اكرة ترى ما تريد
نشر بتاريخ: 2023-08-29 الساعة: 16:46
مهند عبد الحميد
في كتابه «غزاوي / سردية الشقاء والأمل» خلط الكاتب جمال زقوت بين لون السيرة الذاتية التي تفترض أن يتحدث عن حياته ويستعرض تفاصيلها الدقيقة ومنجزاته وأخطائه في سرد مفصل، وبين لون المذكرات التي تستعرض أحداثاً معينة عاشها الكاتب ولعب فيها دوراً ملموساً، ويكون التركيز أقل على الذات وأكثر على الآخرين. البعض يعتمد على ذاكرته الشخصية التي تحتمل تجاهل أشياء او عدم قولها بدقة وافتقاد الموضوعية. والبعض الآخر يعتمد على مستندات ووجهات نظر متعددة. وفي الحالتين ثمة آداب يفترض مراعاتها « كالدقة في عرض الأحداث والمواقف، وعدم المبالغة في تعظيم الأشخاص أو التقليل من شأنهم. في كل الأحوال فان السيرة والمذكرات لا تُعامل كالبحث والدراسة لجهة التوثيق والتحليل، لكن هذا لا يعفي أصحابها من المساءلة حول الصحة والدقة والمغالطة في القضايا العامة المشتركة والمواقف، ويجوز ايضاً الاتفاق والاختلاف حول رأي صاحب السيرة في تلك القضايا.
كل ما عرضه جمال زقوت عن حياته الخاصة وعن أسرته ومعاناتها وتضحياتها في المراحل المختلفة، يندرج في إطار الملكية الخاصة وهو حر في مستوى البوح الذي قدمه. وفي الوقت نفسه عندما يقدم الكاتب يومياته «كشهادة في رواية شعب» كما ورد في الكلمات الاولى. فإن كل تباين مع السردية يكون مشروعا لطالما يوجد أكثر من رأي وتحليل ومرجعية ومعلومات ومعارف ومنظومة قيم.
لا تزال مذكرات وسير ذاتية لها حضور قوي، ولا أبالغ في القول ان «خارج المكان» لإدوارد سعيد «والبئر الأولى» لجبرا إبراهيم جبرا «ورحلة جبلية» لفدوى طوقان، ومذكرات بهجت ابو غربية وصبحي غوشة، هذه النتاجات رفعت السقف في الحكم على السير اللاحقة. قد لا يعقل المقارنة بين خارج المكان بما هي سردية محملة بثقافة إدوارد سعيد الموسوعية، ومقرونة بتواضعه العلمي والمعرفي، وبجرأته في نقد الذات. ونحن بصدد سيرة «غزاوي» من حق القارئ ان يسأل عن الفائدة التي جلبها له كتاب «غزاوي» المنسوب لكاتب وضع لنفسه دوراً عملياً يرقى الى مستوى قيادي فلسطيني أول بل واكثر، ومن موقع يساري ايضاً. ينتقد زقوت قيادة ياسر عرفات وقيادة الجبهة الديمقراطية وحزب الشعب، والنقد واجب ولكن ما هي طبيعة النقد؟ لقد قدم تقييماً للماضي خلا من نقد المضمون، خلافاً لما استخلصه البعض بأن الحركة الوطنية عجزت في «ضمان تمفصل البعدين الوطني والاجتماعي، وفشلت في بناء مؤسسة وطنية حقيقية، واستعاضت عنها بولاء أفراد وعائلات وجهويات. صحيح ان الحركة السياسية في الداخل والخارج نقلت الانتفاضة الشعبية الكبرى من الحالة العفوية الى الحالة المنظمة من خلال طرح أهداف قابلة للتطبيق، ولجان شعبية وقيادة موحدة، وكل ذلك ساهم في فك الارتباط عن إدارة الاحتلال بعد سلسلة من النضالات التي قادت الى انهيار جهاز الشرطة والعملاء والامتناع عن دفع الضرائب، وبذلك حققت الانتفاضة مستوى من العصيان المدني. هذا الانجاز الكبير تعرض الى ضغوط الاحتلال الهائلة – تكسير عظام واعتقال اعداد كبيرة من الجهاز الاداري للانتفاضة وابعاد كوادره. ظل جمال زقوت يراوح في هذه المرحلة، بل تجاهل التحولات الداخلية اللاحقة، وتجاهل التحولات التي تسببت بها حرب الخليج 91 لاحقا. كان عنوان التحول هو العسكرة وفرض نظام اخلاقي صارم – فرض الحجاب ومنع الاختلاط، نظام يعود للإسلام السياسي وقد تبنته تنظيمات اخرى. كبديل عن العمل لتفادي الضربات الاسرائيلية والحفاظ على الانجاز وبقاء مهمة الخلاص من الاحتلال في مركز الفعل. طغى استخدام العنف داخل المجتمع على النضال ضد الاحتلال، وتراجعت القوى السياسية الى حد الفشل في مواصلة تعبئة المجتمع. ما أتاح عودة القوى التقليدية التي ساهم الكاتب في تبييض أحد اهم رموزها في قطاع غزة. حقاً لم يول أهمية لخطر الإسلام السياسي والتحولات الرجعية التي قادها وفرضها داخل المجتمع. وعندما يتحدث الكاتب عن القضية الاجتماعية ويقول لم يخرج في مخيمات غزة حركة اجتماعية واحدة تطالب بتوفير الحد الأدنى من الحياة الإنسانية للاجئين. وفي احسن الاحوال يتحدث في سطر عن ربط الوطني بالاجتماعي. لم يطرح تحرراً اجتماعياً ومن ضمنه تأمين الشرط الانساني للاجئين. وهنا لا توحي ذاكرة الكاتب بانه ينتمي الى فكر يساري يربط التحرر الوطني بالتحرر الاجتماعي، وهو غير معني بالفكر المضاد للتحرر والتنوير والحداثة.
