عن منظمة التحرير
نشر بتاريخ: 2024-03-07 الساعة: 03:33د.عاطف ابو سيف
فتح الحوار الفصائلي في موسكو النقاش مرة أخرى حول دخول فصائل التيار الإسلامي في منظمة التحرير بعد أن ظلت خارجها بإرادتها منذ وجودها في العقود الثلاثة الأخيرة. بالطبع من الجيد أن يدرك الجميع ولو متأخراً بأن أي نضال وطني لا يمكن أن يكون أمراً خاصاً بتنظيم بعينه، ولا يمكن أن يكون مصير الشعب مربوطاً بقرارات حزبية، إذ إن ثمة مؤسسات جميعة للشعب الفلسطيني وحدها من تمتلك الحق في التقرير بشأن النضال العام. وفي الحالة الفلسطينية فإن منظمة التحرير كانت وستظل هي هذا البيت الجامع للفلسطينيين.
ربما يجب أن نحزن ان البعض اختار كل هذه السنوات أن يظل بعيداً عن البيت الجامع لكل الفلسطينيين، وأن نحزن على من سمح لنفسه أن يناقش في وحدانية وشرعية تمثيل المنظمة للفلسطينيين فيما العالم أجمع يتفق على ذلك. من فعل ذلك سمح بأن يكون جزءاً من تفتيت الشعب والإرادة السياسية. إذ إن الأساس ان يكون ثمة تمثيل سياسي واحد للجميع بغض النظر عن التنظيم أو الحزب، ففي ظل غياب الدولة وفي ظل غياب إنجاز مقاصد الكفاح الوطني فإن مؤسسات المنظمة شكلت مؤسسات يمكن للجميع أن يجد فيها ضالته من أجل أن يواصل الدفاع عن كفاحه. تماماً كما يحدث في بناء المؤسسات في الدولة الوطنية، فالحزب أو التنظيم السياسي لا يلغي الحاجة لوجود مؤسسة واحدة يستظل الجميع تحت سقفها ويقاتل الجميع في مؤسساتها من أجل الخير العام.
حين كنا أطفالاً كانت أهم الشعارات التي نهتف بها في التظاهرات الضخمة التي تجوب المخيم في المناسبات الوطنية تقول «بي أل او PLO وإسرائيل نو». وكانت مجرد كلمة بي أل أو PLO تستفز جنود الاحتلال فيلاحقوننا في الشوارع غاضبين لأن اسم منظمة التحرير يعني النقيض التام لكل الاحتلال ولوجوده، وهي الرديف الفعلي للحرية وللقتال من أجل استعادة البلاد. كنا أطفالاً وكان اسم منظمة التحرير سلاحنا الأهم في إغاظة الجنود واستثارة غضبهم. كان اسم المنظمة يُرهب هؤلاء الجنود، وكنا نشعر بالفخر أننا نستطيع أن نستفزهم ونستطيع ان نقلقهم ونقض مضاجعهم. كان ثمة شيء في اسم المنظمة يشعر الجنود بالرعب ويشعرنا بالقوة.
