وصمة عار جديدة في جبين السياسة البريطانية
نشر بتاريخ: 2023-08-30 الساعة: 12:35
المحامي إبراهيم شعبان
أضافت بريطانيا لسجلها وتاريخها الذي لا يغتفر بحق الشعب العربي الفلسطيني، خطيئة بل جريمة جديدة بحقه. فبعد وعد بلفور المشئوم الذي لم تعتذر عنه ليومنا هذا ولم تتحمل مسؤوليته ، وإعمال الأنتداب البريطاني على فلسطين بشكل موال لليهود، وقرار التقسيم رقم 181 لعام 1947 ، وعدم تحمل مسئوليتها المالية عن جرائمها، وعدوانها على قطاع غزة في العدوان الثلاثي على مصر عام 1956، وصياغتها الهزيلة لقرار رقم 242 لعام 1967 عبر مندوبها اللورد كارادون، ومعارضتها للرأي الإستشاري لمحكمة العدل الدولية في قضية الجدار لعام 2004 بل وتقديم مطالعة قانونية ضده، ورفضها تطبيق الولاية العالمية بشأن جرائم الحرب وضد الإنسانية على تسيبي لفني وزيرة الخارجية الإسرائيلية وغيرهم بل وتعديل القانون الذي يطالهم، وبدل أن تحث المحكمة الجنائية الدولية ومدعيها العام كريم خان البريطاني على ملاحقة الجناة الإسرائيليين لكونها عضو بميثاقها، وبدل أن تبادر الحكومة البريطانية بالإعتراف بالدولة الفلسطينية وتؤيدها في الحصول على عضوية الأمم المتحدة، بدل كل ذلك تقوم الحكومة البريطانية باعتبارها صديقة للكيان، بتقديم مطالعة مطولة تزيد عن أربعين صفحة ،رافضة فيه مسبقا أي دور لمحكمة العدل الدولية في الطلب الذي تقدمت به الجمعية العامة للأمم المتحدة لبيان الآثار القانونية والتبعات للإحتلال الإسرائيلي على الدول ألأخرى.
يبدو أن بريطانيا الإمبراطورية الإستعمارية التي كانت لا تغيب الشمس عن أراضيها، ما زالت تحن لدورها الإستعماري النافي للحقوق الشرعية للشعوب ومنها الشعب الفلسطيني وتتضامن معه. ومن هنا يبرز دورها المشبوه عبر تقديمها مذكرة مطولة لمحكمة العدل الدولية في لاهاي ترفض فيه الموضوع برمته، وتضللها فيه وتشوه الطلب بحد ذاته مع أنها ليست طرفا في النزاع أو في القضية. وكأن المثل العامي يقول بملء فيه " مين داعس على ذنبها " ينطبق عليها وعلى طلبها، يعني مش شغلها. علما بأنها كانت قد رفضت إحالة الموضوع لمحكمة العدل الدولية أبتداء، حينما صوتت ضده في الجمعية العامة للأمم المتحدة في الثلاثين من شهر كانون الأول من العام المنصرم.
على الرغم أن الحديث يجري عن رأي استشاري قانوني لمحكمة العدل الدولية، بشأن تبعات الإحتلال الإسرائيلي الطويل الأجل وليس عن حكم قضائي ملزم للمحكمة بشأن الأراضي المحتلة، أي أن الحديث يجري عن قرار غير ملزم وأثره أدبي ، إلا أن الحكومة البريطانية تأبى وتصر على ارتكاب الخطيئة وتسدر في غيّها وترفض بكل إصرار ، حتى مجرد أن يصدر رأي استشاري قانوني يبين آثار الإحتلال الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية المحتلة، ويكون مرجعا قانونيا إضافيا للقضية الفلسطينية وسندا حقوقيا لها.
حجة الحكومة البريطانية الصديقة للكيان، في مطالعتها بأن محكمة العدل الدولية في لاهاي في هولندا، ليس في قدرتها فحص الموضوعات الواسعة المعقدة بين الطرفين المتنازعين، وأن رأي المحكمة الإستشاري سيعقد الموضوع، وأنه سينسف المفاوضات وأنه غير مناسب. عذر أقبح من ذنب، نسي أو تناسى معد المذكرة البريطانية للمحكمة أن دور المحكمة الفصل في جميع المسائل التي تخص الأمن والسلم الدوليين والفصل في الموضوعات التي نظمها ميثاق الأمم المتحدة و/ أو المعاهدات والإتفاقيات النافذة.
