أهمية تصويب الإنجاز
نشر بتاريخ: 2023-10-08 الساعة: 17:38
مهند عبد الحميد
أعلن نتنياهو وأركان جيشه حالة الطوارئ والحرب، وعلى ضوء ذلك توجه مئات آلاف الجنود الإسرائيليين بدباباتهم ومدافعهم وتخندقوا في محيط القطاع. وسبقتهم الطائرات الحربية الإسرائيلية التي لم تبرح سماء القطاع منذ اليوم الأول 7 أكتوبر وقد أسقطت 100 طن متفجرات في يومين، وتناوبت على تدمير الأبراج والمنازل مخلفة حتى الآن اكثر من 500 ضحية جلهم مدنيون وخمسهم قاصرون. القيادة الإسرائيلية تتعامل بروح الثأر والانتقام غير المسبوق ردا على إخفاقها المدوي أمام هجوم المقاومة. روح عدائية هائلة عبر عنها نتنياهو بدعوته مليونين وربع المليون مواطن من القطاع لمغادرة بيوتهم وهو يعلم انهم لا يستطيعون ذلك بوجود حصار محكم الصنع، ما يعني تهديد حياتهم ووضع مصيرهم في المجهول. وإعلان وزير "الدفاع" الإسرائيلي يوآف غالانت عن عقوبات جماعية بحق المواطنين: نفرض حصاراً كاملاً على قطاع غزة، لا كهرباء، لا طعام ولا ماء ولا غاز... كل شي مغلق، ووصف الفلسطينيين بأنهم "وحوش بشرية ونتصرف بناءً على ذلك". وما يعنيه ذلك من تحلل مسؤول عسكري من قواعد الحرب. وغير ذلك من مواقف إسرائيلية تدعو إلى "إعادة قطاع غزة إلى العصر الحجري".
لماذا تفاجأت دولة الاحتلال وإدارة بايدن وكل المعنيين بملف الصراع الفلسطيني الإسرائيلي من الرد الفلسطيني العنيف؟ هذا الرد الذي أتى تتويجا لتحولات في الموقف الشعبي الفلسطيني، وتبدلا في الاستقطاب السياسي. واقع الحال أنه جرى استبعاد حل هذا الصراع من كل الاتفاقات والمعاهدات العربية الإسرائيلية بما في ذلك مشروع الاتفاق السعودي الإسرائيلي، ومن التفاهمات الإقليمية الأخرى بين إسرائيل وتركيا، وأيضا من اتفاقية ترسيم الحدود البحرية اللبنانية الإسرائيلية، وفي الوقت نفسه جرى التغاضي عن الفعل الإسرائيلي المنظم لتدمير مقومات حق تقرير المصير للشعب الفلسطيني - كالتغول الفاشي الاستيطاني، وجرائم قتل، وممارسة التطهير العرقي، وتهويد القدس، واستباحة المقدسات وبخاصة المسجد الأقصى، فضلا عن المحاولات المحمومة لكسر إرادة الأسرى، وقرصنة المقاصة. بالتوازي مع ذلك، جرى فرض حصار مالي عربي رسمي - مسكوت عنه - لم يعبأ مدبروه من تهديده لمؤسسات التعليم والصحة والشؤون الاجتماعية عنوان صمود المجتمع الفلسطيني. وعندما يتم تحويل القضية الفلسطينية من قضية تحرر وطني وتقرير مصير لشعب يقاوم منذ قرن إلى أحط أنواع التبخيس للحقوق الوطنية والمدنية الفلسطينية التي ترقى إلى مصاف إهانة شعب.
في غياب حركة وطنية ديمقراطية مستقلة، ذهبت المعارضة الفلسطينية إلى المحور الإقليمي الإيراني في سياق صراعه على تقاسم النفوذ الإقليمي، الذي التقط مظلومية الشعب الفلسطيني، دون أن يملك أو يدعم مشروعا وطنيا فلسطينيا قابلا للتحقق، فقط يقدم مشروع "تدمير إسرائيل"، المتقاطع مع حتمية زوال إسرائيل بحسب الإسلام السياسي وكلاهما يعلم أن التدمير والزوال في حكم اللافعل. الهدف الإيراني غير المعلن هو استخدام الورقة الفلسطينية للضغط ولتحسين مواقع وحصص النظام في الإقليم على المدى المباشر والمتوسط. وهذا يقود إلى التقاطع مع الرغبة الفلسطينية الشعبية الجامحة الباحثة عن منقذ - أي منقذ - في شروط متصاعدة للقهر والإذلال والاضطهاد الإسرائيلي. أو كما قال الصحافي الإسرائيلي جدعون ليفي، "وراء كل ما حصل التنكيل والغطرسة الإسرائيلية".
