"أوان القطاف" لمحمود الورداني .. رأس الراوي يستعيد حكايات رؤوس خلت !
نشر بتاريخ: 2018-04-17 الساعة: 09:04رام الله- الايام- "لم تكن تلك هي المرة الأولى التي أفقد فيها رأسي، فلقد سبق لي أن فقدته مرات عديدة، كما سبقني آخرون فقدوا رؤوسهم مثلي" .. لعل هذه العبارة تختصر بشكل أو بآخر حكايات رواية "أوان القطاف" للروائي المصري محمود الورداني، الصادرة حديثاً عن دار فضاءات للنشر والتوزيع.
وعنوان الرواية الذي يبدو مقتبساً من عبارة الحجاج الشهيرة "والله إني لأرى رؤوساً قد أينعت وحان قطافها"، يمزج في حوار بين مجموعة من الرؤوس حكايات "القطف" عبر التاريخ، والتي استعادها أبناء القرن الحادي والعشرين عبر فيديوهات عدة لإعدامات بشعة نفذها سيافو تنظيم "داعش"، وكأن بالورداني يشير بأسلوب روائي شيق، إلى أن ما يحدث اليوم ليس وليد اللحظة، بل سليل تاريخ طويل من جز الرقاب.
"لم يكن قد مضى أكثر من خمسين عاماً على موت النبي، عندما احتز رأس ابن فاطمة ابنته، ومثل بعترته على هذا النحو المهين، ولعله من أوائل الرؤوس التي سارت بشجاعة نحو قدرها المحتوم. لم يعبأ الحسين بنصيحة عبد الله بن مطيع، وهو مزمع الانصراف من مكة يريد المدينة فراراً من ملاحقة الوليد بن عقبة بن أبي سفيان لأخذ البيعة ليزيد (الخليفة الجديد)، في أعقاب موت أبيه معاوية، ذلك الذي سبق له أن قتل أبا الحسين علي بن أبي طالب. كانت نصيحة عبد الله بن مطيع إذن، بعد أن علم بنية الحسين: ألا يغادرها إلى الكوفة، فهي بلدة مشؤومة شهدت قتل أبيه".
وجاء في "أوان القطاف" التي يعود فيها الورداني للكتابة الروائية بعد عشرين عاماً على روايته السابقة "الروض العاطر"، حول رأس الحسين "والواقع أن الرأس الكريم قد فرّ هارباً بعد ذلك، أثناء ما كانوا يسوقونه مع موكب الأسرى في الطريق إلى دمشق، مقر البلاط الأموي، فحط في حضن "أم الغلام" في إحدى حواري القاهرة، وهي الواقعة التي يشكك فيها البعض بدعوى أن القاهرة لم تكن بنيت بعد".
وتشير المراجع إلى أن يزيد بن معاوية حاول بطريقة أو بأخرى إضفاء الشرعية على تنصيبه خليفة فقام بإرسال رسالة إلى والي المدينة يطلب فيها أخذ البيعة من الحسين الذي كان من المعارضين لخلافته، فرفض أن يبايعه، وغادر المدينة سرّاً إلى مكة واعتصم بها، ومنها إلى الكوفة.
بعد أن رأى الحسين تخاذل أهل الكوفة وتخليهم عنه، وبعد رفضه الاستسلام، بدأ رماة الجيش الأموي يمطرونه وأصحابه الذين لا يزيدون على ثلاثة وسبعين رجلا بوابل من السهام .. وحسب المراجع فإن شمر بن ذي جوشن قام بفصل رأس الحسين عن جسده باثنتي عشرة ضربة بالسيف من القفى، وكان ذلك في يوم الجمعة من عاشوراء في المحرم سنة إحدى وستين من الهجرة وله من العمر 56 عاماً. ولم ينج من القتل إلا علي بن الحسين السجاد وذلك بسبب اشتداد مرضه وعدم قدرته على القتال، فحفظ نسل أبيه من بعده، واختلف الرواة في مستقر الرأس ما بين كربلاء، والشام، وعسقلان، والبقيع، دون أي ذكر للقاهرة في المراجع الموثوقة.
وحكايات الرؤوس تبدأ من رأس الراوي نفسه، حيث انفصل عن جسد صاحبه الذي اتخذ من سطح القطار مستقراً له، بعد أن علق بجدار حديدي، فيتحدث الرأس عن يومياته، محيلاً القارئ إلى رؤوس خلت، من بينها رأس عبيد الله بين زياد التي اقتطفت في معارك "ثأر الرؤوس" ما بين نسل علي ونسل معاوية، وأنصار كل منهما.
