"شغف" رشا عدلي .. العلاقة ما بين السياسة والفن في رحلة بحث ما وراء بورتريه
نشر بتاريخ: 2018-02-13 الساعة: 12:27رام الله- الأيام- حين حصلت على نسخة من رواية "شغف" للروائية المصرية رشا عدلي، والصادرة عن الدار العربية للعلوم (ناشرون) وهي من بين الروايات المتنافسة على الجائزة العالمية للرواية العربية (البوكر) 2018 بوصولها إلى القائمة الطويلة، بحثت عما كتب عنها، فوجدت أنها رواية لباحثة متخصصة في تاريخ الفن، تبحث في قرابة ثلاثمائة وسبعين صفحة عن حكاية لوحة.
للوهلة الأولى، خلتُ أن موضوع الرواية قد لا يجذبني، وقد يحمل شيئاً من الملل، لكني، ومنذ الصفحة الأولى، شعرت بأن الأمر مغاير، فالأسلوب الشيق كان من أبرز عوامل الجاذبية للرواية، فمنذ البداية استطاعت عدلي أن تحفز الأسئلة في مخيلتي، بعد أن كشفت عن أن شعر الفتاة صاحبة البورتريه في اللوحة القديمة آدمي مغطى بمادة أسمنتية ممزوجة مع لون الشعر، في اللوحة غير الممهورة بتوقيع فنان بعينه، وهي لوحة متهالكة، قدرت ياسمين، إحدى شخصيتين محوريتين في الرواية، وهي الخبيرة في تاريخ الفن، وتتقاطع في هذا التخصص مع الروائية نفسها، أن ذلك يعود لسوء ظروف تخزينها عبر الزمن.
البداية كانت من حيث الثورة المصرية في العام 2011 دون أن تذكرها، وذلك عبر حادثة حريق المجمع العلمي، حيث كان هذا البورتريه من بين القطع المراد ترميمها بسبب الحريق، من قبلها والخبير القادم خصيصاً لهذه المهمة من متحف اللوفر في باريس في العام التالي، إلا أنه، وبخصوص هذه اللوحة بالتحديد، لم يكن ثمة أية آثار تتعلق بخراب ناتج عن الحريق، حتى أن الخبير الفرنسي لم يسبق له أن تعثر بفنان على هذه الدرجة من الحرفية، "فريشته لا تشبه ريشة أي فنان"، والحديث هنا عن المجهول صاحب البورتريه، الذي يكتشف لاحقاً أنه رسام جاء على متن سفن نابليون بونابرت خلال الحملة الفرنسية على مصر في العام 1798، ويدعى ألتون جرمان، بعد رحلة بحث مضنية حول الفنان المغمور قسراً، والفتاة "مقصوفة الرقبة".
ولكن السؤال: لماذا لا يعرف خبراء الفن من هو ألتون جرمان، ولماذا ليس له إرث من اللوحات مذيلة أو ممهورة باسمه في المتاحف العالمية، رغم فنياته رفيعة المستوى، ومن هي الفتاة "نجمة البورتريه".
والإجابة التي تخرج بها الرواية، بعد أن تسير في خطين زمنيين متباعدين متوازيين، إلى أنه وقع في غرام زينب (مقصوفة الرقبة) ابنة الشيخ البكري، وهو من شيوخ الأزهر، نابليون بنفسه حين كانت في السادسة عشرة من عمرها، فعاملها معاملة خاصة، حيث ألبسها زي الأميرات الفرنسيات، وكشفت عن وجهها بناء على رغبته، على عكس المصريات في ذلك الوقت، هي التي أيضاً كان يرسل لها عربته الخاصة لاستضافتها حيث يقيم، وخاصة في الحفلات التي ينظمها لـ"علية القوم" من فرنسيين ومصريين.
اعتاد نابليون أن يجلسها إلى جانبه، ويداعب شعرها المسترسل، لفرط إعجابه به وبها، وفي ذات مرة طلب منها أن ترقص له، لكنه وإن لم يكن، وفق "شغف"، تجاوز حد مداعبة شعر زينب، إلا أن الجميع كان ينظر إليها كعشيقته .. هي نفسها كانت مبهورة بنابليون وقوته وشخصيته القيادية، ويعجبها واقعها الجديد، إلى أن وقعت في غرام الرسام ألتون جرمان، الذي بادل ذات الملامح الشرقية هذا العشق الممزوج بالشغف.
بعد العشق الجديد، تقرر زينب قصّ شعرها، لاعتقادها بأن هذا سيقلل منسوب إعجاب نابليون بها، وحدث هذا في حضرة ألتون، حيث اعتادا اللقاء في ظل شجرة تحجب عيون الناس، وعيون نابليون، عنهما، وهنا يحتفظ الفنان بشعر زينب، وكان قد بدأ رسمها سرّاً، فكانت خصل من كتلة الشعر هذه، جزءاً مخفياً في لوحته التي عثرت عليها الخبيرة ياسمين بعد أكثر من مائتي عام.
في عهد نابليون، كان أن تذهب فتاة مصرية إلى حيث هو بموافقة والدها، أمر معيب، بل باتت أمراً جللاً أن تكشف وجهها وشيئاً من جسدها، وترتدي لباس الفرنسيات، فباتت "سيرتها على كل لسان في الحي خشية"، لكن بشيء من "الغمز واللمز" خشية عقاب نابليون، أو غضب والدها الذي كافأه القائد الفرنسي مقابل منحه ابنته إياه، بأن أعلنه "نقيب الأشراف الجديد" بدلاً من الشيخ عمر مكرم.
