هزال الديموقراطية الإسرائيلية!
نشر بتاريخ: 2023-07-27 الساعة: 07:34
المحامي إبراهيم شعبان
ما انفكت وسائل الإعلام الإسرائيلية من مسموعة أو مرئية أو مقروءة تشيد بالديموقراطية الإسرائيلية الفريدة، وتتغنى بها في ساحة التسلط العربي والحكم الفردي. ورافق ذلك موجة عارمة في الإعلام الغربي يشيد بالديموقراطية الإسرائيلية، مع تأييد سياسي غربي جارف للمستعمرة الصهيونية التي أقيمت على الأراضي الفلسطينية.، مما شجع على أتهام أي شخص أو جهة توجه النقد للتصرف الإسرائيلي بالعداء للسامية.
هذه المقولة الشائعة انهارت في الأيام الأخيرة بعد أن تبنى الكنيست الإسرائيلي، قانونا لتحجيم اختصاصها، ومنع المحكمة العليا الإسرائيلية من التصدي للقرارات الصادرة عن الحكومة الإسرائيلية أو عمالها على أي صعيد، بل اعتبرتها محصنة لا تقبل أي طريق من طرق المراجعة، بحجة أن الحكومة الإسرائيلية منتخبة من قبل الشعب، وأن المحكمة معينة تعيينا، ولا يستطيع المعين أن يقف في وجه المنتخب ولا في وجه تحقيق أهدافه، بل عليه أي المعين وهو المحكمة هنا أن تخلي السبيل وتفتح الطريق أمام المنتخب من قبل الشعب، وهو الحكومة هنا ووزرائها، لأنه في النهاية هذه إرادة الشعب المالك لكل السلطات الثلاث التنفيذية والتشريعية والقضائية.
والحقيقة أن مقولة الديموقراطية الإسرائيلية مقولة زائفة، لا تصمد أمام القواعد القانونية والسياسية المقبولة عالميا وصيغت في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان وميثاقي عام 1966 للحقوق المدنية والسياسية والإجتماعية والإقتصادية والثقافية. وفي أوقات النزاع المسلح، تغدو هزيلة بالمقارنة مع ما تضمنه القانون الدولي الإنساني وبخاصة إتفاقتي لاهاي الرابعة لعام 1907 وإتفاقية جنيف الرابعة لعام 1949، والعرف الدولي والقضاء الدولي في محاكمات نورنمبورغ وطوكيو بعد الحرب العالمية الثانية. وجاء ميثاق روما لعام 1998 تأكيدا لها عندما أنشأ المحكمة الجنائية الدولية.
يعتقد الكثيرون إما جهلا أو سذاجة أو انجرارا وراء لهيب الرأي العام ووسائل الإعلام المختلفة والمتعددة، أن مجرد إجراء الإنتخاب يحقق الديموقراطية. وهذا كلام فيه لغط كثير، ذلك أن الإنتخاب هوالوسيلة الديموقراطية الوحيدة الشكلية لتولي السلطة السياسية في أي بلد بعد أن عجزت الوسائل الأخرى مثل الإنقلاب والثروة والعائلة لتكون وسيلة مشروعة لتولي السلطة السياسية، لكن اركان الديموقراطية أمر أخر مختلف كليا .ومن هنا تم الخلط بين الديموقراطية والإنتخاب، فالأخير وسيلة يوصل من انتخب لتولي السلطة السياسية بشكل مشروع، أما الديموقراطية فهي مجموعة قيم قررها علماء السياسة والقانون لجميع سكان الأرض مع اختلافات بسيطة هنا وهناك.
