الرئيسة/  ثقافة

الروائي إبراهيم نصر الله: ثلاثيتي القادمة حول حضارية شعبنا الفلسطيني والدور النضالي لمسيحييها

نشر بتاريخ: 2018-05-08 الساعة: 09:14

رام الله- الايام- من أزقة مخيم الوحدات لأسرة مهجرة من قرية البريج العام 1948، خرج إبراهيم نصر الله، ليصبح أيقونة عالمية في الشعر والرواية .. ما هي حكاية هذا الطفل مع الكتابة، وكيف تحولت مأساة المخيم إلى ملهم على المستوى السردي والشعري؟ وهل هناك مساحة للأدب حيث يستوطن الفقر والبؤس والبطالة والتشريد؟

في حوار موّسع مع "أيام الثقافة"، يقول الفائز مؤخراً بالجائزة العالمية للرواية العربية (البوكر) عن روايته "حرب الكلب الثانية": إذا سلَّمْنا أن المرحلة الأولى من حياة الإنسان هي الأكثر تأثيرا في مسار حياته، فإن طفولتي ستلعب هذا الدور بصورة عميقة جدا في مساري الإنساني ومساري الكتابي أيضا. التحدي الكبير الذي واجَهنا كجيل عاش آثار النكبة مباشرة، وأقسى ظروف الحياة، أن لا يغرق في الوحل الذي وجد نفسه فيه، وأن يحيله إلى تراب صالح لنمو الحياة، الأمل، الجمال، كي لا نسقط في فخ السّخط على العالم، وبذلك نتحوّل إلى كائنات سلبية. أظن أن أهم ما فعله كثير من أبناء ذلك الجيل أنه استطاع أن يحالف الجمال ويوجِده، وأن يحمي إنسانيته ويضيء ذاكرته بالأمل، بحيث يكون حليفا للمستقبل؛ المستقبل الإنساني والمستقبل الوطني. لكن تحقق ذلك كله كان بمثابة معجزة، إذ عليك أن تعمل أكثر، وتجتهد أكثر، وتستوعب مأساة المخيم وقسوة المنفى لتكون جزءا من نهضة أسرتك في غربتها وشعبك في ضياعه، ونفسك من كل الظروف المحيطة بها، الظروف التي توفر كل شروط زوال هذه النفس وانسحاقها.

ويضيف: تلك كانت معركتنا، معركة آبائنا الذين كانوا في ريعان شبابهم، وأظن أن انتصار ذلك الجيل على مأساته هو الأساس الذي بنى عليه الشعب الفلسطيني فصول قضيته، حيّا، متحديا، غير قابل للزوال، ورافضا أقسى وضع إنساني وجد نفسه فيه.

العمل الأول
• بالعادة يكون العمل الأول شماعة لدى البعض لتبرير ضعف ما، لكن عملك الروائي الأول "براري الحمى" حقق نجاحات لا تزال حاضرة منذ عقود، وتتواصل، فقد اعتبرت قبل سنوات واحدة من أهم خمس روايات عربية ترجمت للدنماركية، واختيرت في "الغارديان" كواحدة من أهم عشر روايات كتبت عن العالم العربي، وتقدم صورة غير تلك الشائعة في الإعلام؟ .. ماذا عن شماعة العمل الأول؟ .. وثم إدراك أن هذه الرواية علامة فارقة لكن لماذا كل هذا النجاح برأيك مع أنك لم تقم إلا عامين في السعودية كمعلم؟

- لم تلد تلك الرواية مصادفة، ولم تنج مصادفة من أخطاء البدايات، فهي ابنة تجربة صعبة عشت فيها الموت، ووصلت حافته البعيدة، ثم إنها ابنة مرحلة خصبة ثقافيا، قرأت فيها، بصورة ممنهجة، مكثفة، الأدب، رواية وشعرا، والملاحم والمسرح، منذ ما قبل الإغريق حتى أدب العبث. هكذا ولدت الرواية، وأحدثت عند صدورها شرخا، فمن معها كان معها بلا حدود، ومن ضدها كان يعاديها فعلا، وبين هؤلاء وهؤلاء، كنت أرى أن هذه التجربة لا تُكتب إلا بهذا الجنون. وهكذا كان علي أن أنتظر طويلا لأرى كثيرا ممن وقفوا ضدها يتراجعون عن مواقفهم، بعد أن راحت الرواية تشق طريقها إلى نقاد عرب كبار، وإلى لغات أخرى.

