معرض الكتاب يستعيد حسين البرغوثي
نشر بتاريخ: 2018-05-13 الساعة: 09:15رام الله-وفا- استعاد أقرباء وأصدقاء الشاعر والراوي والناقد والباحث والأكاديمي الفلسطيني، الراحل حسين البرغوثي (1954-2002)، إبداعه وذكرياته وأحلامه، مغامراته وجنونه، حياته وأسفاره، ضباب المدن التي تنقل فيها، والحرية التي أرادها للفرد.
يكاد لا يوجد عارف لحسين إلا ورثاه، بذكرى شخصية أو موقف سمع عنه، فكرة كان هو المعلم فيها، أو رؤية كان هو الملهم لها.
من ساروا معه، أو سهروا يُحللون برفقته نصاً أو شاهدوا معه مسرحية أو فيلما، من اسمعوه شعرهم وسمعوا شعره، أو تتلمذوا على يد أفكاره وعقله ووعيه.
في ندوة أدبية ضمن فعاليات معرض فلسطين الدولي للكتاب (11)، حملت عنوان: "حسين البرغوثي: السيرة الذاتية كبيان ثقافي"، شارك بها الكاتب أكرم مسلم، والشاعرة رجاء غانم، وفادي البرغوثي –شقيق حسين البرغوثي- تحدث الضيوف عن عوالم حسين، في لقاء لم يبخل به مسلم بقراءة شاملة لنواحي حسين الجمالية والفنية والذاتية والأدبية، كما تعرض فادي، لمفهوم الحرية لدى حسين، وإعادة تشكيل وصياغة العقل الفردي والجماعي عند حسين، فيما ذرفت رجاء غانم دموعها وهي تقرأ ذكرياتها مع حسين البرغوثي.
فادي البرغوثي، تحدث عن أدوات حسين الفنية والأدبية، وطريقته في التعامل مع العقل الفردي والجماعي، ونظرته للوعي، قائلاً: مشروع حسين البرغوثي في الشعر، الرواية، المسرح، الأبحاث، السينما، النقد الأدبي، وفي جميع الفنون، كان يرتكز على البحث عن الحرية والعيش في الحرية، وما هي الحرية بالنسبة للفرد وبالنسبة للجماعة.
على مستوى الفرد، أي فرد حين يولد يأخذ من محصلة القوى المحيطة به، العائلة، المدرسة، الأصدقاء، فهمه وتفسيره للعالم ولذاته، فيكون عمليا جاهزا، أي موضوع يتحدث فيه، أو مرحلة يمر بها، يقيمها بناء على ما أخذه من البنية التي أوجدته.
لماذا هناك مبدعين، كيف يعمل العقل المبدع، هذا هو سؤال حسين المركزي. من يقرأ حسين ليقتنع في فكرة، لن يجد هذا، هو يقدم المعلومات والآراء والأفكار، ويدعو قارئه لتفكيكها.
المسألة لديه إعطاء القارئ أدوات لتفكيك الآراء الموجودة لديه مسبقا ومحاولة ايجاد رؤيته الخاصة للعالم وفهمه الخاص لنفسه، وبالتالي تحوله لعقل تم صياغته من قبل الآخرين، وتحوله لشخص قادر على تفكيك المعلومات، من منطلق حريته وارادته، كيف يعيش وما الذي يريده من الحياة، بالتالي تحقيق أي فرق. بمعنى أن يعيش الفرد حياته التي يشعر فعلاً أنها حياته، وليست الحياة التي يمر بجانبها.
مشكلة العقل العربي أنه فقد القدرة على تصميم نفسه، وعلى تصميم عالمه وعلى الحياة بحرية في عالمه، وبالتالي من يصمم هي قوة خارجية.
أزمة الوطن العربي والهوية العربية والثقافة الإسلامية، هي قدرة أعدائها سواء كانت إسرائيل، الغرب، الولايات المتحدة على تصميم الوعي وتشغيله بالطريقة التي تحقق مصالحها، كما في سوريا، العراق، مصر، اليمن، الجزائر، وبعض دول الخليج، وفي أقطار متعددة من الوطن العربي.
على المستوى السياسي والثقافي والفكري تمت السيادة على هذا الوعي خلال مرحلة الاستعمار وتم الحفاظ عليه عبر التمويل والإعلام وأشكال كثيرة من التدخل، وحتى عبر التدخل في مناهج التدريس.
المرحلة التي وعي فيها حسين في العام 1967 (مرحلة شبابه) كانت هزيمة الـ67 ، سقوط وتصدع القومية العربية، وفي العام 1970 خروج منظمة التحرير من الأردن، وخروجها في الـ1982 من لبنان، والتصدع في الحالة الفلسطينية، وعلى المستوى العائلي والفردي تصدعه في فقدانه حبيبته والتصدع الذي أصاب هوية القبيلة بسبب تغير في شكل ملكية الأرض.
طفولة حسين كانت في مجتمع متفكك، في رابطة القبيلة خلقت هوية أخرى داخل حسين، هوية زائفه، أعاقت لفترة طويلة قدرة حسين على الإبداع، وذهب باتجاه تفكيك هذه الأعمال.