يقف على رأس هذه القواعد مبدأ الفصل بين السلطات. فمن المتفق عليه أن لكل دولة في هذا العالم المديد سلطات ثلاث أو (سلط ثلاث كما يقولون في المغرب العربي)، وهي السلطة التشريعية والتنفيذية والقضائية. وكل سلطة من هذه السلط لها اختصاص محدد، لا تخرج عنه ولا تستطيع أن تضيف عليه إلا بتعديل الدستور فيها. فمثلا لا تستطيع أي سلطة أن تعتدي على سلطة أخرى وإلا أصبحنا في غابة يأكل القوي الضعيف. والقوي هنا هي السلطة التنفيذية التي تملك المال والجيش والأمن والموظفين وحتى وسائل الإعلام. وبالتالي تستطيع السلطة التنفيذية محاصرة السلطات الأخرى التي لا حول لها ولا قوة وتقييد صلاحياتها بل وابتزازها. وهذا ما حصل أخيرا في تشريعات الإصلاح القضائي الإسرائيلي. فعلى الرغم من الموقف القضائي الإسرائيلي المهادن والمؤيد للإجراءات الإسرائيلية الحكومية والعسكرية بالداخل والضفة الغربية وقطاع غزة، إلا أن الأمر الأن خرج عن هذا الأمر المتعارف عليه، ليحاصر اصحاب الرأي المخالف للحكومة الإسرائيلية وطالهم. وغدت صلاحية المحكمة العليا الإسرائيلية مقيدة بالنسبة لقرارات السلطة التنفيذية، وكأن قرارات الحكومة الإسرائيلية غدت محصنة ضد أي طعن بها. وبالتالي غدا مبدأ الفصل بين السلطات أثرا بعد عين، وبالتالي تستطيع السلطة التنفيذية الإسرائيلية ان تقيس وأن تفصل على مقاسها ووفق رغباتها وهذا ما بدأت عمله حينما ألغت ما يسمى بحجة المعقولية.
وهذا يشكل هدما واضحا لما درج على تسميته بالديموقراطية الإسرائيلية الداخلية، أما الديموقراطية الإسرائيلية تجاه المواطنين العرب وتجاه أهل الضفة الغربية وقطاع غزة فلم توجد أصلا منذ أن تم احتلالها عسكريا من قبل قوات الإحتلال الإسرائيلي.
تؤكد أنظمة الدولة القانونية على ضرورة وجود دستور ليقرر الحدود بين السلط الثلاث ولحماية الحقوق والحريات الفردية لتحقيق الديموقراطية. ويعتبر الكيان من التجمعات السياسية القليلة في هذا العالم الذي لا يوجد به دستور على الرغم من مرور أكثر من سبعة عقود على تأسيسه بينما الولايات المتحدة سنت دستورا منذ قرنين ونصف من الزمان تقريبا. والأمر لا يحتاج لتفكيركثير، فالديموقراطية الإسرائيلية لم ترغب في أن يتمتع المواطن الفلسطيني العربي بمزايا الديموقراطية لذا لم تسع بشكل جاد لرسم دستور لهذا التجمع الجديد، رغم أن جميع التجمعات السياسية الجديدة في هذا العالم أقدمت كخطوة أولى بعد استقلا لها على وضع دستور يرسم ديموقراطيتها ونظامها السياسي. لكن الديموقراطية الإسرائيلية أبت أن تفعل ذلك، حتى يبقى فلسطينيو الداخل أسرى لأنظمة الطوارىء لعام 1945 ولا يقتربوا من حقوقهم المدنية والسياسية والإقتصادية والإجتماعية والثقافية، ولا من إنجازها.