أجمل ما في الأمر أن تبدو اليوم كرواية مكتوبة الآن، وأن يواصل القارئ النوعي، النظر إليها كرواية مغايرة.

لقد حشدتُ لبراري الحُمَّى في ذلك العمر، من الرابعة والعشرين حتى السادسة والعشرين من عمري، كل ما أستطيع لأقدم رواية كما فهمت وعشت التجربة التي كتبتُ عنها. وكان الاستقبال صعبا في البداية، لكن الرواية واصلت حياتها، وعاشت بحيوية، على الأقل، حتى الآن.

فلسطين مرة أخرى
• أبدعت في كتابة فلسطين، ماضيا وحاضرا وربما مستقبلاً، أيضاً روائياً مع أنك لا تعيش فيها؟ أليست المعايشة شرطاً من شروط الإبداع؟ أم أن للمعايشة أكثر من معنى غير الإقامة؟ .. وهل الإقامة خارج فلسطين تمنح صاحبها مساحة أكبر للتخيل كما في قناديل ملك الجليل على سبيل المثال، التي لم تزرها قبل كتابتها؟ وفي الوقت نفسه هل هناك مساحة للتخيل في قضية واقعية وأحداث تاريخية؟ وهل يفيد الخيال فلسطين وقضيتها روائياً؟

- هذه أسئلة كثيرة، مهمة، ومن الصعب الإجابة عنها، لأن من الصعب توحيدها في سؤال.
أولا من يستطيع القول إنني لم أُقِمْ فيها ذات يوم؟ أقول هذا لأنني أفاجأ بقراء يسألونني كيف عرفت الطريق بكل تفاصيله، بين قريتنا والناصرة، أو بين طبريا وحطين، وبعض من يسكنون في داخلنا الفلسطيني البحري زاروا عكا بعد قراءتهم قناديل ملك الجليل، فنظروا في وجوه بعضهم بعضا وقالوا: إبراهيم يعرف عكا أكثر منا. هذه مسألة تدعو لدهشتهم ولدهشتي أيضا. أظن أن الأمر مثل قصيدة الحب التي يقولها عاشق ما، فتصبح القصيدة الخاصة لعشاق بلا عدد.

لا أظن أن المسألة قائمة في القدرة على التخييل، إنها أعقد من ذلك بكثير، ولا هي قائمة حتى في تفاوت قدراتنا ككتاب في الكتابة.

سأقول لكِ شيئا، حين كنت أكتب رواية "حرب الكلب الثانية"، التي هي عن المستقبل، وكنت أصف رائحة العفونة، كان الأوكسجين يتلاشى من غرفة الكتابة، فأجد نفسي أركض نحو النافذة وأفتحها، في عزّ البرد، كما نقول، لأتنفس. الغريب أن الحالة نفسها أصابت عددا من قارئاتي وقرائي، وبعضهم كتب لي عن أنفسهم، وكأنهم يكتبون عني.

ثم إن الأمر له علاقة بسؤال أكبر، حول معايشة المكان ومعايشة الأشخاص، فبعضنا يعيش في المكان طوال عمره ولا يعرفه، ويعيش مع أشخاص ولا يعرفهم، وبعضنا يعرف المكان بمجرد المرور فيه، وبعضهم يعرفه وهو لم يره، كما يعرف البشر بمجرد أن يصافحهم. لا أتحدث عن شيء غيبي، بل عن إحساس عميق يمكن أن يتوافر لنا في لحظات ما، فنرى ونعرف، ونعيش كل ما اعتقدنا أننا لم نعرفه ولم نعشه.

في قناديل ملك الجليل، بنى ظاهر العمر دولة على الأرض، وعاش عمرا أطول من عمري، وكان علي أن أبني دولة على الورق ويراها القارئ وهي ترتفع حجرا حجرا، وكان علي أن أعيش خمسا وثمانين سنة، وأعيش أعمار وأحداث عشرات الشخصيات في فلسطين ودمشق والقاهرة ولبنان وإسطنبول. هي مسألة غريبة، ولكن الكتابة وحدها هي من تجعلنا نصدّقها، ونبكي خلال ذلك ونفرح وننتشي بنصر وننكسر في هزيمة، ونقع في الحب. هل هو الخيال وحده، بالتأكيد لا، مع أنه نعمة النعم التي حظيَ بها البشر.