اسم منظمة التحرير علامة نضالية رسخت في عقول كل ثوار العالم في النصف الثاني من القرن العشرين، وارتبطت الأحرف الثلاثة باللغة الإنجليزية PLO في وعي أحرار العالم، ليس فقط بالنضال ضد الصهيونية بل أيضاً بكل النضال التحرري في العالم ضد كل قوى الظلام والاستعباد. فمنظمة التحرير جسدت الثورة التي نجحت في خلق نفسها من لا شيء إلا إرادة شعبها، ونجحت في خلق توازنات من المستحيل، ثورة الفينيق الذي ينهض من رماد الوجع والألم ومآلات النكبة. وللحظة لم يكن اسم منظمة التحرير ولا الأحرف الثلاثة التي تشير لها فلسطينياً فقط بل صار اسماً عالمياً، وبات مألوفاً أن يحمل المتظاهرون ضد الظلم في أي مكان آخر في العالم يافطات عليها الأحرف الثلاثة في إشارة إلى النضال والقتال في وجه كل قوى الطغيان. منظمة التحرير جعلت من نفسها قوة عالمية توازي القوى الكبرى في العالم، وجعلت من شعارها شعاراً لكل أحرار العالم. صحيح أن حرف «البي» P يشير لفلسطين لكنه الحرف أيضاً الذي يحمل أصعب نضال وكفاح في التاريخ المعاصر. فمنظمة التحرير لم تكن تقاتل دولة الاحتلال والحركة الصهيونية بل كانت تقاتل في وجه كل من كان يقف خلفهما ومعهما. فإسرائيل ربيبة الاستعماري العالمي وجدت دائماً من يدافع عنها ومن يزودها بالسلاح بشكل مستمر، وكانت تعيش على هذا الدعم اللامحدود من كل قوى الظلام والفساد في الكون.
بالتأكيد فإن جزءاً هاماً من كفاح منظمة التحرير كان نصرة كل الشعوب المضطهدة وكل البلدان الواقعة تحت نير الاحتلال أو الديكتاتوريات. المنظمة كانت عالمياً الرديف الحقيقي للنضال من أجل الحرية والتحرر، لذا كانت كل القوى الثورية التي لا تجد ملجأ لها لتدريب عناصرها أو مقراً من أجل شن كفاحها تحتمي بمظلة منظمة التحرير. كانت المنظمة واحدة من قوى العالم الوازنة بمعايير كثيرة، وكانت عنوان فخر لكل الفلسطينيين ولكل الثوريين في العالم. من خلال هذه المكانة التي جسدتها المنظمة نجحت في تأمين كل الدعم الدولي اللازم لنضال وكفاح شعبنا من أجل استعادة بلاده وانتزاع حريته واستقلاله.
لم تكن المنظمة مجرد تنظيم سياسي أو حزب وطني، بل كانت وطناً كبيراً ومظلة عريضة يجد كل فصيل فلسطيني تحته ما يريد، ويستطيع من خلاله التعبير عن أي فكرة يؤمن بها ويقاتل تحت لوائها وفق ما يعتقده من أفكار وايدلوجيات، لكن تحت سقف موحد يمثل شرعية الكفاح الوطني ووحدانية التمثيل السياسي. هكذا كانت المنظمة البيت الفلسطيني الجامع وما زالت لأنها الأقدر على أن تكون فلسطينية خالصة بدون أي إضافات وبدون أي أفكار. تحت مظلتها يترك الجميع أفكاره ويصير فلسطينياً، وحين يصير المرء فلسطينياً فإن مقاصد الكفاح التحرري تتوحد وتجد غاياتها في تحقيق تطلعات المواطن العادي لا الثائر المرهق بالأيدلوجيا والمثقل بالأفكار الكبيرة.
حين انطلقت «فتح» كانت منظمة التحرير موجودة. وحين انطلقت الجبهة الشعبية كانت منظمة التحرير موجودة. وحين انطلقت الجبهة الديمقراطية كانت منظمة التحرير موجودة. لم يسع أحد لنفيها ولا قال إنها لا تمثله رغم وجود بعض الأصوات التي كانت غير راضية عن بعض أدبيات وممارسات قيادة المنظمة في ذلك الوقت. بل إن دخول فصائل الثورة في المنظمة اعتبر إنجازاً حقيقيًا لفكرة الثورة. لم يتم هدم شيء بل تم البناء عليه من أجل أن يظل للفلسطينيين بيت جامع يضم الجميع.
هذا البيت هو ما يجب أن نحافظ عليه، وهو ليس بحاجة لاعتراف أحد حول شرعيته أو وحدانية تمثيله بل هو بحاجة لأن نكون فلسطينيين حقيقيين من أجل أن نفهم ذلك.