الوجه الآخر للحرب العدوانية على غزة
نشر بتاريخ: 2023-11-09 الساعة: 14:53
عبد الغني سلامة
تخيّل نفسك طبيباً أو مسؤولاً عن مستشفى، وقد تلقيت تهديداً بالإخلاء، وأنت تدرك صعوبة الأمر أو استحالته، ومسؤول عن حياة مئات المرضى والجرحى الذين ليس بوسعهم فعل شيء، هل ستحث من يستطيع على المغادرة، وتترك الآخرين أم تترك الجميع لمصير مجهول، أم تقرر البقاء وتتحمل مسؤولية اتخاذ قرار مصيري عن حياة أناس لم تشاورهم؟
تخيل نفسك أباً ومسؤولاً عن أسرة فيها أطفال ونساء وكهول ومرضى، وعليك اتخاذ قرار مصيري: أن تبقى في بيتك، أو تنزح مع النازحين.. في بيتك على الأقل يوجد مرحاض، ومطبخ، وبعض المؤونة، وسرير تنام عليه.. لكن بيتك معرضٌ للقصف في أي لحظة، وبالتالي ستموتون جميعاً.. أو تخرج من بيتك هائماً على وجهك، بحثاً عن أي مكان ستعتقد أنه أكثر أمناً، لكنكم جميعاً معرضون للقصف في طريق نزوحكم، ومعرضون للقصف في المكان الذي ستؤوون إليه.. وسيكون قرارك حداً فاصلاً بين الحياة والموت، وبين البيت والتشرد، فإذا قُتل أحد أفراد عائلتك أو كلهم سيعذبك ضميرك بقية حياتك، إذا بقيت لك حياة.
وحين تخرج من بيتك، ماذا ستحمل معك؟ صورك القديمة؟ ألعاب أطفالك؟ رسائلك الحميمة؟ مقتنياتك التي تعتز بها أم ستكتفي ببعض المعلبات وما خف وزنه من أغطية وملابس؟ وكيف ستلقي نظرة الوداع الأخيرة على بيتك وأنت موقن بأنها النظرة الأخيرة؟
وتخيّل نفسك وقد أمضيت كل عمرك تبني بيتك حجراً حجراً، أنفقت كل مدخراتك، وتخليت عن كل مباهج الحياة، وحرمت نفسك وأطفالك من متعها، جمعت قرشاً فوق قرش لتوفرها لبناء البيت.. وبعد سنوات طويلة من الانتظار، فجأة وبلمح البصر ينهار بيتك دفعة واحدة.. يذهب كل تعبك، وتموت أحلامك، وتنهار أمانيك.. ولا تجد عزاء إلا في نجاتك ونجاة أسرتك.
وتخيّل نفسك في مركز إيواء في الجنوب، يعج بمئات آلاف النازحين، وجميعهم فقدوا بيوتهم وممتلكاتهم، ولم يعد شارع ولا بيت في غزة إلا وطاله القصف، وقد نفدت المؤونة، وشحّت المياه، وأنهك الجوع الجميع، واستفحلت الأوبئة، وصارت الحياة جحيماً، وليس أمامك سوى الموت قصفاً أو جوعاً، أو مرضاً، أو قهراً.. أو النجاة بنفسك وبعائلتك واللجوء إلى سيناء.. هل ستترك أطفالك للموت؟ وهل يحق لك أن تقرر نيابة عنهم؟
من السهل على أيٍّ منا الحديث عن الصمود والبقاء، وتقبل الشهادة، والتضحية.. لكن "اللي إيده في المي، مش زي اللي إيده في النار".. كل خيار عبارة عن مقامرة كبرى.. فلا الدول العربية، ولا الشعوب الإسلامية ولا الأمم المتحدة، ولا المجتمع الدولي ولا أي أحد قادر على حمايتك.