ويبقى السؤال: هل عشنا في فلسطين؟ أم أن فلسطين هي التي عاشت ولم تزل تعيش فينا، وأنها حين نطرد منها، تتبعنا وتنسلّ إلى داخلنا، ومنا إلى أولادنا وأحفادنا؟

• اعتبر مؤرخون في تاريخ الأدب ونقاد مشروع "الملهاة الفلسطينية" أول مشروع روائي يتأمل القضية الفلسطينية منذ مئات السنين .. كيف جاءت فكرة المشروع، وما هي معايير ضم روايات له، كما حدث في "مجرد رقم 2" الصادرة كرواية مستقلة في العام 1992، و"أرواح كليمنجارو" التي تناولت حكاية فلسطينية حديثة عايشتها بنفسك؟

- كان المشروع في البداية رواية عن الفترة من العام 1917، دخول الإنجليز، إلى عام النكبة، وكنت بحاجة إليها كقارئ، فتشت عنها لأقرأها فلم أجدها، ولذا قررت أن أكتبها. لكن تلك الرواية كانت بمثابة الباب الذي ما إن فتحته حتى رحت أرى فلسطين قرية قرية ومدينة مدينة. فأدركت أن فلسطين أكبر من أن تحيط بها رواية، مهما كان حجمها.

من خلال العمل الطويل، الذي يمكن أن أسميه مشروع عمْر، ولدت فكرة الملهاة، وكلما اكتشفت شيئا جديدا كنت أحس بأنني كنت بحاجة لهذه الروايات إنسانيا، أكثر وأكثر. هي أشبه بالحب الذي كلما ارتوينا منه زدْنا عطشا. وفي النهاية اكتشفت، بعد صدور كل رواية، أنني لست وحدي الذي يحب أن يقرأها، لحسن الحظ، ولذا أحس بسعادة كبيرة وأنا أرى الشابات والشباب، في فلسطين والعالم العربي، يعيشون فلسطين بكل هذا الحب كما عشتها، فأجمل ما حدث لي كإنسان وكاتب أنني رأيت بعيني مدى تعلق الناس بهذه الأعمال، في حياتي، ذلك شيء أغبط نفسي عليه. وأغبط نفسي لأنني عشت، حقا، 250 سنة من تاريخ فلسطين الحديث، من القرن الثامن عشر حتى اليوم، وبعض الفترات عشتها في روايات موازية داخل الملهاة، أكثر من مرة.

بالنسبة لضم (مجرد 2 فقط) للمشروع، فلأنها في صُلب الحكاية الفلسطينية، وبغيرها تكون "الملهاة" ناقصة، لأنها تعبّر عن حكايات المذابح التي ارتكبت ضد شعبنا، ولأنني لن أستطيع العودة للكتابة عن الموضوع ثانية. أما "أرواح كليمنجارو"، فهي من المشروع أصلا، ولكنها حين صدرت عن دار نشر ثانية، غير التي نشرت بقية روايات "الملهاة"، حدث خلاف حول إمكانية صدورها تحت عنوان تملكه دار نشر أخرى. في الطبعة الثانية حسمنا الأمر باتفاقنا أن يوضع اسم "الملهاة الفلسطينية" على صفحتها الثالثة، مع عنوانها الداخلي.

"الملهاة" و"الشرفات"
• عند الحديث عن روايات "الملهاة الفلسطينية" تبرز قناديل ملك الجليل وزمن الخيول البيضاء، مع أن هناك روايات لا تقل أهمية عنهما في السلسلة، هل هي الملحمية؟ أو الاتجاه لكتابة التاريخ كاسترجاع حكاية الظاهر عمر على سبيل المثال أو النكبة؟ أم ثمة عوامل أخرى برأي مبدع الروايتين؟

- لا أستطيع أن أقول غير ذلك، ربما لأنهما مشروعان ملحميان أيضا، مع قلة وجود الأدب الملحمي، فلسطينيا، لكن الروايات الأخرى تحقق حضورا مستمرا، فأصغر روايات الملهاة (أعراس آمنة) تطبع سنويا أكثر من مرة، وكذلك بقية الروايات. لكن زمن الخيول والقناديل تقدّمان المشهد المفقود ربما، فهي المرة الأولى التي تكتب فيها رواية عن ظاهر العمر، والمرة الأولى التي تكتب فيها رواية بهذا الاتساع عن فلسطين ما قبل النكبة، لكن قولي (المرة الأولى) لا يمكن أن يفسر مكانتهما، لأن المسألة أكثر تعقيدا بالتأكيد.

