت حيث يعمل والدها، وبرهان العلمي (مدير المدرسة) أصبح عضواً في الجيش وحمل السلاح، أما حليمة، وبعد التدهور النفسي لكل من صديقي ولدها عابد وحامد، باعت سواراً ذهبياً يخصها، واستأجرت متجراً لهما في المدينة، وما أفرحهما قرار شقيقة صديقهما الراحل بالعمل معهما في ذات المتجر الذي تخصص في بيع منتجات تجميلية ونثريات.

لم تمض الأمور على ما يرام، حيث تم أخذ حامد عنوة إلى التجنيد، وعادوا به مقتولاً بعد ثلاثة أشهر، وهنا تزداد حياة كل من والدته حليمة، وصديقه صاحب نبوءة موته قتامة، هو الذي بقي وحيداً عند "صخرات العسل"، لا أحد يعلم ماذا يعمل، حتى تم العثور عليه، وقد فارق الحياة.

ولعل "الثورة" التي انقلبت بعد حين عنفاً من كل صوب وحدب، كما هو عنف "النظام"، انعكست بشكل إيجابي على صورة المرأة، ما بين ثمانينيات القرن الماضي، وما بعد 2011، عبر شخصيتي "حليمة"، وشقيقة خالد "سهى"، اللتين قدمتا صورة غير مستكينة كما كانت عليه قبلها، بل باتتا فاعلتين قويتين وداعمتين، لربما "رغماً عنهما"، ومن باب "شو جابرك على المر"، أو قد يكون رد فعل سيكولوجيا سوسيولوجيا لكل ما حدث ويحدث، فالقتل عنوان المرحلة بين المتصارعين الذين يرفع كل منهم شعار الوطن، وشعار "الانتصار لسورية"!

الرواية الموجعة المحبوكة بشكل يجبرك على إكمالها حتى نهايتها، رغم ابتعادها عن السطحية أو التسطيح، تفوح منها رائحة الموت الذي يسيطر على المشهد برمته، داخل الرواية وخارجها، فعلى القارئ تحسس أكفه مع قراءة كل صفحة خشية أن تتسلل دماء حمراء من بين الصفحات إلى يديه.

"أرواح صخرات العسل"، هي واحدة من الروايات المميزة عن الوجع السوري المتواصل، والذي لربما هو من أعاد عزام إلى الكتابة الروائية بعد سنوات من الانقطاع، وكأنه يتحسر على ماضٍ كان عنيفاً لكنه ليس بهذه الشاكلة التي هي عليه الأمور اليوم، حيث لا يعرف السوري من أين يأتيه الموت، وعلى يد من، وكيف .. لربما لا حاجة للتنبؤ كما فعل عابد، فالعيش لثماني سنوات وثلاثة أشهر أو شهرين، يبدو هذه الأيام "نعمة كبيرة"، أو إنجازاً لمن يبقون على قيد الحياة والوطن، فصرخات الثلاثي بأن "عاش الحب"، والتي تمنوها دائمة، لم تدم، فلم يعش الحب، ولم يعيشوا هم أيضاً .. الموت وحده من يعيش في سورية الآن. 

amm
Developed by: MONGID | Software House الحقوق محفوظة مفوضية الإعلام والثقافة © 2024