الرئيسة/  ثقافة

"هبة البراق" لهليل كوهين: نبش في أوراق 1929 كحدث مؤسس في تاريخ الصراع

نشر بتاريخ: 2018-06-05 الساعة: 09:29

رام الله- الايام - وصف الباحث الإسرائيلي هليل كوهين في كتابة "هبة البراق"، الصادر بترجمته العربية، وأنجزها سليم سلامة، عن المركز الفلسطيني للدراسات الإسرائيلية (مدار)، حديثاً، العام 1929 بـ"سنة الصدع بين اليهود والعرب" مخالفاً بذلك النهج الذي قام عليه الكثير من الدراسات بل والمدارس البحثية والأكاديمية بأن نقطة الارتكاز في الصراع الإسرائيلي العربي، أو الإسرائيلي الفلسطيني تعود إلى تداعيات النكبة في العام 1948، فهو يرى أن العام الذي شهد هبّة البراق قد يكون الأجدى في التعاطي معه كنقطة ارتكاز في هذا الاتجاه، ليس لكونه نقطة البداية الحقيقية للصراع، إنما لكونه العام الذي شهد تغيراً جذرياً في العلاقات بين اليهود والعرب في فلسطين، والعام الذي تسبب بتصميم وعي الجانبين لأعوام عديدة لاحقة.
كوهين، أستاذ تاريخ فلسطين في الجامعة العبرية في القدس، تحدث في كتابه عن خصوصية العام 1929، فقال: من غير الممكن فهم العلاقات بين اليهود والعرب في هذه البلاد دون فهم أحداث 1929 المعروفة باسم "هبّة البراق"، و"لأنه في شهر آب 1929، اصطدمت بقوة كبيرة مخاوف العرب وتطلعاتهم مع طموحات اليهود وإحباطاتهم، فخلفوا وراءهم، لأول مرة منذ بداية اللقاء اليهودي العربي، مئات الجثث المقطعة والمحروقة، وفي خضم المواجهة، ترسخت لدى كثيرين قناعة بأن ما يجري هو صراع دموي لا يحتمل.
وأضاف: ولأنه في إطار السجال الإسرائيلي حول "النزاع" ثمة من يتخذ احتلال العام 1967 نقطة انطلاق لفهم النزاع وحله، وثمة من يقترح نكبة عرب فلسطين وإقامة دولة إسرائيل في العام 1948 مرتكزاً، بينما أعتقد شخصياً أنه من الأجدى العودة إلى الوراء، إلى العام 1929، لأن الوعي الذي شكلته تلك السنة أثّر، بدرجة غير قليلة، على أداء القوات اليهودية في حرب 1948، كما أثر على الممارسة الإسرائيلية في المناطق بعد العام 1967، وخاصة في الخليل، لكن ليس فيها فقط.
وذهب كوهين في كتابه إلى أن "الهجمات على تجمعات يهودية خلال 1929، هي التي حولت "الييشوف" اليهودي في فلسطين أو أرض إسرائيل الانتدابية إلى ما صار، وهي التي اضطرت مجموعات يهودية بعيدة عن الحركة الصهيونية إلى التقرب منها، كما أنها عجلت دخول يهود المشرق والمغرب تحت رعاية ووصاية المؤسسات الصهيونية، وهي التي جعلت الاعتبارات الأمنية تحظى بأفضلية عليا بالنسبة للييشوف اليهودي، ومنحت المقاتلين مرتبة رفيعة، فشكلت بذلك عملياً، الروح الأمنية الصهيونية".
ولفت كوهين إلى أن "أحداث 1929 تمثل في الذاكرة اليهودية رمزاً للتوحش العربي، ودليلاً على أن العرب متعطشون للدم اليهودي، فيما كانت تلك في نظر العرب انتفاضة وطنية مشروعة. وحريّ بنا أن نفهم كيف يمكن لفريقين مختلفين في فهم الواقع ذاته بمثل هذه الطريقة المختلفة تماماً .. ورغم أن رواية اليهود بشأن 1929 معروفة بجوهرها لغالبية قراء العبرية، إلا أن ثمة الكثير مما يمكن تجديده فيها. 
أما في الرواية الفلسطينية، فالمخفي أكثر بكثير، ويشمل عناصر مفاجئة جداً، وهذه فرصة لفحص واستيضاح العلاقة ما بين الحقيقة والتلفيق في الكتابة التاريخية".
وكشف كوهين "في أعقاب زيارات عديدة قمت بها إلى الخليل، التي تخيم أحداث 1929 فوقها كغمامة سوداء، وإثر أحاديث أجريتها مع عرب ويهود، اعتقدت أنه سيكون من المناسب محاولة عرض روايتيّ الشعبين عن تطلعاتهما وآمالهما وأزماتهما، عن لحظات السمو ولحظات الجنون التي عاشاها، بغية فهم الأمر، لا بغية التأنيب أو التبرير أو التقريع، وكل هذا انطلاقاً من الإدراك بأن قدرتي على سبر أغوار وعي اليهودي الذي عاش في البلاد في عشرينيات القرن العشرين كانت محدودة جداً، ناهيك عن العربي الفلسطيني ابن الفترة ذاتها. ورغم ذلك، جدير بنا أن نحاول".
وقدم كوهين في الكتاب مجهوداً كبيراً للحديث بالتفاصيل عبر فصوله الستة عن يوميات بتفاصيلها الدقيقة في جغرافيات بعينها، مثل: "يافا وتل أبيب، يوم الأحد، 25 آب 1929"، و"القدس، يوم الجمعة، 23 آب 1929"، و"الخليل، يوم السبت، 24 آب 1929"، و"موتسا وقالونيا، يوم السبت، 24 آب 1929"، و"صفد، يوم الخميس، 29 آب 1929".