تتهم إسرائيل وبحق بأنها دولة تمييز عنصري ، وهذا الإتهام بحد ذاته كفيل أن يهدم زعم الديموقراطية الإسرائيلية جملة وتفصيلا ويقوضه بالكامل. ويبدو أن الكيان حاول أن ينفي هذا التمييز العنصري بانضمامه لميثاقي الحقوق المدنية والسياسية لعام 1966 ولميثاق حظر التعذيب لعام 1984. لكن هذا الإنضمام لم ينف حقيقة التمييز العنصري الإسرائيلي بل كان وسيلة لذر الرماد في العيون. فإلقاء نظرة متفحصة على قضايا التخطيط الحضري والتنظيم والإسكان والميزانيات والصحة والتعليم تبرز تمييزا عنصريا فاضحا تجاه المواطن العربي الفلسطيني. وفي قضايا تحمل خطورة تتعلق بالحريات والرأي والتنقل والزواج والأطفال والأرض والعقار يبرز التمييز العنصري بشكل أوضح. ولعل ما يجري من قتل في المجتمع العربي في الداخل الفلسطيني وعدم تحرك قوى الأمن الإسرائيلي لوقف هذه الظاهرة التي يشارك فيها عملاء الديموقراطية الإسرائيلية أمر يدعو للتساؤل . ومن مظاهر الديموقراطية الإسرائيلية منع الحب بين الفلسطينيين ومنع لم شملهم وأطفالهم وأسرهم في قانون قميء يجدد سنويا في طاهرة ديموقراطية إسرائيلية حقة. أما موضوع التعذيب الذي أسمته المحكمة العليا الإسرائيلية ضغطا جسمانيا معتدلا وكأنها تنسق الموضوع مع أجهزة الأمن الإسرائيلية لتمريره وإجازته تجاه المواطن الفلسطيني قضية بحد ذاتها تثبت بدون أدنى شك هزال الديموقراطية الإسرائيلية.
والمشكلة أن الكيان وافق وصدق على هذه المواثيق الدولية التي تحظر خروقات حقوق الإنسان وهي تمارسها قلبا وقالبا.
الديموقراطية الإسرائيلية شرعت وأجازت الإستيلاء على الأراضي الفلسطينية المحتلة، ومولت قيام المستوطنات بل قدمت لها تسهيلات مالية وضريبية ولوجستية. فكيف لديموقراطية أن تقوم على احتلال أرض الغير وأن تقبل هذه الديموقراطية أن يستمر الإحتلال لخمسة عقود ونصف ,وأن تسيطر على شعب أخر بل وأن تستعبده في عمل رخيص وقيود زمانية ومكانية. أليس الإحتلال مؤقتا بطبيعته ووفق مواثيقه. أليس إنشاء المستوطنات والتخطيط لها وتمويلها وسكنها جريمة حرب وخرق فاضح لقواعد القانون الدولي الإنساني الذي هو ركن من أركان الديموقراطية. وهل يعقل أن تتبنى المحكمة العليا الإسرائيلية نهجا يخالف محكمة العدل الدولية في رأيها الإستشاري بشأن الجداربدل أن تحترمه. وهل تجيز الديموقراطية من خلال تمييزها العنصري أن يكون بعض القضاة الإسرائيليين مستوطنين وسكان المستوطنات وأن لا يتمتع الفلسطينيون بأراضيهم وحرياتهم.
إن كانت هناك ديموقراطية في إسرائيل فلماذا لا تنضم للمحكمة الجنائية الدولية في لاهاي كما تفعل الأنظمة الديموقراطية في العالم. لماذا لا تقبل وفود الأمم المتحدة للتحقيق في جرائم إسرائيلية كثيرة منها مقتل شيرين أبو عاقلة.
لماذا لا تخصص أراض للجيل الشاب في المناطق العربية. لماذا لا توقف نزيف الدم العربي حماية للحق في الحياة والسلامة الجسدية. لماذا لا تحترم الحرية الدينية للمسلمين في المسجد الأقصى وقبة الصخرة وألأماكن الدينية لجميع الفلسطينيين.
معول الهدم اليميني الإسرائيلي لهدم الديموقراطية الإسرائيلية المحدودة الخاصة بالإسرائيليين على وجه الحصر، طال هذه المرة معقلا أعتقد أنه بمنأى عن المساس به ألا وهو المحكمة العليا الإسرائيلية التي لطالما عانى منها الفلسطيني ومن قضائها وقضاتها. ويبدو أن الحبل على الجرار وسلسلة تشريعية إسرائيلية قادمة ستجعل من القضاء الإسرائيلي أداة طيعة في يد جهة سياسية ويفقده حياده واستقلاله، وتجعل الديموقراطية الإسرائيلية المزعومة أثرا بعد عين!!!