رجاء غانم، تحدثت عن تواضع حسين، حبه للناس، واهتمامه بفلسطين والأرض والهوية والفلسفة والشعر والفنون.
وقالت: حسين المختلف والحالم، ونحن على ما يبدو ما زلنا في مجتمعات تعاقب الحالمين والحالمات، أرادنا حسين أن نكون فعل وليس رد فعل.
وأضافت غانم: تعرف؟ هناك اختراع اسمه الفيسبوك، فيها حيطان وحارات للناس ليقولوا ما يشاءون. وفي كل ليلة أتجول هناك باحثة عن رائحة شعر، عنك، عن المنابع الأولى، فلا أجدها. تحولنا إلى ماكينات كتابة وزيف وأحداث لا معنى لها، وقتلنا الشعر يا حسين، قتلناه بضربة واحدة، وجلسنا نتناول العشاء بهدوء قرب جثته. أفتقدك، أفتقد جلساتنا وأحاديثنا المشبعة بالشعر والفلسفة والموسيقى والسينما والتحليل الذكي. صورتك وأنت جالس في كهف صغير في كوبر تقرأ على ضوء شمعة، جسدك الذي وقف أمام سطوة الشعر والمرض والهزائم وغياب الأصدقاء والعجز أمام توحش الموت، حياتك المكثفة شعرا وتجارب وعمقاً.
أما الروائي أكرم مسلم، فقد تحدث عن موقع حسين البرغوثي في الثقافة الفلسطينية، تجربته من أجيال متعددة ، وتأثيره في سياقات متعددة، كان معلما مختلفا، أثر تأثيرا وواسعا وعميقا وصحيا وايجابيا في الأجيال، أراد للناس أن يتعلموا اكتشاف ذواتهم، لا أن يتكرروا ويتناسخوا. أراد لطلابه أن يتجاوزوه.
وأضاف مسلم: أتذكّره يقول في إحدى محاضراته المرتجلة: "لاحظوا أن النَّفَس والنَّفْس يمتلكان الجذر نفسه في اللغات القديمة، وكذا الريح والروح، المفردات تحمل ذاكرة تتجاوز معناها، وفك شفرتها مصدر معرفي مهم"، كانت تلك متعة حسين العميقة، وفيها تجلت لياقته الذهنية العالية: أن يفكّ الأشياء الصغيرة ويعيد تركيبها وموضعتها في سياقها الكوني الكبير، أو أن يحضر عدسة كونية فيضيء بها على شيء مهمل، في تمرين دائم وعابر لحدود المدارس الفكرية والتصنيفات الإبداعية.
عند قراءة سيرة حسين الروائية، أو روايته السيَرية، يلفت الانتباه ما تعرض إليه من أذى، بدءا من طفولة شهدت أكثر من محاولة اغتيال أداتها اللغة (الشيخ الذي لقبه بـ"السطل")، وصولاً إلى فصله "إقصائه" من دائرة الدراسات الثقافية في جامعة بيرزيت، مروراً بما همس له به "بيري" في "الضوء الأزرق": "هناك من يحسدونك على قُواك"، فما هي قوى حسين هذه التي يحسد عليها؟
انتمى حسين إلى حلم مختلف، "أن يترك أثراً على هذه الأرض"، فكان سقفه من العلو بحيث لا يراه "ذوو الطاقة المنخفضة" كما سماهم، كان مجرّد وجوده المتصالح مع ذاته مربكاً لافتراضاتهم ولصفقاتهم، فتعمدوا إيذاءه بأدوات وصلت أحياناً حدّ البذاءة.
أراد أكاديمي مرّة الانتقاص من منجزه في صيغة سؤال ماكر: "حسين، لماذا لا تكتب بالإنجليزية وتنشر في دوريات أجنبية؟" فكان الجواب: "سيأتي يوم يبحثون فيه عما أكتبه بالعربية عن كوبر (قريته) ليترجموه". وكأن حسين يقول: إن العالمي ليس ما ينشر هناك أو يترجم إلى هناك أو يعترف به هناك، فهنا أيضاً عالمي إذا امتلكنا الثقة بجدارتنا والإيمان بحصتنا على هذه الأرض، والكفاءة لاكتشاف الجمالي فينا وحولنا.
علّمنا مبكراً: المهم أن نغير المناظير، وزوايا النظر باستمرار. صنع فان كوخ من حذاء مهمل لوحة عالمية. يتعلق الأمر بزاوية النظر. وقال محذراً من الدونية الثقافية: الحلول الروحية العميقة لأسئلة الإنسان الكبرى جاءت من هنا، من الجنوب.
قال لي مرّة: يئست من تحطيم ما هو قائم، هذا قتل للوقت والجهد، ما أحاوله إنجاز بناء مجاور للموجود. كثيرا ما اختار حسين "التجنّب"، تجنّب النظام، وبدل الاشتباك معه، حلّق فوقه، وأربكه.
لم يكتب حسين نفسه فقط، لكنه كتب من خلال نفسه. لم يكتب وكأنه محور العالم، إنما وضع ذاته في خدمة فهم العالم، من الطفولة الشقية حتى تحويل السرطان إلى موضوع ومساحة للاشتباك والمكاشفة والمعرفة.
far