قتل متبادل
"في صيف 1929، تحرش اليهود بالمسلمين: آلاف من شبّانهم ومسنيهم تجمعوا في شوارع القدس، وهم يرفعون الأعلام الصهيونية على رؤوسهم ملفوفة بأشرطة سوداء. تقدموا بصورة منظمة نحو "حائط المبكى" (حائط البراق)، وهم ينشدون بحماس النشيد الوطني الصهيوني (هتكفا)، ويصرخون بصوت مرتفع: الحائط لنا، ويل لمن يدنس مكاننا المقدس. هذا الاستفزاز هو الذي أدى إلى الصدامات التي امتدت إلى مختلف أنحاء البلاد في آب 1929".
"في يافا، هاجم اليهود، وفي مقدمتهم شرطي يهودي في الخدمة الحكومية، منزل الشيخ عبد الغني عون، إمام مسجد حي أبو كبير المحاذي لتل أبيب. قتلوه وأبناء عائلته الستة ومثّلوا بجثثهم بصورة إجرامية. لقد بقروا بطن الأب، وهشموا رؤوس ابن أخيه وزوجته وابنه الذي كان في الثالثة من العمر آنذاك".
"كان القتيل إلياهو رابطن من مواليد القدس العام 1902 من أصل بلغاري، وكان يعتبر أحد المهندسين الأكفاء في القدس .. في الوقت ذاته تقريباً أصيب يهودي آخر حاول الخروج من الباب باتجاه البلدة الغربية فتعرض للضرب بالعصي من قبل المتظاهرين العرب، نهض، فانهالوا عليه بالضرب ثانية حتى انهار، وهكذا ثلاث مرات متتالية حتى وصل رجال الشرطة البريطانيون .. في ساعات الظهر من يوم الجمعة ذاته، قتل أيضاً عابرا سبيل عربيان، هما حنا كركر وخليل داهودي قرب ميئاه شعاريم".
"شهد الشرطي البريطاني وليام داف أمام لجنة التحقيق حول العثور على جثة حنا كركر، أنه في ظهر الجمعة من الأحداث، طلب منه، سوية مع رجال الشرطة الحضور إلى مقر المندوب السامي الذي كان في بيت مناحيم وقتذاك، وعند مفترق شارعي هنفيشيم ووسانت باول، قاموا على الفور بتفريق عشرات العرب الذي تجمعوا في المكان. ابتعد هؤلاء شمالاً وانضموا إلى نحو 200 عربي آخرين كانوا قد تجمعوا في ساحة خالية مقابل حي ميئاه شعاريم. وقف اليهود على أسطح منازل الحي، وأمطروا العرب المتقدمين بالحجارة.. وقفنا على طول شارع ميئاه شعاريم بينما وجوهنا نحو العرب، فسمعت صوت طلقة خلفي، استدرت فرأيت شرطياً محلياً منحنياً فوق عربي كان ممداً لصق جدار الحوانيت في شارع ميئاه شعاريم".
"في ظهيرة الجمعة، كانت أنباء وردت إلى مدينة الخليل عن قتل عرب في القدس، ووردت بصورة مضخمة"، دخل غاضبون عرب إلى "المدرسة الدينية (يشيفاه) سلبودكه في الخليل"، ولكونها كانت عطلة صيفية لم يكن في المدرسة إلا طالبان، "رشقوا أحدهما الأصغر من بين الاثنين، شموئيل هليفي روزنهولتس، حتى الموت .. أغار مئات العرب من الخليل وضواحيها على بيوت اليهود، اقتحموها وقتلوا 66 رجلاً وامرأة ومسناً وطفلاً".
"في كتاب ليتذكر شعب إسرائيل شهداء 1929 الذي صدر في القدس سنة 1930، ورد أن خطوبة إستر غرشون ابنة أوراو بن تسيون، الذي تحدد عيد العرش موعداً له، وقد أعلنت قبل اندلاع الأحداث بثلاثة أشهر .. وبدأت بتجهيز ملابسها وأغراضها للزواج، بيد أنه، وقبل ذلك بشهرين تعرض منزل العائلة للهجوم .. قاومت إستر لساعات طويلة، بشجاعة فائقة، القتلة الذين نكلوا بها، وحين لم يتمكنوا منها، غرسوا السكاكين في بطنها وضلعها. لفظت أنفاسها الأخيرة بعد ارتجاف دام خمس ثوان .. طبقاً لهذه الرواية صارعت الفتاة المخطوبة المعتدين، ونجحت في منع الاغتصاب، لكن ثم روايات أخرى، من الصعب حسم أيها الأصدق" .. "روايات يهودية أخرى وصفت الاغتصاب دون أن تتوفر أي معلومة حقيقية مؤكدة، والمصادر العربية نفت هذا الادعاء بقطعية".

