صورة من مشهد الموت والجوع والبرد والقهر في غزة
نشر بتاريخ: 2024-02-15 الساعة: 03:16د. احمد هشام حلس
قبل يومين، وفي تمام الساعة الثالثة بعد منتصف الليل وسط مدينة دير البلح، وقد كنت احاول النوم في غرفتي الواقعة في الطابق الثاني من منزل اتخذته ملاذا لي ولعائلتي بعد عودتي من مدينة رفح لدى بعض الأصدقاء الاعزاء في المدينة، وقد كان الطقس ماطرا والرياح عاتية والجو شديد البرودة، والقصف العنيف مستمرا في مناطق متعددة دون انقطاع، وصوت طائرات التجسس الحقيرة لا يفارق سماء المكان، ينخر رؤوسنا بلا توقف، عذاب نفسي وقلق وتوتر مقصود وممنهج، كجزء اساسي من الحرب النفسية التي تضاف الى مكونات العذاب المعاش في غزة هذه الايام, كل ذلك اصبح معتادا الى حد ما، الا ذاك الصوت شديد القسوة، الذي كان يصرخ في رأسي دون توقف، يناديني بلا تردد، حتى ايقظني من النوم، طفل صغير اخاله بين العام او العامين من العمر، كان يبكي بلا انقطاع، نحيب حزين حاد جدا، يخالطه الوجع والرجاء فيقتلك اذا القيت له اذنيك، حاولت النوم مرارا وتكرارا مع هذا النداء ولم انجح، وضعت على راسي الوسادة وسحبت عليهما الغطاء، دون فائدة، كان صراخه يتسرب عبر خيمة قريبة من منزلي الذي احيط بعشرات الخيام والمنازل المصنوعة من الاقمشة والنايلون، تلك الخيام التي تؤوي في باطنها كل اشكال الحزن والقهر والجوع والبرد واليأس والحرمان، خيام تلخص بين اقمشتها واضلاعها قهر يغطي الكرة الأرضية، خيام يختلط بتراب الأرض اسفلها سيل هادر من دموع النازحين المظلومين ودماء الجرحى المكدسين داخلها بلا علاج، خيام حيكت خيوط ستائرها وحبال اوتادها بكل الوان الألم والمعاناة، استمر الطفل بالصراخ دون توقف او انقطاع او حتى هدنة لإلتقاط الأنفاس، كان صراخه يصلني متسللا عبر الفراغات في النوافذ ومن تحت الابواب, لقد عذبني صوت ذاك الطفل لوقت طويل، حتى اتخذت القرار لوضع حد لهذا العذاب، فنهضت من فراشي الدافئ وجعلت ابحث عن ما اغطي به رأسي وجسدي، وبحثت في ارجاء المنزل عن كل ما يمكن تناوله سريعا، اخذت بعض الحليب والكعك المحشو بالتمر ولبن جاهز وغيرها، نزلت متجها حيث الخيام، امسك بيدي ضوء هاتفي ليريني طريقي عبر الوحل والحفر، وجعلت اسحب خيط الصوت نحوي من المصدر، حتى اهتديت الى خيمة ذاك الطفل الحزين، ناديت على اصحابها بالسلام عليكم، عرفوا فورا اني اقصدهم، فرد الرجل ب "تفضل"، عرّفتهم عن نفسي وطلبت منهم الإذن بالدخول، لقد سألتهم عن سر بكاء طفلهم، كان اسمه محمود، لقد فاجأتني الاجابات كما صدمني المشهد، كانت امه تبكي على حاله، واباه العاجز المرتبك يقف بجواري ولا يجد الاجابات، وجدت الطفل المنهار والمرتعش من شدة البرد في وضع لا يمكن وصفه، وقد تلخصت في تفاصيل وجهه البريء والمتسخ والملتهب من شدة البكاء كل اشكال الجوع والالم، كان وجه الطفل الشاحب جدا والبارد جدا يشي بحالة معقدة وعميقة من الإعياء الشديد، وسوء التغذية وفقر الدم، وضعف للمناعة والقشعريرة، كما انه يعاني من التهابات وتسلخات حادة في الجلد بسبب عدم استخدام الحفاضات ومواد التنظيف المفقودة من الاسواق والتي اصبحت اسعارها خيالية، لم يأكل محمود واخوانه منذ ايام، كما اخبروني، واباهم النحيل لم يضع في فمه الطعام منذ اسبوع، هكذا اخبرني وهو يحاول حجب دموعه عن ناظري، لقد اصابني الذهول حينها، ناولت محمود قطعة الكعك، فسكت فورا، واستمر بإلتهامها دون توقف وبتركيز مطلق، حتى اختلطت دموع محمود الطاهرة بفتات الكعكة في محيط فمه الازرق الصغير، طلبت من الرجل ان يشعل النار لنصنع لهم حليبا ساخنا علنا نمنحهم بعض الدفء والغذاء، ابستم محمود وانا احاول مداعبته، وقد اكل مع الكعك اللبن، فهدأت اعصابه، وطلبت بما تيسر لدي من اباه ان يؤمن لهم في الصباح بعض الطعام، وانسحبت من الخيمة بهدوء وقد ملأت الدموع الاجفان، والقلب يبكي على ما وصلنا اليه من حال، الناس يموتون في غزة من الجوع والبرد ان لم يموتوا من الصواريخ والقنابل، وآخرون يموتون من القهر والإهانة إن لم تقتلهم الطائرات والدبابات، فحال الطفل محمود هو حال آلاف الاطفال في غزة..... اوقفوا الحرب بأي طريقة.
mat