الموت حق، وجميعنا سيموت، لكنْ ثمة فرق كبير بين موتٍ وموت، ومهما حاولنا تجميله بتسميات عظيمة، واستقباله بعبارات تلطيفية، يظل الموت قاسياً ورهيباً، لا أحد يحبه، ولا أحد يتمناه، الموت هو النهاية الحتمية لكل إنسان، على أن يموت كريماً، بين أحبته، ويحظى بعزاء لائق وجنازة محترمة ودفن كريم.. المشكلة حين يقترن الموت مع المهانة، مع إحساس عميق بالظلم والقهر والخذلان، حين تعيش لحظاتك الأخيرة منكسراً خائفاً مذعوراً.. حين يتشظى جسدك نتفاً وأشلاء، وحين تنتهي خنقاً ورعباً تحت الردم، وفوق صدرك طن من الإسمنت، حين يكون آخر ما تراه أفراد عائلتك حولك غارقين في دمائهم.. نهاية لا تليق بكرامة الإنسان.. حتى لو سمّيناها شهادة، هناك فرق بين شهادة مقاتل اختار درب الشهادة، وبين شهادة شاب كان مقبلاً على الحياة، وشهادة أمٍّ كانت تعد العشاء لأطفالها، وشهادة طفل لا يعرف معنى الشهادة، ولم يرَ من الحياة شيئاً، بل ورضيع كُتبت شهادة وفاته قبل شهادة ميلاده.
وبانتظار الموت وعلى أمل النجاة منه.. تخيّل نفسك بعد أن غادرت بيتك مع مليون ونصف المليون نازح، تسير في شارع كان بالأمس القريب يعج بالحياة والمارة والمحلات المضيئة وهي تقدم عروضاً مغرية للشراء.. فتراه أكواماً من الردم، حتى المشي يصعب فيه بعد أن امتلأ بالحفر والأنقاض وأكوام النفايات، تنظر يمينك ويسارك فترى العمارات الشاهقة التي كانت تضم عشرات العائلات، وقد تحولت إلى مقابر جماعية بعد أن انهالت فوق رؤوس ساكنيها..لا تعرف أتبكي على حال مدينتك المهدمة والخربة، أم تحاول النبش بيديك وأظافرك بين أكوام الإسمنت لعلك تعثر على ناجٍ مستغيث، أو تنتشل جثة شهيد، سيدفن في قبر جماعي باسم مجهول؟
ستصل مع عائلتك المنهكة إلى مدرسة للأونروا، ستجد قبلك أربعة آلاف نازح يتكدسون في غرف صفية ضيقة، وعليك العثور على ما تبقى من مساحة تبيت فيها أيامك القادمة.. ستصحو صباحاً، لن تفكر باحتساء كوب قهوتك، وسماع زقزقة العصافير، ستصحو على صياح الأطفال وبكاء الرضع.. ستقف ساعتين في طابور أمام مرحاض قذر، أو ستبحث عن بيت مهدم لتقضي فيه حاجتك، ثم ستقف في طابور آخر لساعات لتحصل على ربطة خبز ينتظرها أطفالك الجائعون، وطابور آخر لملء قنينة ماء مالح، وطابور رابع أمام مخزن الوكالة لتعود ببضعة معلبات تتعشى عليها مع عائلتك.
ستمضي نهارك البائس في سماع نشرات الأخبار، ستسمع كل ساعة اسم صديق أو قريب أو جار نال الشهادة، بعد مدة سيختلط عليك الأمر ولن تميز بين من مات ومن عاش.. وما إن يهبط الظلام حتى تبدأ معاناة من نوع آخر.. أصوات القصف، والطائرات المغيرة، والصواريخ والقذائف والانفجارات وبكاء الأطفال والرعب في عيونهم وارتجاج قلوبهم الغضة مع كل قذيفة.
لغزة صور متعددة، فيها قصص البطولة والفداء والمعنويات العالية واستبسال رجال المقاومة.. وهذه صورة أُخرى لا يلتفت إليها الناس، أو لا يعيرونها الاهتمام الكافي، لكنها صورة مكثفة للواقع دون تجميل، فهذه هي حياة الغزيين ومعاناتهم في كل حرب، وفي هذه الحرب تضاعفت أكثر.. بل وتزداد كل ساعة.
تخيّل نفسك في غزة وسط هذا الجحيم، وأمام هذه الامتحانات القاسية والصعبة.. هل ستنحاز لإنسانيتك وتطالب بوقف الحرب فوراً أم سيكون همّك نشر صورة مثيرة، أو كتابة منشور تبرئ فيه نفسك وتريح ضميرك وتحمّل المسؤولية للآخرين أو ستنتظر سماع خطاب ناري يرفع الأدرينالين في شرايينك؟