محاولات إنقاذ
وتحدث كوهين على مدار قرابة الأربعمائة وثلاثين صفحة، كتبت برشاقة تراوحت ما بين التأريخ والتحقيق الصحافي والنفس الروائي أحياناً، عن عرب فلسطينيين خاضوا معارك لحماية جيرانهم اليهود من بطش الغاضبين من الفلسطينيين، أو "الثوار"، أو "الإرهابيين"، وفقاً لمطلق المصطلح عليهم، ومنهم شيخ شيوخ آل عمرو الذي جرح في قدمه بسكين أحد الغاضبين القادمين لاقتحام منزل جاره الحاخام بعد أن مد جسده أمام منزل اليهودي، فطعن في قدمه قبل الانسحاب، وغيرها من الحكايات التي تظهر حرص البعض على الحفاظ على ما يمكن الحفاظ عليه من علاقات جيدة بين الجيران من العرب واليهود في مختلف مناطق فلسطين.
"كان إسماعيل جاراً قريباً وصديقاً للجميع. كان يسكن في منطقة "عيون تلما" المجاورة ويرفض الذبح. وقف إسماعيل بين المهاجِمين والمهاجَمين، وبعد أخذ ورد وبثمن قوامه بنادق الصيد الأربع التي كانت في داخل المنزل، انصرف القرويون، في الأثناء حلّ المساء فنقل إسماعيل جميع المحاصَرين إلى منزله. منذ تلك اللحظة أصبحوا في حمايته.. ثمانية عشر يهودياً، نساء وأطفالاً، يلبسونهم ثياباً عربية، وينامون لدى إسماعيل ليلة ما بين الجمعة والسبت 18 آب .. قصة إنقاذ مثيرة للاندهاش".

خلاصة
وخلص كوهين، في خاتمة كتابه الصادر بدعم من وزارة الثقافة الفلسطينية، إلى أنه "في البحث الذي عرضناه طي هذا الكتاب، ثمة جملة من التبصرات ذات الصلة بأحداث 1929، يتصل بعضها بالأحداث نفسها، وبعضها الآخر أكثر عمومية، منها ما هو معروف وزدنا في تحديده وتعميقه، ومنها ما هو غير معروف"، هي في النهاية أحداث عنف وقتل جاءت في إطار عام "لا يغير الصورة التاريخية الأوسع: جاء اليهود إلى البلاد ابتداء من أواخر العهد العثماني، برعاية أوروبية (رعاية بريطانية بالتحديد)، بهدف جعلها دولة يهودية، بما يترتب على ذلك من تحويل سكانها العرب إلى أقلية في وطنهم"، قبل أن يسجل "كان من حق اليهود المطاردين المجيء إلى البلاد، والعثور فيها على ملاذ لهم، لكن هذا الحق لا يصادر حقوق العرب في البلاد، ولا يبرر كل ما أقدمت عليه الحركة الصهيونية من إجراءات وممارسات".

amm
Developed by: MONGID | Software House الحقوق محفوظة مفوضية الإعلام والثقافة © 2024