شهدي الشيوعي
وعلاوة على حكاية رأس الحسين المحورية في الرواية، هناك حكايات لرؤوس أخرى تدفع القارئ للنبش في التاريخ بحثاً عن حكايات أصحابها، من بينها رأس شهدي عطية، الذي قضى في سجون جمال عبد الناصر، انتصاراً لكرامته بعد أن رفض الإذعان لسجانيه، على الرغم من التفنن في تعذيبه ورفاقه من الشيوعيين، الذين ظلوا يؤمنون بعبد الناصر كرجل وطني رغم استبداده.
قتل شهدي عطية الشافعي تحت التعذيب في سجن أبو زعبل في 15 حزيران 1960 .. ووفق ما ذكر أحد شهود الحادث، د. أحمد القصير: بعد وصول شهدي إلى بوابة المعتقل تعرض لتعذيب وحشي واجهه بكبرياء، حين طلب منه أن يقول: "أنا مرة"، وهنا رد شهدي قائلا: "أنا شهدي عطية وأنت عارف".. في ذلك الموقع لفظ شهدي أنفاسه الأخيرة.
شاكر في العراق
إثر عودة بعض الجنود العراقيين من الكويت عقب احتلالها، وعند الحدود لفت أحدهم جثة رجل سمين مقطوعة الرأس بجانبها حقيبة .. استوقفته الجثة، لكنه أخذ الحقيبة وغادر المكان، ليكتشف أن بداخلها مظروفاً عبارة عن سيناريو لفيلم عن أحمد عرابي، كتب على صدره "يسلم ليد إقبال" .. يقع المظروف في يد شقيق الجندي المهتم بالسينما، وهو الذي هاجر بعد ذلك إلى دولة اسكندنافية، حيث تنطلق رحلة البحث عن إقبال بعد تسع سنوات حتى استقر بعد الفرار من حكم صدام حسين، ويتبدى له أن إقبال المصرية هي شقيقة الرجل السمين، إلا أن المظروف يصلها ولا يصل إليها هي التي تسبقه بالانتحار.
بلا أسماء
ومن بين حكايات الرؤوس، هناك حكاية العائد من الخليج بعد سنوات طويلة، جمع فيها مائة ألف دولار هي الهدف الذي رسمه قبل مغادرته مصر، لينتهي به المطاف مقطوع الرأس على يد زوجته وعشيقها سائق "التاكسي" الذي سبق أن اشتراه من باب "الاستثمار".
وهناك أيضاً حكاية رأس الفتى ذي الخمسة عشر ربيعاً، والذي أعد العدة وأصحابه لينضموا في رحلة إلى بورسعيد، وفي ميدان التحرير هبط من الحافلة رفقة اثنين من أصدقائه، وغابا بين جموع الثائرين يهتفون معهم أحياناً، ويهربون رعباً من القمع أغلب الوقت، حتى أصيب الصبي الذي لم يذكر اسمه بطلق ناري، وقضى.
صرخة بتقنية مبتكرة
الورداني، وفي "أوان القطاف"، يقدم عبر حكايات واقعية وأخرى مفترضة صرخة ضد الظلم بكافة أنواعه، وضد العنصرية أيضاً، فالحسين قتل لأسباب سياسية ودينية، وشهدي كما الرجل السمين ضحايا استبداد الأنظمة العربية، وكذلك الأمر الفتى ذو الخمسة عشر ربيعاً، والذي كان ضحية نظام وثورة لم تكتمل في آن، أما العائد من الخليج فكان ضحية تدهور واقع المنظومة المجتمعية، بلغة غير متكلفة وشيقة في آن، حيث التنقل المتقن ما بين حكايات الرؤوس مع العودة باستمرار إلى الرأس الأول.
وكان رأس الراوي، هو الراوي هذه المرة، في تقنية مبتكرة ولافتة تحاكي بغرابتها غرابة واقع قد يتوقف عليها في انعكاسات أحداث على فغر أفواه المتابعين لشاشات التلفزة عن القارئين للتاريخ بجبروت قاطعي الرؤوس والطغاة، وعن الرأس المعلق الذي يرى أن ما حدث معه في ثوان أفضل من "الصلم، والجدع، وتقطيع الأوصال، وجب المذاكير، وسلخ الجلد كما حدث لمحمد بن عبادة الذي أسر أيام الخليفة المعتصم بالله، أو ما حدث لأحمد بن عبد الملك عطاش صاحب قلعة أصفهان الإسماعيلية، حيث سلخ جلده حتى مات وحشي تبناً، أو ما حدث للفقيه الدمشقي أبي بكر النابلسي الذي لم يكتف الخليفة المعتز بسلخه وحشو جسمه تبناً بل أضاف إلى ذلك صلبه. فقدي لرأسي على هذا النحو أفضل أيضاً مما حدث لابن أبي نعواس، أحد قادة القرامطة، حين قلعت أضراسه أولاً، ثم خلعت إحدى يديه بشدها إلى بكرة متحركة، وفي الصباح قطعت يده الباقية ورجلاه، ورأسه، قبل صلبه إلى الجانب الشرقي من بغداد".
amm