• يلاحظ أنك في "الملهاة الفلسطينية" ابتعدت عن الشعارات والصراخ .. هل من السهل على الفلسطيني التخلص من الشعار في إبداعاته الأدبية أو الفنية، وكيف يساهم هذا التخلص في أنسنة القضية الفلسطينية؟ وانتشارها عالمياً عبر الترجمة؟

- كما أشرت في إجابة سابقة، لقد رأيت البشر أولا، ويمكن أن أضيف رأيت البشر قبل أن أرى الحقل والحجر، وكنت أدرك أن فلسطين إنسان، وكنت أدرك أنني كقارئ، حين أقرأ رواية، أحب شخوصا وأكره شخوصا، أنني أقرأ قصصهم ومشاعرهم، ومعاناتهم، وإذا تم ذلك، أحبّ وطنهم. وهذا ما فعلته، أن أجعل القارئ يعرف الفلسطيني ويعيش حكايته، ويفرح لأفراحه ويحزن لأحزانه، كي يحب فلسطين تلقائيا، وحتى قبل أن يفكر في ذلك.

بعيدا عن هذه الأنسنة، لا يمكن أن نحقق وجودنا حتى لدى قرائنا الفلسطينيين، والعرب، فما بالك بالقراء في العالم البعيد؟

• "الشرفات" .. سلسلة أخرى اتجهت نحو قضايا مجتمعية في جلها، هل اتجاهك للنقد المجتمعي عبر الرواية يأتي من باب أن الرواية تحتمل ما لا يحتمله غيرها، لكونها تمضغ الخيال بالواقع وتلوكهما سوياً ليخرج نص سردي محكم يشكل شرفة على شيء ما؟ أم ماذا؟

- لا تقوم المسألة هنا أيضا على النقد الاجتماعي باتحاده بالخيال وحسب، لأن علينا أن نقدم منظورنا للعالم أيضا، "الشرفات"، كما أشار بعض الدارسين، تتأمل فكرة السلطة، أي القوة الطليقة التي لا يردعها شيء، في إطارها العربي، سواء السلطة السياسية أو الاجتماعية أو الاستعمارية، أو السماوية.

هذا المشروع ولِد من الأسئلة المُلحّة، عن فلسطين والعالم العربي والكون وما فوقه. ولم يكن باستطاعتي إلا البحث عن إجابات له، فالكتابة هي دائما ما لا نستطيع الهرب منه.

"حرب الكلب الثانية"
• في "حرب الكلب الثانية"، اتجهت نحو الفانتازيا والخيال العلمي واستشراف المستقبل .. الرواية عالمية الهوى بامتياز، وفيها من السينما الكثير، لكن نصر الله، وعبرها، يبتعد عن "الملهاة" و"الشرفات"، ويقدم تجربة جديدة في مسيرته، وأيضا جديدة عربياً .. ما هي نقطة تحريك الروائي داخلك في هذه الرواية لتكون على ما هي عليه؟

- هذه الرواية عنا، عن فلسطين، والعالم العربي، والعالم، لأنها ولدت فكرةً قبل هذا الخراب الرهيب الذي ملأ حياتنا العربية بالموت في السنوات الأخيرة، ولدت من مظاهر العنف اليومية التي تحوّل فيها البشر إلى قنابل موقوتة، لا تعرف متى ينفجر الواحد منهم في وجهك لأوهى الأسباب، ولكنها تفتحت كفكرة حين غدا الموت هو المشهد الواسع لحياتنا.

مقدمات "حرب الكلب" ماثلة بوضوح شديد، في رواية مثل "شرفة رجل الثلج" بشكل خاص، حتى لو أنهما صدرتا في كتاب واحد لما كان ذلك مخلا بالسياق الأدبي، والمنطقي لنمو الأحداث. لكن الأمر كان مدفوعا إلى الأمام خطوات كثيرة، فقد وصلنا نقطة هُزم فيها خيالنا، ولذا كان من الصعب التعبير عن هذا الواقع وأنت متمسك بعقلك وحده، وبأدواتك الفنية التي استخدمتها بدرجة أو بأخرى؛ كان لا بد من الحدود القصوى: الحاضر، أصبح مستقبلا، والأدبي قفز باتجاه الخيال العلمي، والغرائبية والفانتازيا، والسريالية والكابوسية. كان لا بد أن تصل ككاتب إلى ذرى أخرى. صحيح أننا حين نكتب عن الجنون نكتب بعقولنا، لكن يجب أن تصل عقولنا بنا ونصل بها إلى حدود الجنون حتى نعبّر عنه بطريقة مقنعة.