كان الرد الفلسطيني الأعنف والأشد هو اقتحام فصائل المقاومة بقيادة حركة حماس العائق من فوق وتحت الأرض الذي تباهت به إسرائيل، ودخلوا معسكرات للجيش وبلدات وكيبوتسات في غلاف غزة في الوقت الذي أطلقت فيه آلاف الصواريخ صوب المدن والمواقع الإسرائيلية في العمق. يقول الصحافي الإسرائيلي ناحوم برنياع في صحيفة "يديعوت أحرونوت"، "يوم 7 أكتوبر كان إهانة عظمى لم يشهد الجيش الإسرائيلي مثيلا لها، إهانة استخبارية، إهانة في سهولة دخول (حماس)، وإهانة في سهولة العودة بصحبة أسرى ورهائن، وإهانة في البطء الذي رد به الجيش على التوغلات". يضاف إلى ذلك فشل القبة الحديدية، ومنظومات التجسس الأحدث والأغلى عالميا، والقدرات الفلسطينية الرفيعة في التخطيط والتنفيذ والتنسيق بين مختلف الوحدات كما يحدث في الجيوش المتطورة.
لكن هذا العمل الاستثنائي، اعتورته ممارسات أفقدته مضمونه الإنساني التحرري، ممارسات يجري تداولها عالميا على نطاق واسع، وهي غير متداولة فلسطينيا وعربيا إلا في حدود ضيقة، بعضها عرض من خلال توثيق المقاتلين الفلسطينيين عبر اليوتيوب والصور، وكان لها أثر في انحياز دول وقوى ومؤسسات حقوقية مع دولة الاحتلال والتعامل معها كضحية. إن قتل مدنيين غير مسلحين ومسنين، أو أخذهم كرهائن، وإطلاق النار على حفل موسيقي يضم المئات من مختلف الأعمار، يخالف أولا ما دعا إليه القائد العسكري محمد الضيف في كلمة افتتاح الهجوم، "لا تقتلوا شيخا ولا امرأة ولا طفلا ...." ويخالف القانون الدولي الذي يعتبر قتل المدنيين عمدا جريمة حرب. وقد استخدمت هذه الانتهاكات أولا في تأمين غطاء سياسي دولي لاستباحة وتهديد مصير مليونين وربع المليون مواطن في قطاع غزة وعلى كل الفلسطينيين داخل وطنهم. وهذا ما عبر عنه نتنياهو ووزير جيشه والناطقون الإعلاميون. قد يقال، إن الغطاء الأميركي والغربي متوفر طول الوقت، نعم، متوفر، ولكن لم يكن الغطاء يشمل جرائم مفتوحة وحرية جيش الاحتلال في فعل ما يروق له. إن هدف العمل العسكري لا يكون بالانتقام لجرائم ارتكبها المستعمرون، ولا في تقليد جرائمهم. التفوق الأخلاقي هو العنصر الأهم في المعركة وهو الذي يجعل الرأي العام من دول وشعوب وقوى تحرر ومنظمات حقوقية تصطف مع المقاتلين من أجل حريتهم، ومع شعوبهم المناضلة. وثمة أهمية فائقة في تأمين الحماية للشعب الفلسطيني من خلال أداء وسلوكيات المقاومة أولا وقبل كل شيء. للأسف كانت أعمال القتل التي بُثت في وسائل الإعلام العالمية وانتشرت في أوساط واسعة وما زالت تنتشر وتوظف من آلة الإعلام الإسرائيلية وبعض الإعلام الغربي لها مفعول عكسي وخطير يهدد أمن وأمان الشعب الفلسطيني لذا ينبغي نقد كل خطأ وانتهاك ارتكب أثناء العملية والاعتذار عنه للرأي العام الذي كان دائما مع فلسطين. واعتبار الانتهاكات عملا فرديا يجري التحقيق فيه والمحاسبة عليه. ومن أجل إضفاء مصداقية على الاعتراف بالخطأ وتقديم صورة إيجابية عن الشعب الفلسطيني يفترض الإفراج الفوري عن المسنين والأطفال والجرحى، ذلك أن تصويب الإنجاز المقاوم من خلال الحفاظ على طهارة السلاح، يجعل لمثل هذا الإنجاز معنى.
الهدف السياسي للعملية يفترض أيضا ألا يقتصر على الانتقام والرد على جرائم إسرائيلية، الهدف ينبغي أن يضع أهدافا كوقف الاستيطان وعمليات التطهير العرقي وإزالة البؤر، والإفراج عن جثامين الشهداء، والإفراج عن الأسرى الأطفال والمسنين والمرضى، ووقف اقتحامات المسجد الأقصى، ودفع أموال المقاصة، وكل ذلك توطئة لتطبيق قرارات الشرعية الدولية الداعية إلى إنهاء الاحتلال.