وتغوص الرواية عبر البورتريه في تفاصيل تاريخية كثيرة تتعلق بحقبة الحملة الفرنسية، ومن قبلها حقبة المماليك، وانقسام المصريين ما بين مؤيد لنابليون ومعارض له ولحملته، ولكل مبرراته وأسبابه.
وكما سارت في خطين سرديين على مستوى الزمن، كان ثمة حكايتا عشق، الأولى ما بين زينب التي تقضي بـ"قصف رقبتها" أي إعدامها في ميدان عام، عقب انسحاب نابليون، وقرار المصريين التخلص من كل من تعاون معه، فكانت هي واحدة ممن طالهن هذا القرار، لكونها "عشيقته" كما كان سائداً، في حين أن ألتون جرمان رسام المعارك الذي تجاوز مهمته في رسم الانتصارات إلى تجسيد لوحات التوتر والغضب والحيرة لدى نابليون، أي اللحظات التي لم يكن عليه أن يوثقها كما ينطبق على الجيش .. جرمان، الذي لم يمجد نابليون في لوحاته، وسرق منه عشيقته، توفي متأثراً بمرض الطاعون ككثيرين فتك بهم المرض حين انتقلوا من مصر إلى بلاد الشام، مع أنه قضى آخر أيامه في القاهرة.
أما حكاية العشق الموازية والحديثة، فانتهت نهاية يمكن وصفها بالسعيدة، حيث تزوجت ياسمين، التي سبق وأن فجعت وشقيقتها بانتحار والدتها، بعد حالة من الاكتئاب اصابتها على اثر اكتشافها خيانة زوجها (والدهما) مع صديقتها المقربة، بشريف المهندس المعماري، والذي يواكب لهاثها وراء كشف لغز البورتريه، هي التي عاشت لفترة حالة حب متذبذبة معه.
خلال عملية البحث، اكتشفت على ظهر اللوحة، كلمة بالفرنسية تحمل اسم زينب، فخمنت أن اللوحة التي رسمت في أواخر القرن الثامن عشر تعود لفتاة تحمل هذا الاسم، وخلال البحث، ركزت على حقبة الحملة الفرنسية لكون تاريخ الرسم يعود إلى تلك الفترة، ولكون الأدوات المستخدمة في البورتريه، وهي عبارة عن مزيج من الرمل والملح كان من اختصاص الرسامين الفرنسيين المرافقين لبونابارت، اكتشفت أن هناك فتاة أعدمت على إثر علاقتها بنابليون تدعى زينب أيضاً، كما ورد خلال قراءتها لأحد المراجع التاريخية.
في فرنسا، وخلال مشاركتها في مؤتمر متخصص بالهندسة المعمارية، تتوجه بمساعدة بعض الأصدقاء إلى حيث مدير أرشيف التاريخ العسكري الفرنسي، وهو الذي أكد لها أن ألتون جرمان كان فعلاً من بين من ذهبوا إلى مصر في حملة نابليون، هو الذي لا معلومة عنه في مصر، لكون نابليون، وحين اكتشف بعد وفاة جرمان علاقته السرية بزينب، أمر ألا تعلق لوحاته في أي متحف أو تعرض في كتاب "وصف مصر"، ولذلك لم يعد ألتون جرمان موجوداً على خريطة الفن، وربما على خريطة الزمن أيضاً.
ومن الجدير بالذكر أنه في كتاب "مصر بين الرحالة والمؤرخين" لحمدي البطران، قيل إنه بعدما استقر الأمر بنابليون في مصر، قدم له حراسه ست فتيات مصريات، وجدهن بدينات، فقد كانت زوجته جوزفين نحيلة، لذلك اختار أقل الفتيات وزنا وأطولهن، وكانت زينب بنت الشيخ البكري، ويروي أن زينب البكري كانت توصف بأنها النسخة المصرية من زوجة بونابرت، لكنها لم تكن في مثل أنوثة وثقافة جوزفين التي خلبت لب نابليون بقدرتها على جذب انتباهه، لذا فقد أصابه سأم منها بسرعة، لأنها لم تكن تتكلم لغته.
لم يذكر المؤرخ المصري الشهير عبد الرحمن الجبرتي الذي واكب الحملة الفرنسية على مصر أن زينب كانت عشيقة بونابرت، ولكن الشائعات ربطت بينها وبينه لصلة والدها الشيخ البكري به، وكان ذنبها أنها تبرجت، حسب أقوال الجبرتي، ولبست الفساتين والمناديل الملونة والطرح الكشمير، وخالطت المجتمع الفرنسي.
بعد جلاء الحملة الفرنسية، بدأت معاقبة النسوة، ومنهن ابنة الشيخ البكري، ويروي الجبرتي أنه "في يوم الثلاثاء رابع عشرينه طلبت ابنة الشيخ البكري، حيث حضر معنيون من طرف الوزير إلى بيت أمها وأحضروها ووالدها، فسألوها عما كانت تفعله، فقالت إني تبت من ذلك، فقالوا لوالدها ما تقول أنت؟ فقال: أقول إني بريء منها، فكسروا رقبتها"، ومن هنا جاء وصف "مقصوفة الرقبة" الشهير في العديد من الدول العربية، ومنها فلسطين.
ويبدو أن الروائية رشا عدلي، ومن بين الكثير مما قالته بلغة وتصوير بارع في "شغف"، أرادت النبش عميقاً في العلاقة ما بين السلطة والفن، أو الحاكم والمثقف، فهناك من داهن نابليون ومجده وانتصاراته فبقيت ذكراه خالده بأمر القائد العسكري الفرنسي، وهناك من غضب عليه فحذفه من سجلات التاريخ، كما سجلات الفن .. هي إذن العلاقة الجدلية ما بين السلطة والثقافة، أو السلطة والفن.