سبحان الله، محكمة مؤلفة من خمسة عشر قاضيا من جميع أنحاء العالم، ممثلة لحضاراتها وقيمها ومبادئها، أوكل إليها ميثاق الأمم المتحدة حل المنازعات الدولية ( المواد 92 و93 و94 من ميثاق الأمم المتحدة )، تزعم بريطانيا أن هذه المحكمة الدولية، غير قادرة على حل هذا النزاع لطوله واتساعه وتعقيده. فمن يحله إذا يا مملكة يا متحدة. وما هو المرجع والسند لحل هذا النزاع أيتها البريطانية. هل هي القوة، هل هو الوعد الإلهي المزعوم، هل هي التوراة أو الكتب الدينية، هل هي القوة المالية، هل هي مبادىء المسيحية الإنجيلية، هل هي القدرة المالية، هل هو بياض البشرة، هل هو القبول بالشذوذ الجنسي أم ماذا. في المنازعات دائما وأبدا، تحل القواعد القانونية المنازعات الواقعية. أي أن مرجعية حل أي نزاع صغر أم كبر، داخلي أو دولي، مالي أسري مائي بحري ترابي جنائي، هو القواعد القانونية فقط لا غير وليست رغبات الأطراف ولا ميولهم. فلماذا لا تطبق هذه القواعد العامة على القضية الفلسطينية وأن تطبق بالمقابل على جزر الفوكلاند الأرجنتينية التي تبعد آلاف الكيلومترات عن الجزر البريطانية.
ميثاق محكمة العدل الدولية في لاهاي من ساعة إقراره بعد الحرب العالمية الثانية مباشرة، لم يترك أسس حل النزاعات الدولية لميل أو مزاج أو فلسفة أو في فراغ أو اجتهاد أو لون سياسي أو قوة عسكرية، ولم تعمل على تجاهله أو الإلتفاف عليه، بل واجهته وقننته في المادة 38 من ذلك الميثاق حينما ذكرت حصرا أن المعاهدات الدولية ومواثيقها والعرف الدولي وقواعد القانون الدولي ومبادىء القانون في الدول المتحضرة وكبار الفقهاء في القانون الدولي وقرارات المحاكم مصادر حل النزاعات الدولية.
وعليه لم يعد مقبولا أن تشكل السياسة البريطانية الآثمة أو الأمريكية البراغماتية، مصدرا لحل النزاع الفلسطيني الإسرائيلي مهما كانت قوة الدولتين. لكن من المقبول والمطلوب أن تشكل اتفاقية جنيف الرابعة لعام 1949 مثلا الزاخرة بقواعد القانون الدولي الإنساني المحايدة مصدرا لحل النزاع . إتفاقية غدت جزءا من القانون الدولي العرفي في العالم مرفوضة بنظر البريطانيين، بينما خرقها وخرق مبادئها وقواعدها وأساسياتها من الإسرائيليين والتي هي جرائم حرب، مقبول من البريطانيين. وكان على البريطانيين أن يقفوا بحزم وصرامة ضد الخروقات الإسرائيلية وفقا للمادة الأولى من هذه الإتفاقية التي صادقت عليها بريطانيا بل غدت جزءا من القانون البريطاني العرفي. كان يجب على بريطانيا أن تحترم وأن تضمن احترام هذه الإتفاقية بجميع الأحوال.
وعلى هذا المثال يجب أن يقاس، فمثلا ميثاق الأمم المتحدة،وإعلان الإستقلال والسيطرة على الموارد الطبيعية لعام 1960، وميثاق الحقوق المدنية والسياسية لعام 1966، وإعلان العلاقات الودية لعام 1970، وميثاق المحكمة الجنائية الدولية لعام 1998 هي قواعد للقانون الدولي في زمني السلم والحرب ، تأيدت بقرارات وأحكام محكمة العدل الدولية ومحاكم نورمبورغ وطوكيو لمجرمي الحرب وتم استرشادها بمؤلفات فقهاء القانون الدولي العام وحقوق الإنسان.
للأسف الشديد، مرّ خبر تقديم المذكرة البريطانية إلى قلم محكمة العدل الدولية بهدوء ودونما جلبة أو ضجيج أو إدانة، وحقيقة يجب أن لا يمر هكذا، حتى تعلم بريطانيا وغيرها من تلك الدول الرافضة لدور محكمة العدل الدولية أن هناك رايا عاما فلسطينيا وعربيا وإنسانيا، وهناك منظمات حقوق إنسان، وهناك شعوبا ومفكرون، يرفضون الدور البريطاني القميء حيال محكمة العدل الدولية. وكفانا تذللا وترحيبا برموز الدبلوماسية البريطانية والحج إلى سفاراتهم واستقبال مبعوثيهم.
يجب أن تحتج دول مهتمة بحقوق الإنسان الفلسطيني على الدور البريطاني المتزيد الممالىء للصهيونية، ونناشد الدول والمنظمات الدولية لحقوق الإنسان تقديم مذكرات لمحكمة العدل الدولية تؤيد حق المحكمة الدولية في إصدار رأي إستشاري حول التبعات القانونية للإحتلال الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية، فالمصيبة ليست في ظلم الأشرار بل في صمت الأخيار. فالعدالة الدولية لا تتجزأ، وعندما ينتهي القانون يبدأ الطغيان فالعدل قوام العالم!!!