هذا ما حدث، وأتمنى ألا أعود إلى كتابة من هذا النوع، فقد أرهقتني أكثر مما أحتمل.

الجرأة والبذاءة
• هناك روائيون وشعراء يتحفظون في الكتابة، ويقررون سلفاً ألا يتجاوزوا ما يعتبر "تابوهات" على صعيد السياسة، والدين، والجنس .. أين إبراهيم نصر الله من التابوهات، وهل ثمة إبداع إذا لم يكن مزلزلاً، ولا يخضع لرقابة ذاتية مسبقة؟

- على الإبداع إن يزلزلنا، لكن الجرأة ليست البذاءة في الكتابة عن الجنس مثلا، الجرأة أن تصل إلى درجة تستطيع أن تقدم عبرها فهما جديدا للدين والجنس والسياسة. أغبى شخص يمكن أن يكسر التابوهات كلها بأن يقف في الشارع ويكفر ويشتم رأس الدولة وينطق أشد الكلمات بذاءة.

بعض الكتاب يعتقدون أنهم إن فعلوا ذلك يكسرون التابوهات، كسر التابوهات أن تقدم مشروعا فنيا يحمل رؤى فكرية عميقة حول هذه التابوهات، الجرأة هي أن تبحر أكثر في داخل الإنسان، وألا تكتفي بسواحل جسده وأسئلته الساذجة، وضفاف روحه.

• هناك أدباء يتحفظون على التعبير عن مواقفهم السياسية إزاء قضايا الماضي والحاضر .. هل يتورع إبراهيم نصر الله عن إبداء رأيه من القضايا غير الفلسطينية، كالوضع في سورية، والحرب على اليمن، وما يحدث في مصر، وتحويل السودان إلى سودانيين، وليبيا، والعراق، والأزمة الخليجية، وغيرها؟

- لدي مقال منتظم في "القدس العربي"، وقلت فيه الكثير الكثير، وإن كانت الكلمات في العالم العربي، اليوم، لا تقرأ بالعقل، بل بالعماء والتحزب الأعمى، وردود الفعل السريعة، والآراء المسبقة، فلا أحد يريد أن يحاور أحدا، كل شخص يريد تخوين الآخر، ولم يسلم لا الأصوليون ولا العلمانيون ولا السلطويون بالطبع من هذا.
ذات مرة كتبت: يا لها من حروب، كلما حاول أحدنا الإدلاء برأيه فيها فُتحت جبهة جديدة! ببساطة كل شيء نعيشه اليوم يبدو فصلا كُتِبَ، أو لم يُكتب بعد من (حرب الكلب الثانية).

الجوائز
• لإبراهيم نصر الله حكاية تتواصل مع الجوائز الأدبية، وإبداعاته تشفع له .. كيف تنظر إلى الجوائز الأدبية في العالم العربي؟ هل هي رافعة للأدب أم العكس لكون البعض يفصّلون رواياتهم بحيث ينتهون منها قبل إغلاق باب الترشيحات؟ وماذا عن الحسابات السياسية وغيرها لتلك الجوائز؟

- كل جوائز الدنيا فيها ما في الجوائز العربية، قد أقبل وأتفهم أن ينجز أحدهم رواية لينشرها ناشره قبل إغلاق باب الترشيح، لكنني لن أفهم كيف يمكن أن تكتب رواية ما لتكون ملائمة لمعايير الجائزة ولوائحها، لأنه في هذه الحالة يبيع نفسه كما تشتهيها، أو يعتقد أن مانح الجائزة يشتهيها. رغم أن ذلك أيضا ليس مقصورا علينا، فكثير من الكتاب في العالم، وغير الكتاب، يجهزون أنفسهم بمواقفهم وكتاباتهم وأفلامهم بالطريقة التي تضمن فوز المانحين بهم، أي انتصار المانحين، وليس فوزهم، هم كمبدعين، بالجائزة.