ويقع الكاتب في مغالطة من الوزن الثقيل حين يقول: «يعد بروتوكول سجل السكان الذي فاوضت بشأنه شخصياً بروتوكولاً متقدماً، إذ كتب أحد الباحثين في شؤون السجل أنه أقل من دولة بقليل» ومع ذلك تمت إزاحتي عن الملف بهدف احتكاره لأغراض شخصية»، واقع الحال ان دولة الاحتلال بقيت تتحكم في السجل المدني بكل تفاصيله وبمستوى أقل من حكم ذاتي بكثير.
ومغالطة أخرى ص 153 يقول إن تصفية القوات السورية كان هدفاً رئيسياً إن لم يكن الهدف الرئيسي لحرب 82. وهذا يتناقض مع اتفاق وقف إطلاق النار بين سورية والدولة الغازية بعد 6 ايام من الحرب، وباستثناء مشاركة جيش التحرير الفلسطيني وبعض الضباط السوريين تعاطت القوات السورية المحاصرة في بيروت مع وقف اطلاق النار. وبحسب كريم بقرادوني الذي رافق بشير الجميل قبل الغزو في جولة الى عواصم عربية بما فيها دمشق، أخبرها بنية اسرائيل إخراج قوات م.ت.ف من لبنان، والتي عبرت عن تفهمها – فيلم وثقائي -. وقدر الكاتب عدد ضحايا مجزرة صبرا وشاتيلا بـ 3000 ضحية. يتباين عدد الضحايا بين 800 ضحية و4 آلاف، وكان الرقم الأقرب الى الدقة هو الرقم الوارد في كتاب صبرا وشاتيلا للباحثة بيان نويهض الحوت وهو 1300 ضحية استخرجته بمقارنة 17 قائمة.
منذ عام 1982 أغلقت كل الحدود العربية، وانتقل مركز ثقل النضال الى فلسطين، وتوجت الانتفاضة الكبرى هذا الانتقال. مسألة الهيمنة على الداخل مرتبطة بالمركزية الشديدة للمستويات الأعلى القائد الأعلى والأمين العام والمكاتب السياسية، الهيمنة مرتبطة بغياب الديمقراطية وسيادة بيروقراطية سلطوية أبوية، ولا يمكن اختصارها باستقلال القيادة الوطنية الموحدة وكأنها ليست إفرازاً تنظيمياً خالصاً كما فعل الكاتب في الصفحة 264.
في معظم السرد يغلب الكاتب أناه على الشركاء، عناقيد العنب قدمها طفل لبناني له فقط وليس لجميع المبعدين، وفي جولات المبعدين في صيدا والبقاع وطرابلس يتحدث ولا يتحدثون، يرفع معنويات نايف حواتمة – مزحة أبو العز، ويتعمد عرفات إظهار اهتمامه الشخصي به، يلتقي مع حركة حماس لإبلاغهم باتفاق أوسلو، وكان عليه ان ينقل الى الأخ ابو عمار موقف حماس وكأن تنظيم فتح اختفى، وينقل الى زكريا الآغا وفريح ابو مدين دعوة القيادة لهما للمشاركة في الاجتماع، ويدخل على القاعة التي يتواجد فيها عرفات وعبد ربه ويبدو كأنه قطع عليهما حديثهما، يكتب بيان القيادة الوطنية الموحدة رقم 2، يشارك في مفاوضات طابا ويتجاهل مسؤوله التنظيمي، والحديث يطول، يبقى عنوان الكتاب «غزاوي»، الذي يعني الانتقال من الهوية الوطنية الجامعة التي عبرت عنها الثورة وعبر عنها صلاح خلف في كتابه «فلسطيني بلا هوية» الى الهوية الفرعية الجهوية والعائلية والقبلية.