• هناك من يقول إنه آن الأوان لكتاب كبار يشكلون إضافة إلى الجوائز الأدبية لا العكس، أن يتركوا ساحة الجوائز مساحة لغيرهم .. ما رأيك؟

-الجوائز ليست صدقة تقوم بمنحها جهة، أو بالترفع عنها من قبل المكرسين لمن لم يثبتوا حضورهم بعد. الجائزة تقدير لإنجازات تحققت، وأصبح لها تأثيرها. والمكرسون اليوم، هم من كانوا شبابا، أمس، واستطاعوا أن يعملوا كثيرا ليستحقوا الوقوف بجانب كبار زمانهم. هكذا أصبحوا كبارا. لكن، قبل هذا وبعده، ليست الجائزة هي من يجعل كاتبا شابا كاتبا كبيرا، فهناك كثير ممن أخذوا هذه الجوائز لا نسمع بهم الآن، كما أن الجائزة لا تؤكد حقيقة أن الكاتب المهم هو كاتب مهم، فبعض الكتاب أخذوا "نوبل" ولا يعنون القارئ شيئا بعد هدوء ضجتها وانتهاء الاحتفال بتسليمها. الجوائز مظهر من مظاهر الحياة الثقافية في المجتمعات المختلفة.

وبالمناسبة، هذه الدعوة لا نسمعها إلا في العالم العربي. وهناك مسألة أخرى لها علاقة بالعتمة النقدية التي تصيب أعمال حتى المكرسين، لا أحد يكتب عما يصدر، أو أن الكتابات نادرة جداً، وهناك كتب تستحق أن تكون في دائرة الضوء، كتبها شبان جدد أو مكرسون، لأن ما فيها يستحق أن يُقرأ، وتوزّع على نطاق أوسع، وهناك حق الناشر في أن ينجح الكتاب الذي ينشره أيضا.

تعرفين أن بعض السنوات شهدت حالات إقصاء للمكرسين، وأعمالهم الرائعة، لصالح الكتاب الشباب علانية، وفي بيانات اللجان، فقط بحجة إفساح المجال للشباب، فهل علينا أن نقوم بمعاقبة كل من أنجز عملا رائعا وأمضى حياته مخلصا لمشروعه. هذا يشبه أن يُطلق الحكمُ النار على لاعب شهير ليتيح للاعب الجديد أن يلبس قميص القتيل ويلعب مكانه. ولعل ذلك يُذكر بعنوان الرواية الرائعة "إنهم يقتلون الجياد.. أليس كذلك؟".

استسهال
• بتنا نلمس حالة من الاستسهال في الكتابة، حتى يكاد يكون لكل مواطن رواية، وهي صيغة مبالغة لكنها توائم الإنتاج الروائي الغزير عربياً .. بماذا تفسر هذه الظاهرة؟ وكيف يمكن الخروج منها، خاصة أن بعض الأدب الجديد الجيد يضيع في متاهة الكم، ولا يجد فرصة لتسليط الضوء عليه؟

- المسألة باتت ملموسة، لكن نتائجها باتت أيضا واضحة، فالناشرون يلاحظون أن القارئ لم يعد يقبل على الروايات التي يكتبها كتاب جدد كما كان الأمر قبل خمس سنوات، وأن القارئ بات يعود لمتابعة الكتّاب الذين يثق بأعمالهم.

ثلاثية قادمة
• تحدثت عن ثلاثية قادمة تتناول المرحلة الزمنية ما بين الانتداب البريطاني والعام 1990، هل لك أن تحدثنا عنها، لا سيما أنك أشرت إلى أنها تتمحور حول المدينة الفلسطينية وتحولاتها في سبعين عاماً هي عمر النكبة؟

- هي روايةُ رواياتٍ، كما وصفها كاتب صديق قرأها مخطوطة، تنبثق كل رواية من الأخرى، تُقرأ منفردات، وتقرأ مجتمعات. الثلاثية أعمل عليها منذ العام 1990 تحضيرا وملاحظات وأفكارا. وهي تدور حول الحياة المدينية وجمالياتها في فلسطين، وحضارية شعبنا الفلسطيني، والدور المسيحي النضالي والثقافي في بيت لحم والقدس، وبيت ساحور بشكل خاص، ودورها في عصيانها المدني الكبير في تاريخنا الفلسطيني، وكذلك المصورة الفلسطينية العربية الأولى كريمة عبود. وتلعب حكايات الحب دورا أساسيا فيها، وكذلك الموسيقى والتصوير والغناء والفن بشكل عام. وهي إلى ذلك ثلاثية أجيال فهناك شخصيات مسيحية، مسلمة، يهودية، عابرة للعمل من أوله إلى آخره، وحضور الشخصية اليهودية هنا، في تقاطعها مع الصهيونية والطريقة التي تم فيها احتلال فلسطين، أمر يحدث للمرة الأولى في رواياتي. 

amm
Developed by: MONGID | Software House الحقوق محفوظة مفوضية الإعلام والثقافة © 2024